كلّما تعلّق الأمرُ بنهاية سنة وبداية أخرى، أجدُني بين وضعين مختلفين متخالفين، وبينَ حالين متميّزين متمايزين، وضعِ مغادرٍ مدبر، وحالِ حائلٍ مقبل، أغلق خزانة السنة القديمة وأفتح خزانة السنة الجديدة... فحين تغادرك اللحظة ويهرب منك الحاضرُ ليسكن الماضي، فهذا لا يعني أنّ تلك اللحظة قد امّحت واختفت، إنّها حيّة موجودة في الزمان... إنّنا في النهاية نقصدُ أحداثاً ونغادر أخرى، وحين تهربُ منّا الأحداث وتنفلتُ لتصبح جزءاً من الماضي فإنّها بالتأكيد تتقاطعُ مع الأحداث التي تسكن الآتي ولم تحدث بعد، الحدثُ في النهاية إمّا واقعٌ أو متوّقعٌ... إمّا وقع وانتهى وإمّا لم يقع بعدُ... فلا يمكنُ أن أتحدث عن نهاية سنة دونَ أنْ أتحدّث عن فلسفة الزمان المرعبة والتي وجب التعامل معها بكثير من الوعي والإدراك.
لعلّ أهمّ حدثين مرّا على الجزائر خلال سنة 2017، هما تعزيزُ التقدّم الديمقراطي وترتيبُ البيت السياسي باستحقاقين انتخابيين، الانتخابات التشريعية 04 مايو (أيار) والانتخابات المحليّة 23 نوفمبر (تشرين الثاني)، وهما الحدثان اللّذان ترتّب عنهما تشكيل مجلس شعبي وطني جديد (برلمان)، ومجالس بلديّة وولائيّة جديدة.
وللجزائر تجربة عميقة وراسخة في تسيير العملية الانتخابية بدأتْ منذُ تسعينات القرن الماضي، فالصّرحُ الديمقراطي التعدّدي ما فتئ يتدعّم في البلاد بلبناتٍ واثقة ومؤسسة على الشفافية والنزاهة والحريّة، ولعلَّ الشعب الجزائري من خلال هذين الحدثين تمكّن من اختيار ممثليه في مختلفِ الهيئات والمؤسسات التي تُعنى بتشريع قوانينه وتسيير حياته اليومية.
الأكيدُ أنّ عملية التحوّل الديمقراطي التي اعتمدتها الجزائر لم تكن سهلة تماماً؛ إذ تخللتها مكابدات سياسية وأمنية معقّدة، ولم تكن «فاتورتها» زهيدة، بل كثيرٌ من التضحيات والندوب التي تركتها أزمة التسعينات في جسد المجتمع الجزائري الذي تخطّى حقل الألغام وتعافى من ذلك بعد عمل سياسي وقانوني وثقافي شاق، تمّ استباقه بتشريح للأزمة - المأساة، وبتفكيك للواقع الاجتماعي بمخطط أرسى دعامته الرئيس عبد العزيز بوتفليقة من خلال اعتماء مصالحة وطنية وإصلاحات شاملة؛ إذ أدرك الجزائريون في النهاية، أنّهم شركاء في تسيير مرحلة ما بعد الإرهاب، وتكريس شرعية المؤسسات، والمساهمة في إدارة الشأن السياسي للبلاد ضمن التنوّع السياسي والحزبي، سلطة ومعارضة، ومنطلق هذا، الوعي الجماعي للفرد الجزائري الذي صار العالم أمامه مفتوحاً على خبرات وتجارب سياسية أخرى قد تكون ناجحة أو فاشلة.
ومن أجل هذا فقد تعزّزت المنظومة التي تسيّر الاقتصاد الجزائري بجملة من الترتيبات والقوانين، أهمّها مراجعة قانون القرض والنقد، وهو ما سيساعدُ على تدعيم اقتصاد وطني حيوي ونشيط يعتمدُ على الطاقات البديلة والاستثمار الحقيقي في شتّى المجالات، ولا سيما في الصناعة والزراعة مع تدعيم تجربة المؤسّسات المصغرة والمتوسّطة لتكونَ رهاناً حقيقياً سيأتي بثماره بعد سنوات قليلة إن شاء الله، وإنّ رغبة الحكومة في تحقيق هذه الخيارات بعد تحديدها ستثمر حسب توقعات المختصين والخبراء بمنظومة اقتصادية قويّة تكون بديلاً حقيقيّاً لصادرات النفط الحالية، ومن هذا الموقع لا بدّ من التذكير بدعوة الحكومة لكلّ المستثمرين والفاعلين الاقتصاديين في العالم إلى اكتشاف البيئة الاقتصادية في الجزائر، بعد تشريع كثير من التسهيلات للراغبين في الاستثمار.
لكنَّنا في النهاية مجبرون على حماية هذه القوانين وحماية تطوّر عملية النموّ الاقتصادي في البلاد بتعزيز شبكات الأمن المختلفة، سواء تعلّق الأمر بمكافحة الاتّجار غير الشرعي لمختلف المنتجات وإيقاف تهريبها خارج الحدود، أو بمكافحة آفة المخدّرات التي تتسلل إلى شبابنا أيضاً من الحدود أو بمكافحة الإرهاب والتطرّف المتسلل إلينا من الحدود الشرقيّة والجنوبية، وفي هذا الصدد فقد لعبت خبرة المؤسسة العسكرية بمختلف قواتها دوراً قوياً في القضاء على أي بادرة لعودة مثل هذه الجماعات الإرهابية المتطرفة التي يبدو أنّ كثيراً منها حفظ درس تيقنتورين (2013)، فالجيش الوطني الشعبي تمكّن في السنوات الماضية ـ رغم خطورة الوضع في دول الجوار ـ ولا سيما سنة 2017 من وضع حدّ لتقدم خطر الموت والدمار، فكانت حدودنا الشرقيّة مقبرة حقيقيّة للإرهابيين الدمويين.
في هذه السنة، انتخب الرئيس عبد العزيز بوتفليقة نائباً لرئيس الاتحاد الأفريقي، ويعلم الجميعُ أنَّ البعد الأفريقي في السياسة الجزائريّة على قدرٍ كبير من الأهميّة؛ ذلكَ أنّ الجزائرَ بلدُ التنوّع والاختلاف، والأبعاد الكثيرة التي تشكّل الهوية والانتماء الجزائريين هي في الحقيقة مصدر ثراء ثقافي وسياسي وفكري كبير.
وشهدت الجزائر زيارة عديد من الزعماء، شكّلت فيها زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الاستثناء؛ لطبيعة العلاقات التاريخية وثقل الملفات وحساسية بعضها، ورغم أنّ الجانب الاقتصادي أضحى يأخذ حيّزاً مهماً بين البلدين، فإنّ ملف الذاكرة يبقى حاضراً باستمرار، مع تسجيل تطوّر نوعي في معالجة بعض القضايا ذات الصّلة، بينها موافقة الرئيس الفرنسي على استعادة جماجم المقاومين الجزائريين المحفوظة في متحف الإنسان بفرنسا، بعد استيفاء بعض الإجراءات القانونية، وهي خطوة ذات دلالات مرتبطة بملف استعادة الأرشيف بكلّ أبعاده.
في سياق الذاكرة، تميزت سنة 2017 برحيل المفكّر والسياسي رضا مالك، واحدٌ من أبرز الوجوه السياسيّة والفكرية في الجزائر، ومن ضمن أهمّ الفاعلين في مفاوضات إيفيان التي جرت قبيل الاستقلال بأشهر، وهو الذي تبوأ عديداً من المناصب الدبلوماسية والحكومية، وعرف بسجالاته الفكرية والسياسية وجرأته في مواجهة خصومه، وبدرجة أخصّ في التيار الإسلامي.
لا يختلف اثنان في أنّ للدبلوماسيّة الجزائريّة ثوابت ومعالم، تأسست على عقيدة الثورة الجزائريّة، وتعزّزت بقامات عديدة، أبرزها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الذي حاور وفاوض في مسيرته الطويلة كبار العالم أمثال ديغول وويلي برانت، وبريجنيف وتشي غيفارا وشوون لاي وغيرهم، أبقى على ذلك الخط في إدارته للشأن الخارجي للجزائر، بالحفاظ على استقلالية القرار والموقف من كلّ القضايا حتّى تلك التي تتسم بالحساسية العالية، من قبيل أن الجيش الجزائري محكوم بمبدأ عدم التدخل في نزاعات خارج حدوده؛ لأنّ الجزائر تتبنى مبدأ الحوار أوّلاً وثانياً وأبداً؛ لهذا فإنّ 2017 شهدت محافظة الجزائر على هذه القاعدة، وأنصفها التاريخ كثيراً.
لا يمكنُ أن نمرّ على سنة 2017 دون أنْ نتذكّر القرارَ المؤسف والمجحف للرئيس الأميركي بإعلان القدس عاصمةً للكيان الإسرائيلي، إنّه القرار المؤلم الذي تعتبره الجزائر تجاوزاً للقرارات الأممية في شأن القضية الفلسطينية، ودوساً على حقوق شعب يشهد كلّ العالم بالظلم الواقع عليه بسبب السياسات غير المنصفة، وطبيعي أن يستمرّ الجزائريون في ترديد مقولة الرئيس بومدين «نحن مع فلسطين ظالمة أو مظلومة». هناك أحداث كثيرة في الثقافة والفنّ سنة 2017، لعلّ أهمّها تمكنّنا من إنجاز فيلم سينمائي يجسّد حياة العلّامة عبد الحميد ابن باديس، في فترة وجيزة جدّاً، الفيلم الذي انطلق تصويره فعلياً في يونيو (حزيران) 2016، تمّ عرضه الشرفي الأول في مايو 2017، وهي السنة التي عادَ فيها صاحب رائعة «آفافا إينوفا» الفنان الكبير إيدير، معلناً عودته بعد غياب دام قرابة أربعين عاماً؛ إذ سيحيي حفلين يومي 4 و5 يناير (كانون الثاني) 2018.
كما شهدت2017 تكريم الفنّان الكبير لونيس آيت منقلات بالدكتوراه الفخرية في جامعة تيزي وزّو ضمن الاحتفالات بمئوية الكاتب الراحل مولود معمري، دون أن ننسى إطلاق تسمية اسم محمد فوزي، الفنان المصري الكبير، على المعهد العالي للموسيقى بالجزائر العاصمة بتوصية من رئيس الجمهورية مع إسدائه وسام الاستحقاق الوطني ما بعد الوفاة، باعتباره ملحّن النشيد الوطني الجزائري الخالد «قسماً» الذي كتب كلماته شاعر الثورة مفدي زكريّا. وهي اللفتة التي تفاعل معها الرأي العام في مصر والجزائر؛ كونها تعبّر عن وفاء وعرفان من الجزائر لهذا الفنان العبقري، حيث تنازلت عائلته عن حقوقها المادية للدولة الجزائرية.
2017 كانت سنة الاحتفاء بالثقافة الأفريقية في الجزائر من خلال جنوب أفريقيا، ضيف شرف المعرض الدولي للكتاب، الحدث الثقافي الأبرز والأكثر استقطاباً في الجزائر بمليوني زائر... كما تميزت السنة بتكريس علوّ كعب الكتاب الجزائريين في المشهد الثقافي العربي من خلال مشاركاتهم العديدة في مختلف اللقاءات الأدبية والثقافية، ولعلّ الأهمّ هو فوز ثلاثة كتّاب جزائريين بأهم جوائز «كتارا»، هم سعيد خطيبي، وعبد الوهاب عيساوي، والدكتور بشير ضيف الله... كما شهدنا تنظيم عديد من الفعاليات في السينما والمسرح والأدب ومختلف الفنون، على غرار مهرجان وهران الدولي للفيلم العربيّ، وهو الذي كان بوابة حقيقية لعودة التتويجات إلى السينما الجزائرية التي فازت بأهم جوائز المهرجان، فضلاً عن مهرجان الفيلم الملتزم الذي يعكس القيم الإنسانية والنضالية التي رسّختها الثورة الجزائرية كواحدة من ثوابتها. ورحلت عنّا خلال هذا العام أسماء وازنة في المشهد الثقافي والفكري والإبداعي، بينها المفكر والسياسي العربي دماغ العتروس، والذي يعدّ من ضمن أبرز رموزنا الثقافية والنضالية، وأحد أبرز فناني الجزائر من المجدّدين في عالم الموسيقى الراحل بلاوي الهواري الذي تسلّم من الرئيس وسام الاستحقاق الوطني قبل أشهر قليلة من وفاته، تاركاً خزانة فنية كبيرة ومهمة... وكانت بداية السنة قد عرفت فقداننا واحداً من أبرزِ جهابذة اللغة العربية والمعروف بـ«أبو اللسانيات» وهو المرحوم عبد الرحمن حاج صالح، رئيس المجمع الجزائري للغة العربية سابقاً، والحائز جائزة الملك فيصل العالمية.
ونزلت خلال 2017 الجزائر ضيف شرف على مهرجان «سوق عكاظ» بالطائف في المملكة العربية السعودية، حيث احتفت المملكة بجوانب من التراث الثقافي الجزائري، واعتبر الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز حضور الجزائر خطوة نحو بناء جسور تبادل ثقافي دائم خدمة للتراث العربي.
في الختام، نأمل أن تكون سنة 2018 سنة خير وبركة على البشريّة جمعاء، وأن يعمّ الأمن والسلامُ الشارع العربيَّ، نتمنى أنْ تكون سنة تراجعُ فيها الشعوب العربيّة خياراتها الثقافيّة ورهاناتها الاجتماعيّة.
الجزائر: إنجازات وتحولات... وثوابت
هكذا عاشت عام 2017

عز الدين ميهوبي وزير الثقافة الجزائري
الجزائر: إنجازات وتحولات... وثوابت

عز الدين ميهوبي وزير الثقافة الجزائري
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة