أوهورو كينياتا... رئيس كينيا «الرقمي»

فاز بالرئاسة في انتخابات متنازع على صدقيتها

أوهورو كينياتا... رئيس كينيا «الرقمي»
TT

أوهورو كينياتا... رئيس كينيا «الرقمي»

أوهورو كينياتا... رئيس كينيا «الرقمي»

وصف بعض المراقبين في كينيا الجيل الأكبر سناً من السياسيين، وعلى رأسهم رايلا أودينغا (72 سنة) بأنهم قادمون من المرحلة التناظرية (ANALOGUE) إلى المرحلة الرقمية (DIGITAL)، ما قد يخلق لهم «صعوبات جمة» في التعامل مع الأجيال الشابة الجديدة. وبالتالي، أطلقت الصحافة على منافسه أوهورو كينياتا الذي فاز أخيراً - كما كان متوقعاً بعد انسحاب أقوى منافسيه وتشكيكهم بنزاهة الانتخابات - لقب «الرئيس الرقمي» (DIGITAL PRESIDENT).
يتمتع الرئيس الكيني المنتخب أوهورو كينياتا، بصفات تلقى قبولاً بين الناس، والشباب على وجه الخصوص، فهو «رجل حلو الحديث، وودود، يختار كلماته بعناية، ومتواضع، وماكر في الوقت ذاته». يقول مؤيدوه إن شعبيته نتجت عن كونه «كسر سياج الغموض» الذي ينسجه الرؤساء حولهم عادة.
في الحقيقة، يتحدر الرئيس الكيني من عائلة سياسية عريقة وثرية، فوالده جومو كينياتا هو أحد رموز حركة التحرر الأفريقية، وأول رئيس لكينيا بعد استقلالها عن الاستعمار البريطاني عام 1963. ولقد ولد أوهورو - وتعني هذه الكلمة «الحرية» باللغة السواحلية - يوم 26 أكتوبر (تشرين الأول) 1961 في العاصمة الكينية نيروبي، وتلقى تعليمه الأولي في أفضل مدارس بلاده. ثم درس العلوم السياسية وتخرّج في كلية أمهرست، بولاية ماساتشوتس الأميركية، وهي من أعرق جامعات أميركا وأرقاها.

البدايات العملية
قبل توجه أوهورو كينياتا إلى الولايات المتحدة للدراسة عمل موظفاً في أحد البنوك. وبعد عودته أسس شركة «ويلهام» للمنتجات الزراعية، ثم تولى رئاسة هيئة السياحة في 1999. بعد ذلك اقتحم حلبة السياسة عندما انتخب نائباً للبرلمان 2001، ثم عيّن وزيراً للشؤون المحلية، ثم وزيراً للاقتصاد ونائباً لرئيس الوزراء في الفترة من 2008 إلى 2013. ثم ترأس حزب «كانو» (اتحاد كينيا الوطني الأفريقي)، وتزعم «تحالف اليوبيل» (جوبيلي).
وفي ضوء ما تقدّم يتضح أن أوهورو ولج عالم السياسة متأخراً نسبياً، وذلك على الرغم من أن أبيه كان أول رئيس لكينيا. وكان الرئيس دانيال أراب - موي، نائب كينياتا الأب وخلفه، هو من فتح بوابات العمل السياسي لكينياتا الابن. وسرعان ما تولى أوهورو إدارة رئاسة فرع «كانو» في مسقط رأس أبيه 1997، ثم أصبح واحداً من 4 نواب لرئيسه.
بعد ذلك، حظي أوهورو بدعم الرئيس موي ترشّحه للانتخابات الرئاسية 2002، إلا أنه خسر أمام مواي كيباكي، الذي غدا ثالث رؤساء كينيا، وهو مثل أسرة كينياتا ينتمي إلى الكيكويو أكبر المكوّنات القبلية في البلاد. وفي عام 2005 انتخب أوهورو رئيساً لحزب «كانو»، قبل الإطاحة به من رئاسة الحزب، بيد أن المحكمة العليا أبطلت قرار إطاحته إثر احتجاجات ضخمة من مؤيديه.
ومجدداً ترشح أوهورو لانتخابات 2007، لكنه سحب ترشيحه لصالح الرئيس كيباكي ضد منافسه رايلا أودينغا، وكوفئ من ثم بتعيينه نائباً لرئيس الوزراء وولّي وزارة المالية في «حكومة الوساطة الدولية»، وذلك في أعقاب منح كيباكي رئاسة الجمهورية ومنافسه أودينغا (من قبيلة اللوو) رئاسة الوزارة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الصراع بين كينياتا وأودينغا انتقل إلى الجيل الثاني، ذلك أن أوغينغا أودينغا - والد رايلا - كان في مرحلة ما بعد الاستقلال نائباً لرئيس الجمهورية جومو كينياتا - والد أوهورو - قبل أن يدب بينهما الخلاف السياسي ويتعمّق بشدة، ثم ينتقل إلى ولديهما.

المتهم... ثم الرئيس
اتهم أوهورو كينياتا، لاحقاً، من قبل المحكمة الجنائية الدولية بالتورط في تأجيج أعمال عنف، ومعه عدد من المسؤولين بينهم نائبه ويليام روتو، وذلك بعد اندلاع أحداث عنف دامية ذات طابع قبلي لازمت انتخابات عام 2007، إلا أن المحكمة برأته، بعد مثوله أمامها في 2014، وهو في سدة الرئاسة. ذلك أنه انتخب رئيساً في انتخابات 2013 ليغدو رابع رئيس كيني منذ الاستقلال. ويوم 8 أغسطس (آب) 2017، ترشح لإعادة انتخابه عن «تحالف اليوبيل». لكن إعلان النتائج الأولية الذي أظهر تقدمه على منافسه اللدود ورئيس الوزراء السابق رايلا أودينغا، تسبب في إثارة أعمال شغب، لا سيما في ضوء اتهامات من المعارضة بتزوير النتائج والتلاعب بنتائجها.
وبالفعل، ألغت المحكمة العليا الكينية مطلع سبتمبر (أيلول) الماضي نتيجة الانتخابات الرئاسية تلك، وقال رئيسها ديفيد مارانغا صراحة: «إعلان فوز كينياتا باطل ولاغٍ»، ما يعني إعادتها في غضون 60 يوماً.
وبرّرت المحكمة قرارها، الذي يُعدّ سابقة أفريقية، بإلقاء اللوم على لجنة تنظيم الانتخابات، مقابل تبرئتها المتنافسين. إذ وصفت العملية الانتخابية بأنها كانت «غير شفافة ونتائجها غير قابلة للتثبت منها»، لكن كينياتا أعلن امتثاله لحكم القضاء.
ويوم 30 أكتوبر 2017، أعلنت لجنة الانتخابات الكينية فوز أوهورو كينياتا في الانتخابات التي أعيدت في 26 سبتمبر، بنسبة 98.2 من أصوات الناخبين. ولكن تقارير صحافية نقلت عن رئيس اللجنة وافولا تشيبوكاتي، قوله إن نسبة الإقبال على الاقتراع كانت في حدود 38.8 في المائة فقط من 19.6 مليون شخص يحق لهم التصويت، وهي نسبة تقل كثيراً عن نسبة الاقتراع الملغي البالغة 79 في المائة. ولقد حصل كينياتا على 7.4 مليون صوت، مقابل 73 ألف صوت فقط لمنافسه المنسحب رسمياً أودينغا، ما عُدّ مؤشراً قوياً على نجاح المقاطعة التي دعت لها المعارضة بزعامة أودينغا.
في أي حال، قال أوهورو كينياتا في كلمة لأنصاره، نشرت على صفحته الرسمية على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»، عقب إعلان فوزه بالرئاسة للمرة الثانية: «المحكمة لم تحقق في أرقام الفوز... وهي لم تشكك بانتصاري، إنها مفارقة سياسية». ثم أضاف: «كان الخيار بالنسبة لي هو مقاومة هذه المفارقة، أو الإصرار على انتصاري الصحيح، أو أن أستأنف الحكم. كان هذا هو القرار الأكثر صعوبة والألم الذي يمكن أن يقدمه السياسي». وأوضح الرئيس المنتخب، بالتالي، أنه بعد تفكير وتأمل انتبه إلى أن القانون «أكبر منه»، وأنه التعبير المباشر عن الإرادة العامة للشعب، وأضاف: «لهذا قدمت نفسي إلى الإرادة العامة للجميع كما عبّر عنها دستورنا للمرة الثانية».

العنف «الإثني» المتجدّد
ما يستحق الإشارة، أنه شابت الانتخابات الماضية أيضاً، بدورتيها، أعمال شغب وعنف، وقتل خلالها 12 شخصاً على الأقل عقب الإعلان الأول عن فوز كينياتا، لكن الشرطة ذكرت أن معظم القتلى لقوا حتفهم برصاصها أثناء عمليات لمكافحة النهب. وللعلم، كان رايلا أودينغا، زعيم المعارضة، قد دعا مؤيديه في الجولة الانتخابية المعادة لإعلان العصيان المدني رداً على رفض المحكمة العليا تأجيل الانتخابات وفقاً لطلبه. فاندلعت اشتباكات نتج عنها إصابة مواطنين برصاص الشرطة في محيط مدينة كيسومو، في أقصى غرب البلاد.
ووفقاً لدراسة للباحثة كوثر مبارك بعنوان «تأثير الإثنية على العنف الانتخابي في كينيا، دراسة حالة الانتخابات الرئاسية 2007 - 2013»، ترجع جذور «العنف الانتخابي» في كينيا إلى أول انتخابات رئاسية شهدتها البلاد قبيل الاستقلال عام 1964. ووفقاً للباحثة مبارك، فإن التاريخ الانتخابي الكيني ظل يشهد عنفاً انتخابياً سابقاً ولاحقاً للانتخابات، لكنه ظل في حدود السيطرة حتى انتخابات 2007. هذا المفصل حمل لكينيا موجة عنف لاحقة كبيرة قتل خلالها أكثر من 1000 شخص وتشرد بسببها 600 ألف شخص، وجعل منها علامة فارقة في سيرة العنف السياسي بالبلاد.
تشرح مبارك أن أول انتخابات برلمانية في كينيا أجريت عام 1963. وفيها نال «كانو» الغالبية بزعامة كينياتا الأب، ومنذ ذلك الوقت ظل «كانو» يستأثر بالسلطة دون منافس تقريباً حتى عام 1991، حين ألغي نظام الحزب الواحد. وفي عام 2002 فاز بالانتخابات الرئاسية بغالبية ساحقة مواي كيباكي ممثلاً لما عُرف بأحزاب ائتلاف «قوس قزح». وهكذا انتقلت له السلطة سلمياً، لكن لم يدم الأمر طويلاً إذ شهدت البلاد أعمال عنف في انتخابات 2007.
لقد خاض انتخابات 2007 نحو 87 حزباً، لكن التنافس الجدي انحصر بين تحالف «الوحدة الوطنية» (يضم 7 أحزاب) بزعامة الرئيس المنتهية ولايته كيباكي، بينما تزعم أودينغا تحالف «الحركة الديمقراطية البرتقالية». ومن ثم، تفجر النزاع القبلي الشديد بين «الكيكويو» بزعامة كيباكي، و«اللوو» بزعامة أودينغا الذي أفلح من جانبه، في بناء تحالف مع زعماء غرب البلاد وقبائل الكالينجين (ينتمي إليهم الرئيس الأسبق دانيال أراب - موي) والزعماء المسلمين على الساحل، وكبرى مدنه مُمباسا.
وأسهم الخطاب السياسي العنيف، في رفع وتيرة الاحتقان السياسي والاجتماعي، ومكّن نجاح أودينغا - المحسوب على يسار الوسط - في عقد تحالفات انتخابية من تعبئة الجماهير لصالحه، فحقق تقدماً لافتاً في الانتخابات. وتقول التقارير إن النتائج الأولية كانت لصالح أودينغا بفارق يزيد على المليون شخص. بيد أن النتائج النهائية للانتخابات جاءت عكس التوقعات، ما أدى لتأخر إعلان النتيجة النهائية، وسرعان ما سرت موجة من الإشاعات والتوتر في البلاد. ومع بداية الحملات الانتخابية قتل 3 من مؤيدي «الحركة الديمقراطية البرتقالية»، واندلعت أعمال عنف وشغب أدت إلى وقوع أعداد كبيرة من الضحايا، وتشريد أسر كثيرة.
انتخابات 2007 التي شهدت أعمال عنف استثنائية، جرت في أجواء مشحونة بالعداء والصراع القبلي بسبب سيطرة الكيكويو على الحكم والسلطة، ما أدى إلى انقسام حاد في المجتمع ومؤسسات الدولة والإعلام، انقسمت معه البلاد إلى فريقين تعزّزهما النوازع القبلية الإثنية؛ الأول حكومي، والثاني في المعارضة. إذ حين أعلن فوز كيباكي اعترض أودينغا، ولا سيما أن النتيجة النهائية خالفت التوقعات والنتائج الأولية، وفوراً اندلعت أعمال عنف قبلي وإثني ضد الكيكويو. وتصاعدت أعمال الشغب والقتل والقمع من قبل قوات الأمن، ما أدى إلى مقتل أكثر من 1200، ونزوح أكثر من 300 ألف شخص من مناطقهم.
وانعكس الصراع صراعاً سياسياً بين ائتلاف الحزب الرئاسي (حزب الوحدة الوطني) وائتلاف المعارضة «الحركة الديمقراطية البرتقالية». وفي نهاية المطاف، أفلحت تدخلات دولية وإقليمية ومن الأمم المتحدة على عهد أمينها العام كوفي عنان، في مساعدة الأفرقاء على الوصول إلى «إطار مشترك» وإيجاد حل سلمي للعنف، فيما عُرف بـ«الحوار الوطني والمصالحة» نتجت عنه صيغة تقاسم السلطة.

إصلاحات وتعديلات دستورية
عام 2010، قبل خامس انتخابات تعددية كينية 2013، أجريت بعض الإصلاحات والتعديلات الدستورية، ما أسهم في ارتفاع الإقبال على الاقتراع في تلك الانتخابات تنافس 8 مرشحين، يقف خلف كل واحد منهم «ائتلاف حزبي» بخلفيات قبلية واقتصادية تسعى لتأمين مصالحها. وانتهت انتخابات 2013 من دون عنف يذكر، واستطاع أوهورو كينياتا السيطرة على مقاليد الأمور في البلاد، على الرغم من المعارضة الدولية التي وجدها، باعتباره مطلوباً من قبل المحكمة الجنائية الدولية.
المحللون يرون أن مثول كينياتا أمام محكمة الجنايات الدولية وهو على سدة الحكم، وقبوله بإعادة الانتخابات واحترامه لقرار المحكمة العليا في بلاده، يتضمن رسائل كثيرة للقادة الأفارقة. إذ رأى الكاتب والصحافي السوداني فيصل الباقر، في مقال نشر قبل إعلان النتيجة، أن قرار القضاء الكيني إلغاء نتيجة الانتخابات وإعادتها مرة أخرى، يعد «فتحاً جديداً في تاريخ القارّة الأفريقية»، بل «الأول من نوعه أفريقياً، والثالث عالمياً». وأوضح أن قرار القضاء الكيني التاريخي انتقل ببلدان القارة إلى «عصر جديد، في علاقة السلطات الثلاث» بين «التنظير» الذي يقر نظرياً «مبدأ فصل السلطات» و«الممارسة». ورأى الباقر في التجربة الكينية إرهاصاً ببزوغ «شمس الديمقراطية الحقّة» في أفريقيا، داعياً القادة الأفارقة للتعلم من «التجربة الكينية».
في المقابل، لئن كان كينياتا قد «ضرب مثالاً» غير معهود لاحترام مبدأ فصل السلطات بين قادة القارة السمراء، فإن هذا التحدي ليس الوحيد الذي يواجهه، ذلك أن الفساد يمثل تحدياً آخر بحاجة لقلب رجل ذهب إلى «لاهاي»، رغم ضجيج القادة الأفارقة الآخرين. وحفاظاً على صورته، فإن الرجل مطالب بالبدء بنفسه، لمعالجة «المرض الأفريقي» المعروف بـ«الفساد»، ينتصر عليه، أو يقود ضده معركة شرسة.
وهنا تنقل هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) عن عضو في حملة مكافحة الفساد الكينية، قوله: «إدارة كينياتا تعدّ الأكثر فساداً في تاريخ كينيا». وعلى الرغم من أن القول يبدو «متحاملاً» في ظاهره، فإن منظمة الشفافية الدولية تؤكده، حين تصنف كينيا في أعلى سلم الفساد، وأنها تقع في المركز 145 من بين أصل 176 بلداً عن مؤشرها لتصورات الفساد عام 2016.
ويتابع المصدر نفسه: «الفساد ازداد سوءاً في ظل إدارة الرئيس كينياتا»، موضحاً: «عدم كفاءة وكالات مكافحة الفساد وعدم فاعليتها، هي سبب هذا التصنيف المدني لكينيا... والفشل في معاقبة الأفراد المتورّطين في الكسب غير المشروع، كان عقبة رئيسية».
من جانبه، يعترف كينياتا بفشل محاولاته لمكافحة الفساد، لكنه شن هجمة مضادة وحمّل المسؤولية عن هذا الفشل إلى «المحاكم» و«وكالة مكافحة الفساد»، قائلاً إنها أجهضت جهوده لأن إجراءاتها «بطيئة». وكان كينياتا قد أقال في 2015 خمسة وزراء ومسؤولين رفيعي المستوى بشأن مزاعم الفساد، فيما دفع وزير سادس لتقديم استقالته بسبب الضغط العام. فهل يفلح الرجل الذي تصنفه مجلة «فوربز» الأميركية بين أغنى 26 شخصاً في أفريقيا، بثروة تقدر بنحو 500 مليون دولار، وتمتلك عائلته وسائل إعلام بينها قناة تلفزيونية وصحيفة يومية ومحطات إذاعية... في ضرب النموذج مرة أخرى، أم تصبح «العائلة والقبيلة» حصينة أمام حربه المعلنة ضد الفساد؟
وفي هذا الشأن، رغم عدم إعلان ضلوع أي من أفراد أسرة كينياتا في قضايا فساد، فإنهم يملكون أعمالاً ضخمة، ويستثمرون في قطاعات البنوك، والبناء والتشييد، والألبان، والتأمين، والسياحة، وتحتكر مساحات واسعة من الأراضي حول الوادي المتصدع والمناطق الوسطى والساحلية في كينيا.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.