جذبت نبتة الكمأة أو فطر الفقع الناس منذ قرون طويلة. وعلى الأرجح أن سحر هذه النبتة الغريبة يكمن في رائحتها أو أريجها الذي لا يقاوم. ولطالما كان تاريخ هذا اللؤلؤ الأسود والأبيض من الأرض مليء بالغموض والخرافات، كما يقول البعض. ولا يتوقف الأمر على الأريج، حيث إن الكمأة من أغلى أنواع الفطر والمآكل لعدة أسباب، أولها أنه نادر وينمو وحده وتصعب زراعته، ويصل سعر الكيلو الواحد أحياناً إلى 10 آلاف دولار.
أنواعه
هناك كثير من أنواع الكمأ، الأبيض والأسود والرمادي والبني وغيرها، لكن الكمأ الأبيض أكثر ندرة من الكمأ الأسود الذي يأتي معظمه من إيطاليا وفرنسا وكرواتيا. ويصل عدد الأنواع إلى 70 نوعاً، 32 منها في أوروبا وحدها. وتذكر الموسوعة الحرة من أنواعه العربية: الزبيدي الكبير الحجم المائل إلى البياض، والخلاسي (الخلاص) ذات اللون الأحمر «وهو أصغر من الزبيدي، وفي بعض المناطق ألذ وأغلى في القيمة من الزبيدي»، وهناك أيضاً نوع الجبي (الجبأة) ذات اللون الأسود - الأحمر الصغيرة الحجم. ومن أردأ أنواع الكمأ الهوبر الأسود اللون، فهو من الأنواع التي تظهر عادة قبل ظهور الكمأة الأصلية، وهو يدل على أن الكمأة ستظهر قريباً.
أين تنمو
يتم العثور على هذا الفطر إلى جانب الجذور الحية من أشجار الكستناء والزان والحور والبلوط والبتولا والبندق والصنوبر والقرنبيط. وعادة ما تفضل نبتة الكمأة التربة الجيرية أو الكلسية والطينية أو القليلة الأملاح التي تسمى «دمثة»، وتعني: اللينة. ويمكن العثور عليها على مدار العام، وعلى أطراف أكوام القمامة أحياناً.
وبمجرد العثور على الكمأة، يتم وضع جزء منها مرة أخرى في أرض معينة لزيادة كمية المحصول. ويُعرف عن الكمأ أنه سرعان ما يفقد الماء، ويتبخر بمجرد الكشف عنه من التربة. ولمكافحة الأمر، يتم نقل الكمأة بسرعة كبيرة إلى المكان المفترض أن تذهب إليه للحفاظ عليها فترة طويلة قبل أن تجف وتذبل وتتبخر.
الكمأ الصحراوي
وبالإضافة إلى فطر أو كمأة الغابات، هناك كمأة الصحراء. وتقول الموسوعة الحرة في هذا المضمار إن الكمأ أو الفقع هو اسم لعائلة من الفطريات تسمى الترفزية - Terfeziaceae في اللاتينية، وهو فطر بري موسمي ينمو في الصحراء بعد سقوط الأمطار... تحت الأرض. وعادة ما يتراوح وزن الكمأة من 30 إلى 300 غرام، ويعتبر من ألذ وأثمن أنواع الفطريات الصحراوية.
وتنمو الكمأة على شكل درنة البطاطا في الصحاري، فهو ينمو بالقرب من نوع من النباتات الصحراوية قريباً من جذور الأشجار الضخمة، وشكله كروي لحمي رخو منتظم، وسطحه أملس أو درني، ويختلف لونه من الأبيض إلى الأسود، ويكون في أحجام تتفاوت وتختلف، وقد يصغر بعضُها حتى يكون في حجم حبة البندق، أو يكبُر ليصل لحجم البرتقالة.
أماكن الانتشار
يوجد عادة في المناطق الصحراوية أو شبه الصحراوية في منطقة البحر الأبيض المتوسط والشرق الأوسط والمغرب وليبيا وتونس والجزائر في شمال أفريقيا، وينمو بكثرة في السودان ومصر وفلسطين والخليج العربي، وبالتحديد في السعودية والكويت، والأنبار غرب العراق، وبادية السماوة جنوب العراق، وبلاد الشام، خصوصاً في السخنة القريبة من تدمر فيما يعرف ببادية الشام. ويعتبر الكمأ الموجود في السخنة وما حولها من أجود الأنواع في العالم. ويعرف مكان الكمأة إما بتشقق سطح الأرض التي فوقها أو بتطاير الحشرات فوق الموقع. وينمو في فرنسا وإيطاليا، كما ذكرنا، وفي إيران، وبالتحديد في مدينة يامتشي (یامچی).
الخرافة
لطالما أحيطت هذه النبتة بالخرافات والأساطير، ولطالما اعتقد الناس أنها بزغت من الأرض بعد ضرب البرق. ووفقاً لأسطورة أوروبية، فإن أحد المزارعين شاهد خنزيره يحفر في جذور شجرة، ويأكل ما يجده من الفطر هناك. وبعد أن اطمأن المزارع أن الخنزير بقي بصحة تامة، جرب الفطر بنفسه وتمكن لاحقاً من إنجاب 13 طفلاً، بعد أن كان مصاباً بالعقم. ولذلك اعتقد الناس أن للفطر قدرات خارقة غير طبيعية، واعتبروها هدية من الله إلى الإنسان.
ويقال إن الرومان أغرموا كالإغريق بالكمأة، وربطوا بينها وبين تحسين القدرات الجنسية، كما استخدموه كأهل اليونان للغايات الطبية والعلاجية، إذ كانوا يعتقدون أنه يمنح الصحة الأبدية للجسم والروح معاً. ولأن الكمأة كانت نبتة لديها صفات غريبة، من حيث الرائحة والنكهة، فقد كانت أكثر شعبية بين الطبقات النبيلة.
وكما نعرف، فإن الرومان تعلموا طبخ الكمأة من الأتروسكان، وكانوا يستخدمون النوع الترفيزي (terfezia Leanis) فقط آنذاك، الذي لا طعم مستقلاً له، ولذا أحبوه واستخدموه لقدرته الكبيرة على امتصاص طعم ومذاق المواد الأخرى، أي أنه كان يستخدم كحامل للمذاقات.
ووصفها خطيب روما الشهير شيشرون بـ«أطفال الأرض». ويقال إن الرومان كان يأتون بالكمأة من جزيرة ليسبوس وقرطاجة والمناطق الساحلية في ليبيا قديماً.
وجاء على ذكر الكمأة المؤرخ المعروف بليني الأكبر، الذي سماها «نسيج الأرض اللين»، إذا صح التعبير. ولأن سعرها كان مرتفعاً جداً، فرز لها أبيشيوس 6 وصفات في كتابه «De Re Coquinaria - دي ري كوكيناريا» (مكان الطبخ).
وفي مجال فوائدها الطبية الجمة، خصوصاً العين، قال سعيد بن زيد - رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الكمأة من المن، وماؤها شفاء للعين».
ويقول ابن سرين في تفسير الأحلام: «الكمأة: رجل دنيء أو امرأة دنيئة لا خير فيها، إذا كانت واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً. فإن كثرت، فهي رزق ومال بلا نصب، لقوله صلى الله عليه وسلم: الكمأة من المن، ولأن المن كان يسقط عليهم بلا مؤنة ولا نصب، وكذلك الكمأة تنبت بلا بذور ولا حرث ولا سقي ماء». أما النابلسي، فيقول فيها: «هي في المنام رجل وفي يحبه الأشراف، وقيل امرأة لا خير فيها، والشخص الذي يتخلق بطبائع جميلة رائعة ويغلب عليه صفة الوفاء. ونتيجة لذلك، فإن الكمأة والفقع في المنام تدل على الشخص المحبوب من أكابر وأشراف المجتمع».
وبين القرن الخامس والسادس عشر، تحدث الأرستقراطي الإيطالي لودفيكو دي فارتيما أو بارتيما، الذي كان أول الرحالة الأوروبيين غير المسلمين الذين يزورون مكة والمدينة والعالم العربي، تحدث عن أهمية الكمأة للبدو والسكان المحلين خلال أسفاره في الصحراء السورية. ويقول فارتيما إنه كان يصل عدد الجمال إلى ثلاثين جملاً في القوافل التي تنقل الكمأة في مواسمها من الصحراء إلى أسواق دمشق، وإنها كانت تباع خلال أيام.
وفي القرون الوسطى، ولغرابة النبتة وقلة المعلومات المتوفرة عنها، اعتبرتها الكنيسة من عمل الشيطان، ولذلك ارتبط اسمها بالشيكان، واختفت لفترات طويلة بعد إحجام الناس عن استخدامها. ولم تعد الكمأة إلى المشهد في أوروبا إلا مع الملك لويس الرابع عشر «الذي لم ينقذها فقط من الغموض، بل دفعها أيضاً إلى الطليعة، لتصبح أطباقها واحدة من أكثر الأطباق الأوروبية احتراماً». وقد كان الملك مفتوناً بطبيعة الكمأة، وشرع في زراعتها لكنه باء بالفشل طبعاً. ومع ذلك، تواصل الاهتمام المثير بالكمأة إلى يومنا هذا.