صدرت عن دار «الكتب خان» في القاهرة رواية «كل المعارك» للقاص والروائي الأردني معن أبو طالب، وهي روايته الأولى التي أُنجزت بدعمٍ أدبي من برنامج آفاق لكتابة الرواية الذي نُظِّم بالشراكة مع مُحترف نجوى بركات في دورته الثالثة. وما أن رأت هذه الرواية النور حتى شرع المترجم البريطاني روبن روغر بترجمتها إلى الإنجليزية.
لم تحظَ الرياضات بأنواعها المختلفة باهتمام القصاصين والروائيين العرب لذلك ظلت الملاكمة، والمصارعة، وكرة القدم وسواها من الرياضات الأخرى بمنأى عن تفكير المبدعين العرب.
وحينما يبحث القارئ العربي عن الروايات الأميركية خاصة، والعالمية بشكل عام عن رياضة الملاكمة فسيجد بسهولة ويُسر عشرات وربما مئات الروايات عن هذه الرياضة الشعبية التي يحضرها جمهور غفير من المحبّين والمشجّعين الذين يجدون أنفسهم فيها، ويتخذون من أبطالها رموزاً وأيقونات رياضية يبجّلونها، ويتابعون كل صغيرة وكبيرة في حيواتهم الخاصة والعامة. أما على الصعيد العربي فربما تكون «كل المعارك» هي الرواية العربية الأولى المكرّسة لرياضة الملاكمة التي عرفناها في الحضارة السومرية في الألف الثالث ق. م والتي أُدرجت في دورة الألعاب الأولمبية عام 1904.
لم يكتب معن أبو طالب هذه الرواية من فراغ، فهو مُحب للملاكمة، وشغوف بها، وقد زاولها على مدى عامين ونصف العام تقريباً لكنه تخلى عنها عملياً بعد أن وجد نفسه في الكتابة القصصية التي أعجبت بعض قرّائه ودفعته لأن يُنجز عمله الروائي الأول الذي حمل عنوان «كل المعارك» الذي استغرقه أكثر من سنتين قبل أن يظهر بحلّته النهائية التي تُذكرنا بروايات كُتاب أميركيين من طراز جيف سلفرمان، جويس كارول أوتس، نورمان مايلر، وإرنست همنغوي وغيرهم من الروائيين العالميين الذين كتبوا عن رياضة الملاكمة أو «الفن النبيل» كما يُطلق عليها البعض.
لم يبنِ أبو طالب روايته على قصة واحدة، وإنما هناك قصة موازية لجده سعد الدين حبجوقة الذي قاتل المستعمرين الروس في أرض القوقاز قبل أن يخرجوا منها إلى روما التي وفرت لهم الحماية ثم نقلتهم مع آخر فوج شركسي إلى الأردن عام 1948.
تتمحور ثيمة الرواية على شاب في أواخر العشرينات يُدعى سائد حبجوقة وهو من أصول شركسية، يعمل في شركة دولية مرموقة للدعاية والإعلان لكنه يجد نفسه متأرجحاً بين عالم المال والأعمال وعالم الملاكمة الذي ينبع من العنف كخصلة أساسية في حياة الكائن البشري بغض النظر عن ثقافته، وانتمائه الطبقي، وقناعاته الفكرية، ولهذا نراه يتخلى عن وظيفته المكتبية لمصلحة الحلبة ويبدأ تدريباته في نادي «سقف الحيط» بعمّان الشرقية التي تقف هي الأخرى في مواجهة عمّان الغربية، ونقيض لها في ثنائية الفقر والثراء، فالأولى شعبية، فظة في اللغة والتعامل اليومي، والثانية «راقية» مغتربة تتحدث بألسنة أوروبية متعددة، فهل يستطيع سائد حبجوقة أن يوازن بين هذين العالمين المتناقضين أم يتماهى في العالم الخشن، ويُتقن لغته «السوقية» كما تُوصف في الأعم الأغلب.
خاض سائد نزالات متعددة فاز فيها على خصمه الأول أمجد عربيات، وانتصر أيضاً على مُنازِعه الثاني رابح نزّال الأمر الذي دفعه إلى إثارة ثلاثة أسئلة في آنٍ معاً: «أهو بهذه القوّة إذن؟ بهذه الموهبة؟ بهذه المهارة؟» (ص28)، لكن الإجابة تأتي سريعاً حينما يشتبك مع «الضبع» الذي يُشبعهُ لكماً ويجعل «دمهُ يتطاير في الحلبة» (ص67).
وحينما يدخل أيضاً في عراك عنيف مع رجل ويخرج منه بكدمات كثيرة في رأسه وذراعية. أما نزاله الثالث فقد كان مع خالد العيساوي الذي أوسعهُ ضرباً حتى لاحظت صديقته دينا توقف بؤبؤي عينيه عن الحركة: «ويديه تنزلان إلى جانبه كأن لا سيطرة له عليهما، وساقيه لا تتحركان لحمله» (ص129).
ومع ذلك يصرّ سائد على مواصلة شغفه بالملاكمة، هذه الموهبة التي انتبه إليها متأخراً جداً وربما يلقى حتفه بسببها قبل أن يحقق طموحاته الفردية التي تتناغم مع طموحات أسلافه المقاتلين الذين أفنوا حياتهم في الدفاع عن أرضهم، وعرضهم، وكرامتهم التي يهون دونها كل شيء.
تتصاعد الأحداث درامياً حتى تبلغ ذروتها في مواجهة الملاكم الجزائري سامر بالحاج أو المقصلة كما يلقِّبونه، ويُعتبر هذا النزال المفصلي مدخلاً يلج من خلاله إلى بوّابة الاحتراف الذي يتحرّق شوقاً إليه. كما سيدّر عليه المال، والشهرة، ويحقق له ذاته في هذه الصنعة القتالية التي يفهمها أسلافه، ويقدّرونها حق قدرها.
على الرغم من حبه لصديقته دينا فإنه كان أنانياً، ولم يفكر بها ألبتة، فقد خانها مع ديمة، ولم ينتبه لمشاريعها وأحلامها المستقبلية التي لم تُثنِه أبدا عن المضي في هذه الطريق الجديدة التي تفتح أمامه فجأة.
كثيرون يخسرون في نزالات الملاكمة وربما يعتزل البعض منهم بسرعة ولكن أين يذهب أولئك الملاكمون الذين لا مهنة لهم سوى الملاكمة تماماً كما هو الحال مع الملاكم البورتوريكي ميجيل كوتو الذي خسر أمام النجم الصاعد أوستن تراوت بعد أن تلقّى كل أشكال الضرب المبرح خلال الاثنتي عشرة جولة ولم يعد قادراً على تحريك أي عضو في بدنه فاقتربت منه زوجته وهي تجهش بالبكاء مخاطبة إياه: «كفى ميجيل لقد تعبت، يؤلمني هذا» فيهمس في أذنها متسائلاً: «وماذا عساني أن أفعل؟ هذا كل ما أعرفه» (ص220) لكن مشكلة سائد حبجوقة تختلف كلياً عن كوتو أو سواه، فهو ناجح في الدعاية والإعلان، ويتقاضى راتباً مجزياً، ولديه صديقه يحبها، ولعله ينجح أيضاً في مهنٍ أخرى لكنه مُصر على مزاولة هذه الرياضة القاسية فهي «اللعبة الوحيدة التي يمكن فيها قتل الخصم والذهاب إلى البيت، وأخذ شاور ساخن بعدها وكأن شيئا لم يكن» (216).
وعلى الرغم من جروحه، وكدماته، ونزفه الداخلي فإنه بدأ بالتدريب من جديد بعد أن أفاق من غيبوبته، وشعر بخسارته الفادحة التي كلفته سمعته الشخصية، ووظيفته، وصحته التي تدهورت إلى أبعد حدّ، ومع ذلك فقد كان في دخيلة نفسه يتمنى أن ينازل بالحاج ولو لمرة واحدة في حياته غير أن هذا الحلم لن يتحقق بعد الآن لذلك يحزم أمتعته القليلة، ويتوجه بسيارته صوب الحدود حيث يُوقفه أحد العساكر سائلاً عن اسمه الكامل ومدققاً في صورته الشخصية التي يتذكرها جيداً وكأنها رمز للخسارة أو الهزيمة الوطنية حتى وإن كانت في الملاكمة التي لم يرتقِ إلى فنّها النبيل.
لا شك في أن ثيمة هذا الرواية مهمة جداً، وأن شخصياتها عميقة ومركبّة، وبالذات شخصية سائد الذي يحمل بعضاً من خصائص المؤلف الشغوف بالملاكمة لكن النهاية ظلت غامضة، ومبهمة إلى حدٍ كبير، ولم نعرف كقرّاء إلى أي نقطة حدودية تتجه هذه الشخصية المهزومة وكأننا في مكان افتراضي غير الأردن بحدوده الجغرافية المتعارف عليها.
ثمة قطع حاد وغير موفّق في نهاية هذه الرواية التي نجحت في كل المعطيات الآخر مثل الثيمة، واللغة، والشخصيات، والبناء الفني وما إلى ذلك. ولعل الملاحظة السلبية الأخرى في هذه الرواية هي الأخطاء اللغوية التي تتعلق بالعدد والمعدود وآمل أن يتجاوزها في روايته المقبلة.
«كل المعارك»... هاجس العنف المضمر في الكينونة البشرية
رواية أردنية مكرسة لفن الملاكمة
«كل المعارك»... هاجس العنف المضمر في الكينونة البشرية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة