مصريون يستعيدون زمن أجدادهم بارتداء العباءات والبراقع في شارع المعز

مصريان يلتقطان صورة تذكارية بالبرقع والعباءة في شارع المعز لدين الله الفاطمي («الشرق الأوسط»)
مصريان يلتقطان صورة تذكارية بالبرقع والعباءة في شارع المعز لدين الله الفاطمي («الشرق الأوسط»)
TT

مصريون يستعيدون زمن أجدادهم بارتداء العباءات والبراقع في شارع المعز

مصريان يلتقطان صورة تذكارية بالبرقع والعباءة في شارع المعز لدين الله الفاطمي («الشرق الأوسط»)
مصريان يلتقطان صورة تذكارية بالبرقع والعباءة في شارع المعز لدين الله الفاطمي («الشرق الأوسط»)

في عام 1919 ألقت هدى شعراوي برقعها في ميدان التحرير في مظاهرة ضد الإنجليز، رافضة الاحتلال وهيمنته، وقوى الرجعية التي تحاول حبس المرأة داخل جدران المنزل. وفي شارع المعز لدين الله الفاطمي، بعد هذا الموقف بما يقارب مائة عام، راحت فتيات في مقام حفيداتها، يلتقطن البراقع واليشمك، والملاءات اللف يرتدينها أمام عدسات المصورين، في محاولة منهن لاستعادة التراث الذي حوّلته التطورات المتسارعة في القرن الماضي إلى مجرد ذكرى.
هناك في الساحة التي تفصل بين مسجد السلطان قلاوون وبيت الشعر المصري، يتجمهر عدد كبير بين الشباب والفتيات، والرجال والسيدات، يتخذون من الطرابيش والعباءات والبراقع والملاءات اللف زياً لهم يتحركون فيما يشبه الكرنفال أو المظاهرة الشعبية، محتفين بملابس جداتهم الشعبية، قبل التقاط الصور التذكارية.
في زاوية متسعة من الشارع، راح سعيد وعروسه، يستعدان بضبط ملابسهما، من أجل التقاط بعض الصور، فيما كان أحد الشباب يمسك بكاميرا تصوير حديثة، في انتظار جهوزيتهما قبل أن يناديا المصور لالتقاط ما تيسّر من اللقطات الجميلة التي تداعب أيام سعد زغلول باشا. فقد ارتدى الشاب طربوشا أحمر، يمثل الحقبة التاريخية في عشرينات القرن الماضي، بينما ارتدت عروسه عباءة سوداء اللون وبرقعا مع ملاءة لف.
يشار إلى أنّ مصر قد عرفت الطربوش أيام الوالي إبراهيم باشا ابن محمد علي مؤسس الدولة المصرية الحديثة، وقد جعله غطاءً لرأسه بعدما خلع العمامة إثر عودته من حملة غزو الشام.
وفور انتهاء جلسة تصوير سعيد وعروسه بتلك الملابس الفلكلورية، اتخذ مكانه آخرون. كان من بينهم شاب ثلاثيني يدعى رامي، اصطحب زوجته وشقيقته لزيارة معالم شارع المعز ومساجده، وأسبلته، وعندما شاهدوا الملابس التقليدية، بزغت في رؤوسهم فكرة العودة إلى أيام الجدود، زمن السيد أحمد عبد الجواد في ثلاثية الكاتب الراحل نجيب محفوظ الحائز على جائزة نوبل للآداب.
قال رامي بعد أن انتهى من التقاط الصور، إنهم استأجروا الملابس نظير 30 جنيهاً، ودفعوا 20 أخرى أجراً إضافياً للصور، وأشار إلى دكان في المواجهة يعرض عباءات وملاءات لف وبراقع بألوان مختلفة، مطعّمة بأزرار ذهبية وفضية وألوان أخرى.
وأقر باحثون في التراث الشعبي المصري أنّ الملاءة اللف أصلها روماني، فيما بيّنت دراسات انصبت على تاريخ الأزياء أنّ الرومانيات هن أول من لبسن الملاءات اللف، وقد انتشرت في شوارع الإسكندرية وحواريها بعد احتلال الرومان لمصر، ومنها انتقلت إلى باقي المدن في البلاد.
في الجانب الأيسر من بيت الشعر، التقيت فتاة صغيرة، كانت تجلس في مدخل محل يعرض ملابس مثيلة لما ترتديها الفتيات والشباب في الساحة المواجهة لها، قالت: إن إيجار القطعة الواحدة 15 جنيها، وإنها تعمل تخفيضاً لزبائنها، وعندما سألتها عن سعر البرقع والملاءة اللف حال رغبة أحدهم في شرائها، ذكرت أنّها تبيعها بـ90 جنيهاً، وعاجلتني بأنّ لا أحد من الفتيات يرغب في الشراء، إنهن جميعاً، يأتين إليها بغرض ارتدائها لدقائق فقط، يسرن بها قليلاً، ويلتقطن بعض الصور، ثم يعدنها مرة أخرى.
سألتها هل لديك مصور في الدكان، أجابت نعم، ولكنّني أترك كل واحدة حسب رغبتها، لأنّ بعضهن يفضلن التقاط الصور بهاتفهن الخاص.
إلى ذلك، بدأ جمعة مصور فوتوغرافي، مشغولا بالتقاط بعض الصور، لمجموعة من الشباب والفتيات، ذكر أنّه اشترى كاميرا بعشرة آلاف جنيه، بعدما عجز عن إيجاد عمل يسترزق منه، وجلس في دكان أبيه يلتقط صوراً لمن يرغبون في تسجيل ذكريات مع أحبائهم وأزواجهم. مشيراً إلى أنّ هذه الإكسسوارات لا تباع إلّا للأجانب، وهم قليلون، لذا كان عليه ابتكار هذه الطريقة لاستغلالها، حتى لا يجلس وينتظر من يشتريها. وهي على أي حال لا تجد رواجاً كبيراً حتى بين السياح، لأنّهم يفضلون شراء التحف والأنتيكات، ومعظمهم يأتون بكاميراتهم ولا يحتاجون لمصور مثلي. لكنّني على الرّغم من ذلك، أبحث عن رزقي، وبالكاميرا أسد حاجات أسرتي وأوفر مصروفاتي، لكي لا أمد يدي لأحد.



«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
TT

«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)

يجيب معرض «الجمل عبر العصور»، الذي تستضيفه مدينة جدة غرب السعودية، عن كل التساؤلات لفهم هذا المخلوق وعلاقته الوطيدة بقاطني الجزيرة العربية في كل مفاصل الحياة منذ القدم، وكيف شكّل ثقافتهم في الإقامة والتّرحال، بل تجاوز ذلك في القيمة، فتساوى مع الماء في الوجود والحياة.

الأمير فيصل بن عبد الله والأمير سعود بن جلوي خلال افتتاح المعرض (الشرق الأوسط)

ويخبر المعرض، الذي يُنظَّم في «مركز الملك عبد العزيز الثقافي»، عبر مائة لوحة وصورة، ونقوش اكتُشفت في جبال السعودية وعلى الصخور، عن مراحل الجمل وتآلفه مع سكان الجزيرة الذين اعتمدوا عليه في جميع أعمالهم. كما يُخبر عن قيمته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لدى أولئك الذين يمتلكون أعداداً كبيرة منه سابقاً وحاضراً. وهذا الامتلاك لا يقف عند حدود المفاخرة؛ بل يُلامس حدود العشق والعلاقة الوطيدة بين المالك وإبله.

الجمل كان حاضراً في كل تفاصيل حياة سكان الجزيرة (الشرق الأوسط)

وتكشف جولة داخل المعرض، الذي انطلق الثلاثاء تحت رعاية الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة؛ وافتتحه نيابة عنه الأمير سعود بن عبد الله بن جلوي، محافظ جدة؛ بحضور الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»؛ وأمين محافظة جدة صالح التركي، عن تناغم المعروض من اللوحات والمجسّمات، وتقاطع الفنون الثلاثة: الرسم بمساراته، والتصوير الفوتوغرافي والأفلام، والمجسمات، لتصبح النُّسخة الثالثة من معرض «الجمل عبر العصور» مصدراً يُعتمد عليه لفهم تاريخ الجمل وارتباطه بالإنسان في الجزيرة العربية.

لوحة فنية متكاملة تحكي في جزئياتها عن الجمل وأهميته (الشرق الأوسط)

وفي لحظة، وأنت تتجوّل في ممرات المعرض، تعود بك عجلة الزمن إلى ما قبل ميلاد النبي عيسى عليه السلام، لتُشاهد صورة لعملة معدنية للملك الحارث الرابع؛ تاسع ملوك مملكة الأنباط في جنوب بلاد الشام، راكعاً أمام الجمل، مما يرمز إلى ارتباطه بالتجارة، وهي شهادة على الرّخاء الاقتصادي في تلك الحقبة. تُكمل جولتك فتقع عيناك على ختمِ العقيق المصنوع في العهد الساساني مع الجمل خلال القرنين الثالث والسابع.

ومن المفارقات الجميلة أن المعرض يقام بمنطقة «أبرق الرغامة» شرق مدينة جدة، التي كانت ممراً تاريخياً لطريق القوافل المتّجهة من جدة إلى مكة المكرمة. وزادت شهرة الموقع ومخزونه التاريخي بعد أن عسكر على أرضه الملك عبد العزيز - رحمه الله - مع رجاله للدخول إلى جدة في شهر جمادى الآخرة - ديسمبر (كانون الأول) من عام 1952، مما يُضيف للمعرض بُعداً تاريخياً آخر.

عملة معدنية تعود إلى عهد الملك الحارث الرابع راكعاً أمام الجمل (الشرق الأوسط)

وفي حديث لـ«الشرق الأوسط»، قال الأمير فيصل بن عبد الله، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»: «للشركة رسالة تتمثّل في توصيل الثقافة والأصالة والتاريخ، التي يجهلها كثيرون، ويشكّل الجمل جزءاً من هذا التاريخ، و(ليان) لديها مشروعات أخرى تنبع جميعها من الأصالة وربط الأصل بالعصر»، لافتاً إلى أن هناك فيلماً وثائقياً يتحدّث عن أهداف الشركة.

ولم يستبعد الأمير فيصل أن يسافر المعرض إلى مدن عالمية عدّة لتوصيل الرسالة، كما لم يستبعد مشاركة مزيد من الفنانين، موضحاً أن المعرض مفتوح للمشاركات من جميع الفنانين المحليين والدوليين، مشدّداً على أن «ليان» تبني لمفهوم واسع وشامل.

نقوش تدلّ على أهمية الجمل منذ القدم (الشرق الأوسط)

وفي السياق، تحدّث محمد آل صبيح، مدير «جمعية الثقافة والفنون» في جدة، لـ«الشرق الأوسط» عن أهمية المعرض قائلاً: «له وقعٌ خاصٌ لدى السعوديين؛ لأهميته التاريخية في الرمز والتّراث»، موضحاً أن المعرض تنظّمه شركة «ليان الثقافية» بالشراكة مع «جمعية الثقافة والفنون» و«أمانة جدة»، ويحتوي أكثر من مائة عملٍ فنيّ بمقاييس عالمية، ويتنوع بمشاركة فنانين من داخل المملكة وخارجها.

وأضاف آل صبيح: «يُعلَن خلال المعرض عن نتائج (جائزة ضياء عزيز ضياء)، وهذا مما يميّزه» وتابع أن «هذه الجائزة أقيمت بمناسبة (عام الإبل)، وشارك فيها نحو 400 عمل فني، ورُشّح خلالها 38 عملاً للفوز بالجوائز، وتبلغ قيمتها مائة ألف ريالٍ؛ منها 50 ألفاً لصاحب المركز الأول».

الختم الساساني مع الجمل من القرنين الثالث والسابع (الشرق الأوسط)

وبالعودة إلى تاريخ الجمل، فهو محفور في ثقافة العرب وإرثهم، ولطالما تغنّوا به شعراً ونثراً، بل تجاوز الجمل ذلك ليكون مصدراً للحكمة والأمثال لديهم؛ ومنها: «لا ناقة لي في الأمر ولا جمل»، وهو دلالة على أن قائله لا يرغب في الدخول بموضوع لا يهمّه. كما قالت العرب: «جاءوا على بكرة أبيهم» وهو مثل يضربه العرب للدلالة على مجيء القوم مجتمعين؛ لأن البِكرة، كما يُقال، معناها الفتيّة من إناث الإبل. كذلك: «ما هكذا تُورَد الإبل» ويُضرب هذا المثل لمن يُقوم بمهمة دون حذق أو إتقان.

زائرة تتأمل لوحات تحكي تاريخ الجمل (الشرق الأوسط)

وذُكرت الإبل والجمال في «القرآن الكريم» أكثر من مرة لتوضيح أهميتها وقيمتها، كما في قوله: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» (سورة الغاشية - 17). وكذلك: «وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ» (سورة النحل - 6)... وجميع الآيات تُدلّل على عظمة الخالق، وكيف لهذا المخلوق القدرة على توفير جميع احتياجات الإنسان من طعام وماء، والتنقل لمسافات طويلة، وتحت أصعب الظروف.