المغرب: سنة تكريس صورة تنوع الممارسة الثقافية

جوائز ورحيل... و«أصيلة» على مشارف الأربعين

من فعاليات منتدى «أصيلة»
من فعاليات منتدى «أصيلة»
TT

المغرب: سنة تكريس صورة تنوع الممارسة الثقافية

من فعاليات منتدى «أصيلة»
من فعاليات منتدى «أصيلة»

بقدر ما واصلت سنة 2017 تكريس صورة التنوع الذي يسم الممارسة الثقافية في المغرب، من خلال المهرجانات الدولية والتظاهرات الكبرى ذات التوجهين الأدبي والفني، مع ما يرافقها من دينامية فنية وأدبية وتكريم لرموز الفعل الثقافي وحصول على الجوائز، داخل البلد وخارجه، بشكل ينقل صورة إيجابية عن الحركية التي تتوج للمنجز الثقافي وتعطيه حضوراً إقليمياً ودولياً، فتحت عناوين أخرى، من قبيل ذهاب وزير الثقافة محمد الأمين الصبيحي وحلول محمد الأعرج مكانه، وتأجيل تنظيم دورة 2017 من المهرجان الدولي للفيلم بمراكش إلى 2018، وإرجاء عقد المؤتمر الوطني التاسع عشر لاتحاد كتاب المغرب إلى وقت لاحق، فضلاً عن رحيل عدد من رموز الفن والثقافة في المغرب، باباً لمساءلة واقع الممارسة الثقافية في البلد.
خلال 2017، نظمت في عدد من المدن المغربية مهرجانات ذات صيت عالمي. وفي حين حافظت أهم المواعيد الفنية والثقافية على مواعيدها وتميز برامجها، شكّل المهرجان الدولي للفيلم بمراكش، الاستثناء، بعد أن قررت المؤسسة المنظمة عدم تنظيم دورة 2017، وتأجيلها إلى 2018، موضحة أنه «سيتم خلال هذه الفترة الانكباب على تحديد وإعطاء دينامية للتغيير الذي يتوخى إرساء تنظيم جديد وآليات جديدة تأخذ بعين الاعتبار التطور الذي يعرفه العالم الرقمي، من أجل خدمة، بشكل أفضل، رؤية وأهداف المهرجان».
غير بعيد عن مراكش التي شهدت تنظيم الدورة السابعة من مهرجان «مراكش للضحك»، ما بين 28 يونيو (حزيران) و2 يوليو (تموز) الماضي، واصلت الصويرة احتضانها مهرجاناتها الثلاثة. وفي حين احتفى مهرجان «ربيع الموسيقى الكلاسيكية»، في دورته الـ17، التي نظمت ما بين 27 و30 مايو (أيار)، بـ«الكوني» و«الآخر»، مقترحة جولة موسيقية عبر العالم؛ احتفت الدورة الـ14 من مهرجان «الأندلسيات الأطلسية»، التي نظمت ما بين 26 و29 أكتوبر (تشرين الأول)، بـ«سعادة العيش المشترك» في المغرب.
من جهتها، اقترحت فعاليات «مهرجان كناوة وموسيقى العالم»، في دورته الـ20، التي نظمت ما بين 29 يونيو وأول يوليو، احتفالية جمعت متعة الموسيقى بفضيلة الحوار الثقافي، حيث شهدت التظاهرة، في شقها الموسيقي، مشاركة عدد من نجوم موسيقى البلوز وكناوة، حيث المزج الموسيقي والتبادل في صلب الإبداع، في حين تطرق منتدى حقوق الإنسان، في دورته السادسة، الذي تنظمه إدارة المهرجان بشراكة مع المجلس الوطني لحقوق الإنسان، إلى موضوع «الإبداع والسياسات الثقافية في العصر الرقمي».
وفي أصيلة، نظم «موسم أصيلة الثقافي الدولي» فعاليات دورته الـ39، ما بين 1 و25 يوليو، مقترحة برنامجاً غنياً، توزعته الدورة الـ32 لجامعة المعتمد ابن عباد الصيفية، ومشاغل الفنون التشكيلية، ومرسم الطفل، ومشغل كتابة وإبداع الطفل، ومعارض الفنون التشكيلية، وباقة من العروض الغنائية والموسيقية الراقية.
وعلى غرار المواسم الماضية، حرص القائمون على هذا الحدث المتميز، الذي يحتفل في دورته المقبلة بوصوله إلى محطته الـ40، على التجديد النوعي والكمي، ضمن خيار الاستمرارية والمحافظة على الهوية الفكرية، التي طبعت الموسم منذ انطلاقه، في 1978، كتظاهرة هادفة غير مسبوقة في المجال الثقافي غير الحكومي في المغرب؛ ما أكسب الموسم مصداقية متجددة، فصار موعداً ثقافياً دولياً بامتياز، تقصده النخب السياسية والثقافية المغربية والأجنبية، خصوصاً من دول الجنوب والمنطقة العربية، على أساس أنه من الواحات الفكرية القليلة في العالم وعالم الجنوب، التي يجري فيها نقاش خصب بين الفاعلين ومنتجي الأفكار بخصوص قضايا وإشكاليات لها اتصال بصميم الراهن الثقافي والمعيشي العام.
وتضمن البرنامج المسطر، في إطار جامعة المعتمد بن عباد، ندوات تؤكد احتفاء أصيلة بفضيلة النقاش والحوار والانخراط بفعالية في كل ما يتعلق بالأسئلة التي تؤرق الشعوب والنخب وصناع القرار عبر العالم. في هذا السياق، كان جمهور الموسم ومتابعوه مع ندوات «أفريقيا والعالم: أي عالم لأفريقيا؟»، و«الشعبوية والخطاب الغربي حول الحكامة الديمقراطية»، و«المسلمون في الغرب: الواقع والمأمول»، و«الفكر العربي المعاصر والمسألة الدينية». كما تميز الموسم بتكريم المفكر المغربي محمد سبيلاً، ضمن فقرة «خيمة الإبداع»، مع الاحتفاء بالذكرى الـ20 لصدور مجلة الأدب العربي الحديث (بانيبال)، التي تلعب «دوراً هائلاً في ترجمة الأدب العربي».
وعلى مستوى الفنون التشكيلية والكتابة، اقترح الموسم معارض فنية، جماعية وفردية، وجدارية لـ«حكاية منضالا» ومرسماً لأطفال الموسم ومشاغل لصباغة الجداريات والحفر والصباغة وكتابة وإبداع الطفل.
أما على مستوى العروض الموسيقية والغنائية، فقد كان الجمهور مع سهرات ممتعة زادت ليالي أصيلة أنساً وبهجة، بينها سهرات مجموعة «الحضرة الشفشاونية» من المغرب؛ و«فلامنكو» مع ماكارينا راميريث من إسبانيا؛ وطرب أندلسي مع فرقة محمد العربي التمسماني للمعهد الموسيقي بتطوان برئاسة الأستاذ محمد الأمين الأكرامي من المغرب.
- فاس... الماء والمقدس
وفي فاس، واصل مهرجان الموسيقى العالمية العريقة مسيرته، فنظم دورته الـ23، ما بين 12 و20 مايو، تحت شعار «الماء والمقدس»، محتفياً بالصين «ضيف شرف». في حين تضمن البرنامج لقاءات وتجارب متعددة الثقافات وحفلات موسيقية، نشّطها عدد من الفنانين والمجموعات الموسيقية، قبل أن تتوج بحفل اختتام أحيته الفنانة اللبنانية ماجدة الرومي؛ في حين خصص «منتدى فاس» لمناقشة تيمة الماء من زوايا العلاقة بالأبعاد الروحية ومتطلبات التنمية المستديمة والنظم البيئية الهشة.
وفي الرباط، واصل مهرجان «موازين... إيقاعات العالم» استقطاب أبرز نجوم الغناء في العالم، حيث تابع مئات الآلاف، ما بين 12 و20 مايو، حفلات فنانين مغاربة، عرب وغربيين، بينهم شارل أزنافور، الأسطورة الحية للأغنية الفرنسية، والنجمة البريطانية إيلي غولدينغ، في الافتتاح، مروراً بالفنان المتميز سامي يوسف، والنجم العراقي ماجد المهندس، والنجمة اللبنانية نوال الزغبي، والنجم الأميركي نيل رودجرز، ونجمة البوب الأميركية لورين هيل، والفنانة الهندية أنوشكا شانكار، والفنانة اللبنانية نجوى كرم، انتهاء بالفنان الإيفواري ألفا بلوندي، والفنان الإنجليزي رود ستيوارت، والفنان السوري جورج وسوف.
- النشر والكتاب
احتضنت الدار البيضاء، ما بين 11 و21 فبراير (شباط)، الدورة الـ23 للمعرض الدولي للنشر والكتاب، التي استضافت 10 دول من المجموعة الاقتصادية لدول وسط أفريقيا، «ضيف شرف».
وتميز برنامج هذه الدورة، التي اقترحت فضاءاتها نحو 100 ألف عنوان في ثلاثة ملايين نسخة لنحو 702 عارض، توزعوا بين 353 عارضاً مباشراً و349 عارضاً غير مباشر، من 54 بلداً مشاركاً، بندوات موضوعاتية حول قضايا ثقافية راهنة، وإضاءات لتجارب في الكتابة، وليالٍ شعرية، واستضافات لمبدعين في فقرة «ساعة مع كاتب»، واستعادات ثقافية في فقرة «الكتابة والذاكرة»، واحتفاءات بـ«أسماء فوق البوديوم»، وتنويهات بأسماء جديدة ضمن فقرة «أدباء قادمون»، وفقرة «طريق الحرير: تجارب في الترجمة بين العربية والصينية»، مع تسليم «جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلة»، والاحتفاء بمئوية الكاتب المغربي الراحل إدمون عمرن المليح.
- المغرب كتاب مفتوح
وجد المسؤولون المغاربة في مشاركة المغرب في فعاليات معرض باريس، «ضيف شرف» فرصة «استثنائية»، تتيح «التعريف بغنى وتنوع الثقافة المغربية بشتى تعابيرها الأدبية والفنية، سواء لدى الجمهور الواسع، أو بالنسبة لمهنيي الكِتاب بفرنسا والدول المشارِكة في هذا المعرض، الذي نظم ما بين 24 و27 مارس (آذار).
وضم الرواق المغربي، المنسجم مع تِيمة «المغرب كتاب مفتوح»، مكتبة كبرى عرضت رصيداً وثائقياً ناهز 3 آلاف عنوان في 17 ألف نسخة، تم نشرها من 60 ناشراً ومؤسسة مغربية، إلى جانب 30 مؤسسة فرنسية أصدرت لكتاب مغاربة. كما شمَل فضاءات مخصَّصة للقاءات، مكّنت من تنظيم نحو 45 ندوة ولقاء، تم تنشطيها من طرف 90 كاتباً ومحاضراً، في حين مكّن فضاءُ التوقيعات من اللقاء المباشر بين الكُتاب المغاربة والجمهور.
- جوائز تميز
شهدت 2017 حصول عدد من الأدباء المغاربة على جوائز مهمة، داخل وخارج المغرب. فضمن جائزة «كتارا»، في دورتها الثالثة، توّج محمد برادة بجائزة «فئة الرواية المنشورة» عن روايته «موت مختلف»، في حين فاز مصطفى النحال بجائزة «فئة الدراسات التي تعنى بالبحث والنقد الروائي» عن دراسته «الخطاب الروائي وآليات التخييل: دراسات في الرواية العربية»، بينما فاز طه محمد الحيرش بجائزة فئة «الروايات غير المنشورة» عن روايته «شجرة التفاح».
وفاز سبعة كتاب مغاربة، هم عبد الرحيم حزل، والمهدي الغالي، وأحمد بوغلا، وعز المغرب معنينو، ورشيد اركيلة، وسليمان القرشي وعبد النبي ذاكر، بجوائز ابن بطوطة لأدب الرحلة، في دورتها المزدوجة الـ13 والـ14 لسنتي 2017 و2018، التي أعلن مشروع «ارتياد الآفاق» عن نتائجها، التي يمنحها «المركز العربي للأدب الجغرافي» سنوياً، كما حصل عبد الرفيع جواهري، الشاعر والرئيس الأسبق لاتحاد كتاب المغرب، على «جائزة الحريات»، التي يمنحها الاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، وذلك لـ«دفاعه المتواصل، سواء في أشعاره أو في مقالاته، وأيضاً في مواقفه الكثيرة، عن الحريات في وطننا العربي».
وخارج جغرافية الاحتفاء والجوائز العربية، وشحت ليلى السليماني، الروائية ذات الأصول المغربية، ضمن فعاليات معرض باريس، بالوسام الفرنسي للفنون والآداب، من درجة ضابط، على يد أودري أزولاي، وزيرة الثقافة والاتصال في فرنسا، ذات الأصول المغربية وابنة أندري أزولاي، مستشار العاهل المغربي الملك محمد السادس، التي انتخبت، في 13 أكتوبر، مديرة عامة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم الثقافة (يونيسكو).
وأسفرت نتائج جائزة المغرب للكتاب، بِرسم 2017، عن فوز عبد الكريم جويطي بجائزة السرديات والمحكيات عن روايته «المغاربة»؛ فيما ذهبت جائزة الشعر لنبيل منصر عن ديوانه «أغنية طائر التم»؛ بينما فاز بجائزة العلوم الإنسانية (مناصفة) عبد العزيز الطاهري عن كتابه «الذاكرة والتاريخ» ويحيى بولحية عن كتابه «البعثات التعليمية في اليابان والمغرب». وفاز محمد خطابي بجائزة الدراسات الأدبية والفنية واللغوية عن كتابه «المصطلح والمفهوم والمعجم المختص»؛ في حين عادت جائزة العلوم الاجتماعية لعبد الرحيم العطري عن كتابه «سوسيولوجيا السلطة السياسية»؛ بينما فاز محمد حاتمي ومحمد جادور بجائزة الترجمة عن ترجمتهما لكتاب «الأصول الاجتماعية والثقافية للوطنية المغربية» لعبد الله العروي.
وبعد محمد السرغيني في 2005، والطاهر بن جلون في 2010، كان محمد بنطلحة ثالث شاعر مغربي يتسلم «جائزة الأركانة العالمية للشعر»، في دورتها الحادية عشرة، من «بيت الشعر في المغرب»، وذلك خلال حفل ثقافي وفني، نظم يوم 2 فبراير، وسط حضور نوعي من مختلف المشارب.


مقالات ذات صلة

السعودية تدعو لشراكات دولية فاعلة لمعالجة التحديات البيئية

الاقتصاد وزير البيئة والمياه والزراعة السعودي خلال القائه الكلمة ضمن فعاليات «يوم التمويل» (كوب 16)

السعودية تدعو لشراكات دولية فاعلة لمعالجة التحديات البيئية

دعت السعودية إلى تعزيز الشراكات الفاعلة لخلق فرص تمويل جديدة؛ لدعم مبادرات ومشاريع إعادة تأهيل الأراضي، وتعزيز قدرتها على الصمود في مواجهة الجفاف.

«الشرق الأوسط» (الرياض)
الخليج وزراء الخارجية لدول مجلس التعاون الخليجي بعد اجتماعهم في الكويت (كونا)

وزراء الخارجية لتوحيد الموقف الخليجي من القضايا الإقليمية والدولية في «قمة الكويت»

بحث وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي، اليوم (الخميس)، التطورات الإقليمية والدولية، وفي مقدمتها تطورات القضية الفلسطينية.

ميرزا الخويلدي (الرياض)
الخليج الأمير فيصل بن فرحان وزير الخارجية السعودي خلال إلقائه كلمته في الجلسة الثالثة لقمة دول مجموعة العشرين (واس)

السعودية تدعو إلى تبني نهج متوازن وشامل في خطط التحول بـ«قطاع الطاقة»

أكدت السعودية، الثلاثاء، أن أمن الطاقة يمثل تحدياً عالمياً وعائقاً أمام التنمية والقضاء على الفقر، مشددة على أهمية مراعاة الظروف الخاصة لكل دولة.

«الشرق الأوسط» (ريو دي جانيرو)
الولايات المتحدة​ الرئيس الأميركي جو بايدن خلال قمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ (آبيك) في ليما - بيرو 15 نوفمبر 2024 (رويترز)

بايدن: العالم يواجه لحظة تغيير سياسي كبير

حذّر الرئيس الأميركي جو بايدن، اليوم (الجمعة)، من مدة، من التغيير السياسي في أثناء عقده اجتماعاً مع زعيمي اليابان وكوريا الجنوبية في قمة آسيا والمحيط الهادئ.

«الشرق الأوسط» (ليما)
العالم عناصر شرطة حاملين الأعلام الوطنية يتوجهون إلى وزارة الثقافة في البيرو مكان انعقاد قمة منتدى «آبيك» في ليما 15 نوفمبر 2024 (أ.ب)

عدم اليقين يخيّم على افتتاح قمة آسيا والمحيط الهادئ بعد فوز ترمب

خيّم جوّ من عدم اليقين على قمة «منتدى التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ» (آبيك) المقامة في البيرو، بعد فوز دونالد ترمب في الانتخابات الأميركية.

«الشرق الأوسط» (ليما)

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!