عهد التميمي لا تتحمس لاعتبارها بطلة، لأنها في الأساس ضحية للاحتلال. هي وأهلها وكثيرون في شعبها يريدون لها أن تكون طفلة طبيعية، تعيش طفولتها كما ينبغي أن تكون الطفولة: براءة، حنو، لعب وجدّ، تعليم وترفيه. لكن ما مرّ عليها وعلى والديها وشقيقها وابن عمها وبلدتها (النبي صالح) هو ما دفعها إلى البروز كمقاتلة تصفع بيدها وجه جندي. لقد شاهدت والدها يُعتَقَل عشر مرات في عز الليالي، ووالدتها وهي تتلقى رصاصة في ساقها وتمشي على عكاز طيلة سنة ثم تُعتَقَل خمس مرات. وشاهدت أيضاً شقيقها يُصاب بيده ويُساق إلى المعتقل، وابن عمها يصاب برصاصة في صدره. في المقابل، شاهدت المستوطنين يسيطرون على نبع الماء الوحيد الذي يروي أراضي القرية ويطلقون عليه اسماً عبرياً... وجدار العزل يفصل بين القرية وأراضيها، فما كان بمقدورها ألا تفعل شيئاً. يومذاك، رفعت يدها الصغيرة الغضة لتصنع أشهر صفعة في عصرنا.
ترزح الطفلة عهد باسم التميمي الآن في معتقلها الإسرائيلي، تحت إمرة جهاز المخابرات العام (الشاباك)، يتحكم فيها الجنود والضباط.
وجودها في المعتقل بحد ذاته خانق، عندما تقرأ في عيون الكثيرين ممّن يحيطون بها شرر الانتقام والكراهية، ذلك أن المعتقلات الإسرائيلية باتت ساحة تنكيل وتعذيب. وحتى لو لم تتعرض للضرب والعنف فإن التحقيقات مليئة بالأساليب المتعبة المنهكة المهلكة. قد تضعف عهد حيناً، قد تصيح من الوجع وقد تبكي وتتألم وتحزن وتغضب، فهي فتاة صغيرة فقط قبل أيام دخلت في سن السابعة عشرة. لكن الشباب الفلسطيني من بنات وأبناء جيلها، يرون فيها بطلة.
عهد، من جهتها، لا ترى في نفسها بطلة، وكذلك والداها وأهلها. بل إنهم يعتبرونها ضحية. فهي لم تبادر إلى دفع الجندي عندما كانت في الثانية عشرة من العمر ولم تبادر إلى صفع الجندي في الشهر الماضي، إلا بعدما رأت ابن عمها مرتمياً على الأرض مخضباً بالدماء ونقل إلى المستشفى في حالة صعبة. غير أن الشباب الفلسطيني رأى في صفعتها نموذجاً للتصرف المطلوب مع المحتل. واعتبرها بطلة، شاءت ذلك أم أبت.
اليوم يتحدثون عنها في كل بيت، وفي كل مدرسة. الشعراء ينظمون الأبيات فيها والرسّامون والرسامات يصورونها في النحت واللوحات. والفصائل الفلسطينية تعد لها الأمسيات. والصحافة الأجنبية تتدفق على قريتها النبي صالح وبيتها وتلتقي أقاربها وتتقدم بطلبات إلى السلطات الإسرائيلية لمقابلتها.
لقد أصبحت عهد رمزاً للنضال الفلسطيني. أو كما كتب الكاتب بن أهرنريتش في مقاله الأسبوعي في مجلة «ذي نيشن» الأميركية: «أصبحت الطفلة عهد التميمي أيقونة للنضال الفلسطيني، خصوصاً إثر تعدد المواجهات بينها وبين جنود الاحتلال الإسرائيلي». وحذّر الكاتب يومها من أن «هذا الأمر بات يشكل خطراً عليها، نظراً لأن كل الأبطال الفلسطينيين ينتهي بهم الأمر بالاغتيال أو بالأسر». وأردف: «ومن حسن حظها» أنها اعتقلت، ولم تتلقَّ رصاصة في رأسها، كما حصل لكثيرين من رموز النضال الفلسطيني، حتى لو كانوا في عمرها وأقل من عمرها.
فقط قبل سنتين، قُتل الفتى إسحاق قاسم بدران (16 سنة) من سكان كفر عقب في منطقة باب العامود في القدس الشرقية المحتلة. بحجة أنه طعن مستوطنين اثنين بسكين، أطلق عليه الجنود أربع رصاصات حية. كثير من شهود العيان نفوا هذه الرواية وقالوا إن خلافاً بين الفتى والمستوطنين تحوّل إلى شجار، كما يحصل بين فتية عرب أيضاً، وليس بالضرورة على خلفية سياسية أو قومية. لكن أحد المستوطنين صاح: «إرهابي.. إرهابي»، ولما حاول إسحاق الهرب فقتلوه.
وهذا ليس بالنهج الجديد؛ فقبل نحو 40 سنة (في يوم 16 مايو/ أيار 1976)، لاحق أحد جنود الاحتلال التلميذة في المدرسة العائشية في مدينة نابلس، لينا النابلسي (15 سنة)، وحاصرها في أحد مباني المدينة وأعدمها برصاصة في العنق. كل ذنب لينا كان أنها غادرت مدرستها في ذلك اليوم لتقود مظاهرة لتلاميذ مدرستها وسط نابلس في ذكرى النكبة الفلسطينية. وتقول الأستاذة الجامعية والكاتبة إلهام أبو غزالة، عما شاهدته في حينه: «لينا كانت إحدى تلميذاتي في المدرسة العائشية. وخرجت طالبات المدرسة في مظاهرة في شوارع نابلس، وانضم إليهن أفراد الهيئة التدريسية والمواطنون، وكانت لينا تقود المظاهرة. وبسرعة تدخلت قوات الاحتلال لقمع المظاهرة بوحشية، وعندما حاولت لينا الفرار إلى إحدى البنايات لحق بها أحد الجنود في مطلع الدرج، وأطلق عليها النار عن قرب في عملية إعدام بدم بارد، وكان ذلك أمام عيني وما زلت أذكر تلك العمارة التي وقعت فيها الجريمة».
ولدت في الكفاح
عهد التميمي، تسير رغماً عنها على طريق الآلام نفسه. إنها ابنة كادحين مناضلين، فتحت عينيها لتجدهما في المعارك. ليس لأنهما يرغبان فيها، فهما أيضاً من أنصار السلام. يلتقيان في كل أسبوع مع مجموعة من نشيطي السلام اليهود والأجانب في قريتهما النبي صالح. وينطلقون معا في مسيرة شعبية احتجاجية ضد إجراءات الاحتلال.
والنبي صالح هي قرية فلسطينية صغيرة لا يزيد عدد سكانها عن ألف نسمة، تقع في الشمال الغربي من مدينة رام الله. ومنذ عام 1977 وهي تتعرض للمضايقات والنهب، إذ في تلك السنة بنت إسرائيل مستوطنة «حلميش» على أراضيها وأراضي القرى الفلسطينية الأخرى المجاورة. وتمادى المستوطنون عليهم سنة بعد أخرى، حتى جاء عام 2009، وفيه شيدت سلطات الاحتلال «الجدار العازل» ليحرم أهل القرية من أراضيهم الزراعية. فانفجروا من الغضب وراحوا يقيمون مظاهرة أسبوعية في كل يوم جمعة ضد الجدار العازل، لأنه يؤدي إلى نهب أراضيهم ونبع الماء الذي يتدفق فيها ويروي أراضيها، ويعرف باسم «نبع القوس».
المستوطنون من طرفهم، سيطروا على النبع عام 2009 وأطلقوا عليه اسم مؤسس مستوطنتهم، مئير سيغال... «نبع مئير». ومن ثم أحرقوا محصول الأرض الفلسطينية المجاورة للنبع. وبينما لم يحاكم أي مستوطن بهذه الجريمة، أقدم الجيش على إبعاد الفلسطينيين. وبعد تدخلات أوروبية، ترافقت مع النضال المتواصل لسكان القريتين، حاول ضباط الإدارة المدنية وضع نظام يسمح للفلسطينيين بالوصول إلى النبع في أيام الأسبوع، باستثناء يوم الجمعة وفيه يبعدون «لأسباب أمنية».
لقد أثار هذا النظام حفيظة الطرفين: الفلسطينيون كانوا يرفعون علم فلسطين، يهينون علم إسرائيل ويدمّرون ما بناه المستوطنون، أما المستوطنون فسرقوا قطعاً من الأراضي الفلسطينية المفلوجة وضربوا من حولها سياجاً.
الطفلة عهد (المولودة في العام 2001) وجدت نفسها تشارك في المظاهرة الأسبوعية أيضا، مع أن الجيش يقمعها في كثير من الأحيان؛ فوالدها باسم التميمي هو أحد قادة المظاهرة الأسبوعية، ووالدتها ناريمان، مشاركة دائمة. والدها أسير سابق، واعتقل 10 مرات في سجون الاحتلال وتعرّض للتعذيب ويُعدّ من قادة حركة فتح في النبي صالح. ووالدتها جريحة سابقة، إذ أصيبت ذات مرة برصاصة مطاطية في رجلها، وظلت تمشي على عكاز طيلة سنة واعتقلت خمس مرات. وشقيقها الأكبر اعتقل لعدة شهور وكسر الجنود ساقه.
عندما كان عمر عهد 11 سنة، اصطدمت مع أول جندي احتلالي بشكل مباشر. يومذاك شاهدت الجنود يعتقلون والدتها فهرعت تحاول الإمساك بها، فمنعها الجنود بالقوة... وعندما كان أحدهم يشد بها إلى الوراء بعنف عضته بيده. وتكرر المشهد عدة مرات، فكلما هوجم أحد أفراد عائلتها في بيتها، وكذلك عندما قُتِل ابن عمها محمد عام 2011، ما كانت عهد تتفرج من بعيد، بل تتقدم نحو الجنود تسعى لطردهم من بيتها. وبلغت هذه الوقفة ذروتها في منتصف الشهر الماضي، عندما كانت عهد كانت تقف أمام منزلها، وراح جنود الاحتلال يطاردون نحو 30 فتى صغيراً تظاهروا، بأسلوبهم الطفولي، احتجاجاً على قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بخصوص القدس. كانوا يهتفون ويطلقون الأناشيد. ورشق بعضهم الجنود بالحجارة.
في البداية كان الجنود يطلقون قنابل الغاز لتفريق المتظاهرين. غير أنهم انتقلوا في مرحلة معينة، إلى إطلاق الرصاص المطاطي والرصاص الحي. وشاهدت عهد كيف أطلق جنود النار على رأس ابن عمها، محمد التميمي (14 سنة)، وهو فتى أعزل لم يهدد حياة الجنود. فسقط الطفل أرضاً وهو يتلوّى من الآلام والدماء تنزف من جسده والجنود يحاولون منع نقله إلى العلاج. عندها تقدمت عهد من جنديين وقفا أمام بيتها وهما مدجّجان بالسلاح وراحت هي ووالدتها ناريمان وابنة عمها نور يصرخن احتجاجاً على إصابة الطفل، وهن يعتقدن أنه قتل. فصفعت عهد أحد الجنديين وركلته على ساقه، فيما قامت والدتها ناريمان وابنة عمها نور بدفع الجنديين ليبتعدا عن البيت.
وعندما انتشرت صورتها وهي تصفع الجندي، الذي امتنع عن الرد عليها، وهاج وماج «قبضايات» اليمين يهاجمون الجيش لأنه «لم يرد لها الصاع صاعين» ويتهمونه بـ«بث روح انهزامية في صفوف الشباب الإسرائيلي والجنود»، قرّر الجيش الإسرائيلي أن «يثبت أنه أقوى من عهد التميمي». فأقام طاقم تحقيق خاصاً تفرغ أسبوعاً كاملاً لنسج لائحة اتهام ضدها. وانكب أفراد الطاقم على أرشيف الجيش في النبي صالح. واستخرجوا منه ستة حوادث في السنة الأخيرة (2017)، يمكن محاكمتها عليها، وأدخلوها في لائحة اتهام:
> مهاجمة جندي وضابط في الجيش الإسرائيلي يوم 15 ديسمبر (كانون الأول) 2017، الذي صفعت خلاله الجندي.
> الضلوع في 5 حوادث أخرى هاجمت فيها قوات الأمن، وألقت باتجاههم الحجارة وأعاقت عملهم.
> الاشتراك بأعمال إخلال بالنظام.
> تحريض شبان آخرين على الاشتراك بهذه الأعمال والإشادة برشق الحجارة وعمليات الطعن والدهس ضد الجنود.
المحامون الذين يدافعون عنها يقدّرون أن بنود الاتهام هذه كافية لأن تصدر المحكمة العسكرية الاحتلالية ضدها حكماً بالسجن عدة سنوات. وفي الوقت الحاضر بينما تثير هذه التصرفات ارتياحاً لدى اليمين الإسرائيلي، فإنها تثير الخزي لدى العقلاء في المجتمع الإسرائيلي. فصحيفة «هآرتس» كتبت مقالاً دعت فيه الحكومة إلى وقف «هذه المهزلة» وإطلاق سراح عهد. والكاتب الصحافي اليساري المعروف أوري أفنيري اعتبرها «جان دارك الفلسطينية». وعشرات الكتاب خرجوا بدعوة إلى إطلاق سراحها حتى لا تتحول إلى «المسيح المصلوب». بيد أن الحكومة الإسرائيلية مصرة على تحقيق «صورة الانتصار»، كما في الحروب الكبرى.
وعندما انتشرت صور عهد التميمي في محطات الحافلات بعدد من عواصم أوروبا، دليلاً على أن العالم لا يقبل الرواية الإسرائيلية، غضب قادة اليمين وفي مقدمتهم رئيس الوزراء وزير الخارجية بنيامين نتنياهو. وتبعاً لتعليماته تحركت وزارة الخارجية الإسرائيلية وأوعزت لسفرائها بان يطالبوا الحكومات الغربية بإزالتها. ولم يتردد وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان في التطرق إلى هذه الطفلة كـ«عدو» وكأنها جيش يهدد أمن إسرائيل. وكما قال بن أهرنريتش، الكاتب الأميركي الخبير في شؤون الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فإن ما دفع حكومة إسرائيل إلى التعامل مع عهد بهذا الشكل هو صورتها أمام جمهور ناخبيها والعالم بشكل عام. وتابع: «هناك هوة سحيقة بين نظرة إسرائيل لنفسها وصورتها الحقيقية، إذ يؤمن الإسرائيليون منذ زمن بأنهم يمثلون (قوى الخير) وسط مجموعة من (الدول الشريرة). وفي الوقت ذاته، يفتخرون بتفوقهم العسكري، والتكنولوجيا وقدراتهم القتالية. في المقابل، تمكنت عهد التميمي من خلال ما أظهرته من شجاعة من تحطيم هذه الصورة، وأظهرت للعالم أن إسرائيل دولة متنمّرة. فضلاً عن ذلك، جعلت التميمي جنود الاحتلال يشعرون بأن أسلحتهم لا قيمة لها، وبينت للعالم مدى ضعف وجبن هؤلاء الجنود».
وفي هذه الأثناء، يواصل الفلسطينيون وكثير من العرب متابعة شؤون عهد التميمي وبناء هالتها المثيرة للإعجاب. جمهور الشباب يرى فيها نموذجاً أعلى، ولا يتأثرون من مشاهد اعتقالها ومحاكمتها وما يرافقها من ترهيب. الشعراء يتغنون بها والعائلات الشابة تطلق اسمها على المواليد الجديدات، والفنانون يعدون لها الأغنيات. الفنانة الأردنية، زين العوض، أطلقت أغنية بعنوان «صرخة عهد»، التي كتبت كلماتها بنفسها وقامت بتلحينها. وأطلقت المغنية الأردنية تانيا ماريا صقال، بالتعاون مع شركة الاتصالات الجوالة الأردنية، أغنية «أنتِ العهد».
لقد تحوّلت عهد التميمي إلى رمز لجيل جديد من الفلسطينيين، وُلِد في ظل الاحتلال لكنه لا يقبل بالاحتلال بل يتعهد للجيل السابق بأنه سيواصل الطريق حتى تتحقق له حريته من الاحتلال واستقلاله في دولة.