جان دورميسون ... رحيل الارستقراطي المترف صديق الرؤساء والقادة

ربما كان آخر كاتب سعيد بعد فولتير

دورميسون على غلاف مجلة «لوبوان»  -  جان دورميسون
دورميسون على غلاف مجلة «لوبوان» - جان دورميسون
TT

جان دورميسون ... رحيل الارستقراطي المترف صديق الرؤساء والقادة

دورميسون على غلاف مجلة «لوبوان»  -  جان دورميسون
دورميسون على غلاف مجلة «لوبوان» - جان دورميسون

أخيرا مات جان دورميسون! وكنا نعتقد أنه لن يموت قبل بلوغ المائة عام. وهذا ما صرح به هو شخصيا عندما قال بكل ثقة واطمئنان: لا أعرف كيف يمكن أن أتحاشى ذلك. ولكن الإرادة الإلهية شاءت له أن يموت شابا صغيرا في الثانية والتسعين فقط! وقد عاش حياة رائعة من أسعد ما يكون. وربما كان آخر كاتب سعيد بعد فولتير. ولهذا السبب كان يتحسر بحرقة عندما اقترب منه الأجل. فالغني المترف الذي يعيش حياة القصور في أرقى الضواحي الباريسية غير الفقير المعذب الذي قد يقول: والله ارتحنا من هذه الحياة، اللهم عجل وبارك! نعم كان صاحبنا من الأثرياء جدا وينتمي إلى الطبقة الأرستقراطية العليا في المجتمع الفرنسي. وكان صديقا للرؤساء والزعماء من جورج بومبيدو إلى جيسكار ديستان إلى ساركوزي بل وحتى ميتران... وكان يتحدث معهم أحيانا من موقع الند للند. وكان رئيسا لتحرير أعرق جريدة فرنسية «الفيغارو». وكان موظفا كبيرا في اليونيسكو ومشرفا على تحرير مجلة «ديوجين» الرصينة التي كتبت فيها خيرة علماء أوروبا ومثقفيها. وكان عضوا في الأكاديمية الفرنسية منذ عام1973. وكان يكره جان بول سارتر كرها شديدا لأنه يميني والآخر يساري. وكان، وكان... هذا وقد خلف وراءه مؤلفات كثيرة لا يستهان بها. وقد قرأت بعضها أو الكثير منها في السنوات الأخيرة واستمتعت بها كل الاستمتاع. وتحدثت عن بعضها هنا أو هناك. ولكن ما لم أتحدث عنه هو كتابه عن السيرة العاطفية لشاتوبريان بعنوان: «آخر أحلامي سيكون لأجلك يا حبيبتي». وفيه يتحدث عن سلسلة قصص الحب التي عاشها كاتب فرنسا الأعظم بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. ومعلوم أن شاتوبريان كان قدوة جان دورميسون ولا يحلف إلا باسمه. وكان يعتبره قمة الآداب الفرنسية. وكان ينحني أمامه صاغرا متصاغرا. وكان يعتبر كتابه: «مذكرات ما وراء القبر» روعة الروائع الأدبية. ولكن سارتر كان يحتقره إلى درجة أنه بصق على قبره الواقع على جزيرة صخرية صغيرة مقابل مدينة سان مالو. وبإمكانكم أن تصلوا إليها سيرا على الأقدام عندما ينحسر البحر. وقد أدهشتني جدا بموقعها وجمالها الساحر عندما رأيتها لأول مرة. فسألتهم متعجبا: ما هذا المكان؟ ما هذه الجزيرة الصغيرة؟ فأجابوني: ألا تعرفها؟ هنا يرقد شاتوبريان.هذا قبره تحت ظلال الأشجار ومياه البحر تحيط به من كل جانب. منظر ولا أروع! يا له من قبر جميل. إنه أجمل قبر رأيته في حياتي. وقد أوصى بذلك شخصيا قبيل وفاته ورفض قطعيا أن يدفن في العاصمة باريس حيث توفي. أراد العودة إلى مسقط رأسه. ما الحب إلا للحبيب الأول... شكرا لأبي تمام. على أي حال لقد دنس سارتر قبره عن قصد لأنه كان يعتبره كاتبا رجعيا عميلا للملك لويس الثامن عشر المضاد لنابليون. ولكن المشكلة يا مسيو سارتر هي أن الكاتب الرجعي الحقيقي أفضل من الكاتب التقدمي الهزيل.كان سارتر يعيش آنذاك مرحلته اليسارية المتطرفة. وكان يقول بأن كل مضاد للشيوعية فهو كلب! هذا الهجوم اللائق أو غير اللائق لا يعني أبدا أني أضع جان دورميسون في مستوى سارتر. عيب!
نكتشف من هذه السيرة العاطفية لشاتوبريان أنه كان زير نساء. فالعشيقات يرتمين عليه من كل حدب وصوب. وذلك لأن الشهرة تجذب النساء كثيرا مثل السلطة... فكل شخص مشهور هنا له عشيقات كثيرات ما عدا ديغول الذي لم يخن زوجته أبدا قط. في غرناطة، وفي ظل الأمجاد العربية الأندلسية التقى شاتوبريان بإحدى حبيبات قلبه «ناتالي» عن طريق الصدفة المحضة حتى لكأنه نزار قباني:
في الساحة الحمراء كان لقاؤنا
ما أطيب اللقيا بلا ميعاد...
كان محظوظا شاتوبريان. كان محبوبا جدا من قبل النساء. وكان يستغلهن أحيانا أو يضحك عليهن أو يتهرب منهن بعد أن يكل ويمل.كان يتنقل من واحدة إلى أخرى كالفراشات. وكان يوهم كل واحدة بأنها حبيبة قلبه الوحيدة من دون الأخريات.كان لعوبا طروبا. هذا وقد تركت إحداهن زوجها من أجله، وأما الأخرى فقد جُنت، وأما الثالثة فقد انتحرت أو كادت... وأما نحن فلم تُذرف علينا دمعة واحدة حتى الآن. ولا يُتوقع أن يحصل ذلك في المدى المنظور. وهذا شيء غير جيد من طرفه. ألا يعذبه ضميره؟ وكان يقول أحيانا عن أصدقائه بعد أن شاخ وكبر وأصبح مسحوقا تحت وطأة الذكريات: كلهم ماتوا، كلهم رحلوا... لم يبق إلا أنا... متى سأرحل عن هذا العالم وأرتاح؟... ثم يضيف أحيانا: لو كنت حرا لعشت في العزلة والوحدة المطلقة. تلزمني صحراء ومكتبة وعشيقة واحدة فقط. ولكني أبالغ هنا وأشوه صورة شاتوبريان فيما يخص النساء. فالواقع أنه كان حساسا إلى أقصى الحدود وكان يبكي الحب المنصرم بدموع حرى. وعندما نقرأ الكتاب ندرك أنه كان إنسانا حقيقيا لوعه الحب. اقرأوا الفصل الثاني المخصص لقصة حبه مع واحدة تدعى باولين. فقد رافقها حتى اللحظة الأخيرة. ولم يتخل عنها أبدا عندما سقطت مريضة بل وفعل كل شيء من أجلها. وعندما كانت تحتضر كان ينتحب بحرقة في الغرفة المجاورة. وبالتالي فأعتذر عن الكلمات السابقة التي وصفته فيها بأنه رجل لعوب يتلاعب بقلوب النساء. فهذا نصف الحقيقة فقط.
ولكن ليس عن شاتوبريان سوف أتحدث لكم اليوم وإنما عن تلميذه النجيب جان دورميسون الذي فارقنا الأسبوع الماضي في إحدى ضواحي باريس الفاخرة. وقد شيعته فرنسا في جنازة وطنية مهيبة كما حصل لفيكتور هيغو من قبل. وكان على رأس المشيعين رئيس الجمهورية إيمانويل ماكرون وكبار الشخصيات. وهذه هي حال الدنيا كما قال شاعرنا العربي:
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
يوماً على آلة حدباء محمول
هذا وقد ألقى الرئيس ماكرون خطابا فلسفيا مهما استشهد فيه حتى بنيتشه! ولا أعرف من أين جاء بكل هذه الثقافة وكل هذا العمق. فهل الخطاب من تدبيجه يا ترى أم من تدبيج مستشاريه ومساعديه؟ ولكن الأرجح أنه هو صاحبه. ينبغي ألا ننسى أن ماكرون كان تلميذا للفيلسوف الكبير بول ريكور وربما سكرتيره أيضا. وهذا يعني أنه تلقى ثقافة فلسفية واسعة على يديه. وبالتالي فإذا عرف السبب بطل العجب. تقول عبارة نيتشه الرائعة: من شدة عمقهم كان الإغريق يبدون سطحيين! وطبقها ماكرون على دورميسون الذي كان يُتهم بالخفة والسطحية من قبل منافسيه وحساده في الساحة الباريسية.
- ما هي مؤلفات جان دورميسون التي أمتعتني فعلا واستفدت منها؟
إنها كثيرة ولا أستطيع أن أذكرها كلها. ولكن بالإضافة إلى الكتاب الجميل السابق الذي ذكرته عن الحياة العاطفية لشاتوبريان هناك كتاب أساسي يسترعي الانتباه. وهو يحمل العنوان التالي: تاريخ آخر للأدب الفرنسي، في جزأين. كم هو ممتع هذا الكتاب! كم هو مفيد لمن يريد أن يأخذ فكرة عن الأدب الفرنسي عبر تاريخه الطويل! إنه يثبت لك أن جان دورميسون كان يحب الأدب، يعبد الأدب عبادة. وربما لهذا السبب فإني أحترمه. إنه يذوب ذوبانا عندما يقرأ قصيدة لفيرلين أو لرامبو أو حتى لأراغون الشيوعي المضاد له طبقيا وآيديولوجيا. فالأدب يخترق كل الحدود والسدود. الأدب يعلو على كل الانقسامات والحزازات المتحزبة أو الحزبية. يقول في مقدمته للجزء الأول من الكتاب ما معناه: «أحب الكتب. كل ما يخص الأدب أحبه ويخفق له قلبي. أحب مؤلفيه، وأبطاله، وأنصاره، وخصومه، وخصوماته، واشتعالاته...».
ثم يضيف قائلا: «في هذا العصر الذي أصبحت فيه الكتب مهددة بالانقراض من قبل شيء بربري غامض فإن هذا التاريخ الجديد للأدب الفرنسي الذي أقدمه لكم حاليا لا يهدف إلا لشيء واحد: إغراء القراء بالتعرف على شخصيات الأدب الفرنسي. وهي شخصيات استعرضها هنا تباعا الواحدة بعد الأخرى. وإذا ما نجح كتابي هذا بدفع بعض القراء إلى فتح كتاب واحد لستندال أو لريمون كينو أو لأراغون إلخ... فإني أكون قد بلغت هدفي».
وأما في مقدمة الجزء الثاني من الكتاب فيقول جان دورميسون ما معناه: إن المنهج الذي استخدمته هنا في هذا الجزء الثاني هو ذاته الذي استخدمته في الجزء الأول. وهو يتمثل فيما يلي: التعريف بالكاتب وأعماله بشكل مختصر أولا. ثم الكشف عن شباب هذا الأدب وطابعه التجديدي المبتكر بعد أن مرت عليه القرون ثانيا. إني أتحدث لكم عن الموتى كما لو أنهم أحياء. فراسين لم يمت بالنسبة لي ولا كذلك كورني أو فولتير وبودلير وفلوبير... كلهم أحياء. يبلى الزمن ولا تبلى روائعهم الخالدة. وتجاعيد الزمن عاجزة عن أن تعلو على جبين وجوههم...
وعلى هذا النحو راح يستعرض جان دورميسون كبار شخصيات الأدب الفرنسي منذ أقدم العصور وحتى اليوم. على هذا النحو راح يتحدث لنا بأسلوبه الممتع الشيق عن فيكتور هيغو ولامارتين وبلزاك ورامبو ورينيه شار وعشرات الآخرين. وفائدة هذا الكتاب هي أنه لا يعطيك فكرة عن كبار العباقرة فقط وإنما يبين لك معناهم في الوقت الحاضر. ومن أقدر على ذلك من جاك دورميسون؟ بمعنى آخر فإنه يموضعهم في عصرهم ويموضعهم في عصرنا أيضا: أي ماذا تبقى منهم وماذا مات أو أصبح قديما باليا. ولكني لن أغفر له أنه أخطأ في تقييم جان جاك روسو.
- كلماته الأخيرة
أخيرا بالأمس القريب ظهرت ابنته الوحيدة هيلويز دورميسون على شاشات التلفزيون وأعطت للجمهور أخباره وآخر لحظاته قبل أن يموت. ونفهم منها أنه استطاع إكمال كتابه الأخير قبيل موته بوقت قصير جدا. وهذا خبر سعيد ومفرح. فعادة ما يترك الكتاب الكبار مخطوطاتهم ناقصة قبل رحيلهم. إنهم يموتون فجأة قبل أن تكتمل. بل ووجدت على مكتبه مخطوطة كتابه الجديد لأنه كان يكتب بخط اليد على الطريقة القديمة. تقول الصفحة الأخيرة من كتابه القادم الذي سيظهر بعد موته والتي خطها قبل ثلاثة أيام من رحيله:
«مجال لانهائي. كل شيء عابر. كل شيء ينتهي يوما ما. كل شيء يختفي ويزول. وأنا الذي كان يتخيل أنه سيعيش إلى الأبد ماذا سيحصل لي؟ ليس مستحيلا... ولكن يكفي أني عشت في هذا العالم الذي عشتم فيه أنتم أيضا. هذه حقيقة وجمال خالدان إلى الأبد. وحتى الموت لا يستطيع أن يفعل شيئا ضدي بعد الآن».
لم تكن عبارة ليس مستحيلا مكتملة وإنما ترك وراءها عدة نقاط فارغة... والمقصود بها أنه ليس مستحيلا أن يكون هناك شيء آخر بعد الموت. وهكذا ينتقل جان دورميسون من جنة الأرض الباريسية إلى جنان السماء العُلوية. هذا ما يطمح إليه ويأمله بكل تعطش وحرقة دون أن يكون متأكدا من وجود شيء آخر بعد الموت. وهذا ما كان يعذبه ويشغله على مدار الساعة في السنوات القليلة الماضية. كل كتبه الأخيرة تدور حول هذه النقطة.


مقالات ذات صلة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

ثقافة وفنون أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أربع ساعات مع إيزابيل الليندي في محبة الكتابة

أطلّت الكاتبة التشيلية الأشهر إيزابيل الليندي، عبر منصة «مايسترو»، في «هيئة الإذاعة البريطانية»، من صالونها الهادئ الذي يضم تفاصيلها الشخصية والحميمية

سحر عبد الله
يوميات الشرق «معرض جدة للكتاب 2024» يستقبل زواره حتى 21 ديسمبر الجاري (هيئة الأدب)

انطلاق «معرض جدة للكتاب» بمشاركة 1000 دار نشر

انطلقت، الخميس، فعاليات «معرض جدة للكتاب 2024»، الذي يستمر حتى 21 ديسمبر الجاري في مركز «سوبر دوم» بمشاركة نحو 1000 دار نشر ووكالة محلية وعالمية من 22 دولة.

«الشرق الأوسط» (جدة)
كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!