«جيل عهد»... في أرض فلسطين

حكايات صمود ورفض ولّدتها عقود من الظلم

«جيل عهد»... في أرض فلسطين
TT

«جيل عهد»... في أرض فلسطين

«جيل عهد»... في أرض فلسطين

عهد التميمي لا تتحمس لاعتبارها بطلة، لأنها في الأساس ضحية للاحتلال. هي وأهلها وكثيرون في شعبها يريدون لها أن تكون طفلة طبيعية، تعيش طفولتها كما ينبغي أن تكون الطفولة: براءة، حنو، لعب وجدّ، تعليم وترفيه. لكن ما مرّ عليها وعلى والديها وشقيقها وابن عمها وبلدتها (النبي صالح) هو ما دفعها إلى البروز كمقاتلة تصفع بيدها وجه جندي. لقد شاهدت والدها يُعتَقَل عشر مرات في عز الليالي، ووالدتها وهي تتلقى رصاصة في ساقها وتمشي على عكاز طيلة سنة ثم تُعتَقَل خمس مرات. وشاهدت أيضاً شقيقها يُصاب بيده ويُساق إلى المعتقل، وابن عمها يصاب برصاصة في صدره. في المقابل، شاهدت المستوطنين يسيطرون على نبع الماء الوحيد الذي يروي أراضي القرية ويطلقون عليه اسماً عبرياً... وجدار العزل يفصل بين القرية وأراضيها، فما كان بمقدورها ألا تفعل شيئاً. يومذاك، رفعت يدها الصغيرة الغضة لتصنع أشهر صفعة في عصرنا.

ترزح الطفلة عهد باسم التميمي الآن في معتقلها الإسرائيلي، تحت إمرة جهاز المخابرات العام (الشاباك)، يتحكم فيها الجنود والضباط.
وجودها في المعتقل بحد ذاته خانق، عندما تقرأ في عيون الكثيرين ممّن يحيطون بها شرر الانتقام والكراهية، ذلك أن المعتقلات الإسرائيلية باتت ساحة تنكيل وتعذيب. وحتى لو لم تتعرض للضرب والعنف فإن التحقيقات مليئة بالأساليب المتعبة المنهكة المهلكة. قد تضعف عهد حيناً، قد تصيح من الوجع وقد تبكي وتتألم وتحزن وتغضب، فهي فتاة صغيرة فقط قبل أيام دخلت في سن السابعة عشرة. لكن الشباب الفلسطيني من بنات وأبناء جيلها، يرون فيها بطلة.
عهد، من جهتها، لا ترى في نفسها بطلة، وكذلك والداها وأهلها. بل إنهم يعتبرونها ضحية. فهي لم تبادر إلى دفع الجندي عندما كانت في الثانية عشرة من العمر ولم تبادر إلى صفع الجندي في الشهر الماضي، إلا بعدما رأت ابن عمها مرتمياً على الأرض مخضباً بالدماء ونقل إلى المستشفى في حالة صعبة. غير أن الشباب الفلسطيني رأى في صفعتها نموذجاً للتصرف المطلوب مع المحتل. واعتبرها بطلة، شاءت ذلك أم أبت.
اليوم يتحدثون عنها في كل بيت، وفي كل مدرسة. الشعراء ينظمون الأبيات فيها والرسّامون والرسامات يصورونها في النحت واللوحات. والفصائل الفلسطينية تعد لها الأمسيات. والصحافة الأجنبية تتدفق على قريتها النبي صالح وبيتها وتلتقي أقاربها وتتقدم بطلبات إلى السلطات الإسرائيلية لمقابلتها.
لقد أصبحت عهد رمزاً للنضال الفلسطيني. أو كما كتب الكاتب بن أهرنريتش في مقاله الأسبوعي في مجلة «ذي نيشن» الأميركية: «أصبحت الطفلة عهد التميمي أيقونة للنضال الفلسطيني، خصوصاً إثر تعدد المواجهات بينها وبين جنود الاحتلال الإسرائيلي». وحذّر الكاتب يومها من أن «هذا الأمر بات يشكل خطراً عليها، نظراً لأن كل الأبطال الفلسطينيين ينتهي بهم الأمر بالاغتيال أو بالأسر». وأردف: «ومن حسن حظها» أنها اعتقلت، ولم تتلقَّ رصاصة في رأسها، كما حصل لكثيرين من رموز النضال الفلسطيني، حتى لو كانوا في عمرها وأقل من عمرها.
فقط قبل سنتين، قُتل الفتى إسحاق قاسم بدران (16 سنة) من سكان كفر عقب في منطقة باب العامود في القدس الشرقية المحتلة. بحجة أنه طعن مستوطنين اثنين بسكين، أطلق عليه الجنود أربع رصاصات حية. كثير من شهود العيان نفوا هذه الرواية وقالوا إن خلافاً بين الفتى والمستوطنين تحوّل إلى شجار، كما يحصل بين فتية عرب أيضاً، وليس بالضرورة على خلفية سياسية أو قومية. لكن أحد المستوطنين صاح: «إرهابي.. إرهابي»، ولما حاول إسحاق الهرب فقتلوه.
وهذا ليس بالنهج الجديد؛ فقبل نحو 40 سنة (في يوم 16 مايو/ أيار 1976)، لاحق أحد جنود الاحتلال التلميذة في المدرسة العائشية في مدينة نابلس، لينا النابلسي (15 سنة)، وحاصرها في أحد مباني المدينة وأعدمها برصاصة في العنق. كل ذنب لينا كان أنها غادرت مدرستها في ذلك اليوم لتقود مظاهرة لتلاميذ مدرستها وسط نابلس في ذكرى النكبة الفلسطينية. وتقول الأستاذة الجامعية والكاتبة إلهام أبو غزالة، عما شاهدته في حينه: «لينا كانت إحدى تلميذاتي في المدرسة العائشية. وخرجت طالبات المدرسة في مظاهرة في شوارع نابلس، وانضم إليهن أفراد الهيئة التدريسية والمواطنون، وكانت لينا تقود المظاهرة. وبسرعة تدخلت قوات الاحتلال لقمع المظاهرة بوحشية، وعندما حاولت لينا الفرار إلى إحدى البنايات لحق بها أحد الجنود في مطلع الدرج، وأطلق عليها النار عن قرب في عملية إعدام بدم بارد، وكان ذلك أمام عيني وما زلت أذكر تلك العمارة التي وقعت فيها الجريمة».

ولدت في الكفاح

عهد التميمي، تسير رغماً عنها على طريق الآلام نفسه. إنها ابنة كادحين مناضلين، فتحت عينيها لتجدهما في المعارك. ليس لأنهما يرغبان فيها، فهما أيضاً من أنصار السلام. يلتقيان في كل أسبوع مع مجموعة من نشيطي السلام اليهود والأجانب في قريتهما النبي صالح. وينطلقون معا في مسيرة شعبية احتجاجية ضد إجراءات الاحتلال.
والنبي صالح هي قرية فلسطينية صغيرة لا يزيد عدد سكانها عن ألف نسمة، تقع في الشمال الغربي من مدينة رام الله. ومنذ عام 1977 وهي تتعرض للمضايقات والنهب، إذ في تلك السنة بنت إسرائيل مستوطنة «حلميش» على أراضيها وأراضي القرى الفلسطينية الأخرى المجاورة. وتمادى المستوطنون عليهم سنة بعد أخرى، حتى جاء عام 2009، وفيه شيدت سلطات الاحتلال «الجدار العازل» ليحرم أهل القرية من أراضيهم الزراعية. فانفجروا من الغضب وراحوا يقيمون مظاهرة أسبوعية في كل يوم جمعة ضد الجدار العازل، لأنه يؤدي إلى نهب أراضيهم ونبع الماء الذي يتدفق فيها ويروي أراضيها، ويعرف باسم «نبع القوس».
المستوطنون من طرفهم، سيطروا على النبع عام 2009 وأطلقوا عليه اسم مؤسس مستوطنتهم، مئير سيغال... «نبع مئير». ومن ثم أحرقوا محصول الأرض الفلسطينية المجاورة للنبع. وبينما لم يحاكم أي مستوطن بهذه الجريمة، أقدم الجيش على إبعاد الفلسطينيين. وبعد تدخلات أوروبية، ترافقت مع النضال المتواصل لسكان القريتين، حاول ضباط الإدارة المدنية وضع نظام يسمح للفلسطينيين بالوصول إلى النبع في أيام الأسبوع، باستثناء يوم الجمعة وفيه يبعدون «لأسباب أمنية».
لقد أثار هذا النظام حفيظة الطرفين: الفلسطينيون كانوا يرفعون علم فلسطين، يهينون علم إسرائيل ويدمّرون ما بناه المستوطنون، أما المستوطنون فسرقوا قطعاً من الأراضي الفلسطينية المفلوجة وضربوا من حولها سياجاً.
الطفلة عهد (المولودة في العام 2001) وجدت نفسها تشارك في المظاهرة الأسبوعية أيضا، مع أن الجيش يقمعها في كثير من الأحيان؛ فوالدها باسم التميمي هو أحد قادة المظاهرة الأسبوعية، ووالدتها ناريمان، مشاركة دائمة. والدها أسير سابق، واعتقل 10 مرات في سجون الاحتلال وتعرّض للتعذيب ويُعدّ من قادة حركة فتح في النبي صالح. ووالدتها جريحة سابقة، إذ أصيبت ذات مرة برصاصة مطاطية في رجلها، وظلت تمشي على عكاز طيلة سنة واعتقلت خمس مرات. وشقيقها الأكبر اعتقل لعدة شهور وكسر الجنود ساقه.
عندما كان عمر عهد 11 سنة، اصطدمت مع أول جندي احتلالي بشكل مباشر. يومذاك شاهدت الجنود يعتقلون والدتها فهرعت تحاول الإمساك بها، فمنعها الجنود بالقوة... وعندما كان أحدهم يشد بها إلى الوراء بعنف عضته بيده. وتكرر المشهد عدة مرات، فكلما هوجم أحد أفراد عائلتها في بيتها، وكذلك عندما قُتِل ابن عمها محمد عام 2011، ما كانت عهد تتفرج من بعيد، بل تتقدم نحو الجنود تسعى لطردهم من بيتها. وبلغت هذه الوقفة ذروتها في منتصف الشهر الماضي، عندما كانت عهد كانت تقف أمام منزلها، وراح جنود الاحتلال يطاردون نحو 30 فتى صغيراً تظاهروا، بأسلوبهم الطفولي، احتجاجاً على قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بخصوص القدس. كانوا يهتفون ويطلقون الأناشيد. ورشق بعضهم الجنود بالحجارة.
في البداية كان الجنود يطلقون قنابل الغاز لتفريق المتظاهرين. غير أنهم انتقلوا في مرحلة معينة، إلى إطلاق الرصاص المطاطي والرصاص الحي. وشاهدت عهد كيف أطلق جنود النار على رأس ابن عمها، محمد التميمي (14 سنة)، وهو فتى أعزل لم يهدد حياة الجنود. فسقط الطفل أرضاً وهو يتلوّى من الآلام والدماء تنزف من جسده والجنود يحاولون منع نقله إلى العلاج. عندها تقدمت عهد من جنديين وقفا أمام بيتها وهما مدجّجان بالسلاح وراحت هي ووالدتها ناريمان وابنة عمها نور يصرخن احتجاجاً على إصابة الطفل، وهن يعتقدن أنه قتل. فصفعت عهد أحد الجنديين وركلته على ساقه، فيما قامت والدتها ناريمان وابنة عمها نور بدفع الجنديين ليبتعدا عن البيت.
وعندما انتشرت صورتها وهي تصفع الجندي، الذي امتنع عن الرد عليها، وهاج وماج «قبضايات» اليمين يهاجمون الجيش لأنه «لم يرد لها الصاع صاعين» ويتهمونه بـ«بث روح انهزامية في صفوف الشباب الإسرائيلي والجنود»، قرّر الجيش الإسرائيلي أن «يثبت أنه أقوى من عهد التميمي». فأقام طاقم تحقيق خاصاً تفرغ أسبوعاً كاملاً لنسج لائحة اتهام ضدها. وانكب أفراد الطاقم على أرشيف الجيش في النبي صالح. واستخرجوا منه ستة حوادث في السنة الأخيرة (2017)، يمكن محاكمتها عليها، وأدخلوها في لائحة اتهام:
> مهاجمة جندي وضابط في الجيش الإسرائيلي يوم 15 ديسمبر (كانون الأول) 2017، الذي صفعت خلاله الجندي.
> الضلوع في 5 حوادث أخرى هاجمت فيها قوات الأمن، وألقت باتجاههم الحجارة وأعاقت عملهم.
> الاشتراك بأعمال إخلال بالنظام.
> تحريض شبان آخرين على الاشتراك بهذه الأعمال والإشادة برشق الحجارة وعمليات الطعن والدهس ضد الجنود.
المحامون الذين يدافعون عنها يقدّرون أن بنود الاتهام هذه كافية لأن تصدر المحكمة العسكرية الاحتلالية ضدها حكماً بالسجن عدة سنوات. وفي الوقت الحاضر بينما تثير هذه التصرفات ارتياحاً لدى اليمين الإسرائيلي، فإنها تثير الخزي لدى العقلاء في المجتمع الإسرائيلي. فصحيفة «هآرتس» كتبت مقالاً دعت فيه الحكومة إلى وقف «هذه المهزلة» وإطلاق سراح عهد. والكاتب الصحافي اليساري المعروف أوري أفنيري اعتبرها «جان دارك الفلسطينية». وعشرات الكتاب خرجوا بدعوة إلى إطلاق سراحها حتى لا تتحول إلى «المسيح المصلوب». بيد أن الحكومة الإسرائيلية مصرة على تحقيق «صورة الانتصار»، كما في الحروب الكبرى.
وعندما انتشرت صور عهد التميمي في محطات الحافلات بعدد من عواصم أوروبا، دليلاً على أن العالم لا يقبل الرواية الإسرائيلية، غضب قادة اليمين وفي مقدمتهم رئيس الوزراء وزير الخارجية بنيامين نتنياهو. وتبعاً لتعليماته تحركت وزارة الخارجية الإسرائيلية وأوعزت لسفرائها بان يطالبوا الحكومات الغربية بإزالتها. ولم يتردد وزير الدفاع أفيغدور ليبرمان في التطرق إلى هذه الطفلة كـ«عدو» وكأنها جيش يهدد أمن إسرائيل. وكما قال بن أهرنريتش، الكاتب الأميركي الخبير في شؤون الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، فإن ما دفع حكومة إسرائيل إلى التعامل مع عهد بهذا الشكل هو صورتها أمام جمهور ناخبيها والعالم بشكل عام. وتابع: «هناك هوة سحيقة بين نظرة إسرائيل لنفسها وصورتها الحقيقية، إذ يؤمن الإسرائيليون منذ زمن بأنهم يمثلون (قوى الخير) وسط مجموعة من (الدول الشريرة). وفي الوقت ذاته، يفتخرون بتفوقهم العسكري، والتكنولوجيا وقدراتهم القتالية. في المقابل، تمكنت عهد التميمي من خلال ما أظهرته من شجاعة من تحطيم هذه الصورة، وأظهرت للعالم أن إسرائيل دولة متنمّرة. فضلاً عن ذلك، جعلت التميمي جنود الاحتلال يشعرون بأن أسلحتهم لا قيمة لها، وبينت للعالم مدى ضعف وجبن هؤلاء الجنود».
وفي هذه الأثناء، يواصل الفلسطينيون وكثير من العرب متابعة شؤون عهد التميمي وبناء هالتها المثيرة للإعجاب. جمهور الشباب يرى فيها نموذجاً أعلى، ولا يتأثرون من مشاهد اعتقالها ومحاكمتها وما يرافقها من ترهيب. الشعراء يتغنون بها والعائلات الشابة تطلق اسمها على المواليد الجديدات، والفنانون يعدون لها الأغنيات. الفنانة الأردنية، زين العوض، أطلقت أغنية بعنوان «صرخة عهد»، التي كتبت كلماتها بنفسها وقامت بتلحينها. وأطلقت المغنية الأردنية تانيا ماريا صقال، بالتعاون مع شركة الاتصالات الجوالة الأردنية، أغنية «أنتِ العهد».
لقد تحوّلت عهد التميمي إلى رمز لجيل جديد من الفلسطينيين، وُلِد في ظل الاحتلال لكنه لا يقبل بالاحتلال بل يتعهد للجيل السابق بأنه سيواصل الطريق حتى تتحقق له حريته من الاحتلال واستقلاله في دولة.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.