في مدخل مدينة الإسكندرية وتحديداً أسفل كوبري للمشاة بحي محرم بك تجده بزيه التراثي، يعلو رأسه الطربوش الأحمر، وأمامه كرسي خشبي وثير ضخم، مطعم بحليات براقة ومساند من الجلد الطبيعي المريح.. إنها مملكته الخاصة، مجرد «قعدة» برونق ملكي، تحفها مصابيح ملونة وشاشة عرض، تزينها صور لكوكب الشرق أم كلثوم ونجيب الريحاني؛ في غبار ذكرياتهما الشجي، يطارد غبارا من نوع آخر، يعلق بأحذية المارة، ويجعل ألوانها باهتة وقديمة.
تستوقف «قعدة» عم حسن الكثير من المارة وقائدي السيارات ليلتقطوا الصور «السيلفي» معه، بينما تتناثر كلمات المديح من قبيل: «الله ينور»، «الله على الجمال». يلتقطها عم حسن بابتسامة لا تفارقه، مخففاً من قلقه الدائم على مصدر رزقه، وخوفه من حملات شرطة المرافق التي صادرت منذ عام أدواته ومقعده الوثير.
عن فكرة تصميم جلسة مميزة للراغبين في تلميع أحذيتهم واستعادة بريقها، يقول الستيني عم حسن لـ«الشرق الأوسط»: «لم تكن هذه مهنتي قبل عامين، عملت سائقا و(قهوجيا) وفي مهن أخرى كثيرة، لكن في السنوات الأخيرة لم أكن مرتاحاً في العمل وقد بلغت الستين، يزعجني سوء الظن أو سوء المعاملة من أحد، فكرت في عمل أكون فيه حرا لا يتحكم في أحد، فكان تلميع الأحذية». ويروي: «أخذت قطعة من مصاغ زوجتي وبعتها، وذهبت لنجار وطلبت منه تصميم المقاعد بهذا الشكل، وحرصت على وضع مصابيح إضاءة بالمكان، كما حرصت على تسلية الزبون، فأقدم له الجرائد والمجلات بحيث يقضي وقتا ممتعا، ويعيش أجواء ملكية بعيداً عن القبح الذي استشرى في حياتنا».
يضيف ضاحكا: «كنت أتمنى لو أن معي المزيد من الأموال وقتها كنت سأجعل الكرسي يلف بالريموت». ويستطرد عم حسن بحماس وشغف كبيرين: «كل أملي أن أحصل على كشك صغير وترخيص من المحافظة بالعمل، وقتها سأجعل منه مزارا سياحيا ينافس المزارات الأثرية، لدي الكثير من الأفكار المبهرة».
أصبحت جلسة «عم حسن» مزارا لكل من يمر عبر مدخل المدينة ذهابا وإيابا، وأصبح أهل الحي الذي كان مفضلا للطبقة الأرستقراطية بالإسكندرية قبل أن تستحوذ عليه الطبقة المتوسطة، يعرفونه بالاسم ويكنون له كل الاحترام والتقدير.
ووسط تلويح المارة وتشجيعهم له، يجلس عم حسن بكل فخر متباهيا بفكرته التي يهدف من ورائها لاستعادة نفحة من عبق الزمن الجميل، يقول: «أردت أن أذكر الناس بروعة الزمن الجميل، ووجدت أن خير من يعبر عن جمال ذاك الزمن أم كلثوم والريحاني، حيث كان الجمال والفخامة في كل شيء، حتى في معاملاتي أتعامل معهم بأخلاقيات زمان وأهمها الأمانة التي نفتقدها اليوم، وحسن المعاملة والأدب والابتسامة».
تكلفة تلميع الحذاء لدى عم حسن لا تتجاوز جنيهين، وسط الغلاء المستمر للأسعار فهو لا ينشد المزيد يرضى بالقليل ويرفض أن يصادر باقي الخمسة جنيهات بل يرد الثلاثة الباقية لأصحابها حتى لو اضطر للركض وراءهم. يقول: «الحمد لله على عفة النفس، وأنا أحب الناس ومهنة تلميع الأحذية، قربتني منهم، وجعلتني أتحدث معهم، أحيانا أشعر بأنّ الزبون محرج من استرداد الباقي لذا أحرص على رده إليه، أما الزبون الذي أشعر أنه يعطيني الخمسة جنيهات برضا نفس فأقبلها منه».
كانت مهنة «ماسح الأحذية» رائجة جدا في القرن الماضي، حين كانت جميع الأحذية مصنوعة من الجلود ولم تكن الأحذية الرياضية «كوتشي» «باليرينا» منتشرة بهذا الشكل، وشوارع الإسكندرية عادة ما تكون زلقة، خصوصاً في فصل الشتاء، فكانت تلك المهنة من أهم المهن التي يقدرها المارة. وكان العاملون بها يتمركزون في محطة الرمل والمنشية والمقرات الإدارية للشركات والبورصة وغيرها، وأيضاً المقاهي، فكان الزبون يحتسي قهوته أثناء تلميع حذائه. وكانت أدوات ماسح الأحذية الأكثر انتشاراً، مجرد صندوق خشبي يحمله متجولاً أو جالساً في مكان محدد، وكان الكثير منهم يعرفون الكثير من كلمات اللغات الأجنبية، الفرنسية والإنجليزية واليونانية أو الإيطالية بحكم تعاملهم مع أبناء تلك الجاليات في الإسكندرية.
يشير عم حسن إلى أن زبائنه من مختلف الأعمار والطبقات، خصوصاً الطبقة الميسورة الحال، ويروي أنه من المواقف التي لا ينساها أنّ شاباً ميسور الحال أوقف سيارته الفارهة بجواره وترجل منها وقال له «أول مرة ألمع جزمتي بسبب جمال قعدتك» وتتهافت الفتيات أيضاً على جلسة عم حسن، لكن من أجل التقاط «السيلفي» في الأعم، لكن بعض الفتيات والسيدات وجدن في تلك الجلسة فرصة لتجربة تلميع الحذاء للمرة الأولى، وأيضاً فرصة لتشجيع عم حسن الذي لم يمنعه كبر سنه من العمل بل إنه يعطي مثالاً للشباب الجالسين على المقاهي المجاورة بأن «الرزق يحب الخفية»، كما تقول السيدة دعاء كامل التي أصبحت تتردد على عم حسن بعد عودتها من عملها.
يبدأ عم حسن يومه في الثانية ظهراً ويلازم موقعه حتى منتصف الليل تقريباً، ويحتمي في كوبري المشاة من زخات الأمطار ورياح «النوات» التي تميز طقس الإسكندرية. وفي الليل يحمل على كتفيه الهزيلين أدواته الضخمة صاعدا؛ يودعها لدى أحد المقاهي ويعود لأسرته المكونة من زوجته وابنه وابنته، ويعاود الكرة في اليوم التالي ليباشر عمله.
كل ما يعكر صفو «عم حسن» القلق الدائم من مداهمة الشرطة ومصادرة مصدر رزقه، يقول: «منذ عامين بدأت العمل في محطة سيدي جابر بالقرب من محطة القطارات، لكن الشرطة صادرت المعدات والمقاعد، واضطررت لبيع أنبوبة الغاز التي نطهو بها، لكي أتمكن من تسديد الغرامة المالية وأستعيد معداتي؛ لذا أتمنى فقط ألا تطاردني الشرطة وأحصل على الترخيص بالعمل، لأنني للأسف ذهبت للمحافظة للحصول عليه ولم يسمعني أحد أو يلتفت لطلبي».
عم حسن... {صائد غبار أحذية المارة} في شوارع الإسكندرية
يوفر لهم مقاعد وثيرة وجرائد لتسلية الوقت
عم حسن... {صائد غبار أحذية المارة} في شوارع الإسكندرية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة