«فيسبوك» يحقق ديمقراطية الشعر

رسخ الشعراء المتميزين وفتح الباب لهواة الخواطر والمدونات

«فيسبوك» يحقق ديمقراطية الشعر
TT

«فيسبوك» يحقق ديمقراطية الشعر

«فيسبوك» يحقق ديمقراطية الشعر

فرضت «الميديا» ثقافتَها وتقاليدها، ومع التطور الهائل في علوم التكنولوجيا والإنترنت، اتسع فضاؤها المفتوح، وأصبح قوتاً يومياً من الصعب الاستغناء عنه، أو تنحيته جانباً، لا سيما في ظل عالم أصبح يموج بالتحولات والتغيرات وإقامة الحدود والحواجز التي تحدّ من حرية الإنسان والتعبير عن آرائه وأفكاره بشكل حر.
لكن هناك من يرى أن «الميديا» بإيقاعها اللاهث المتغير تنتج ثقافةً عابرةً لا يمكن أن تؤصل لأشكال وأنماط معينة، خصوصاً في مجال الأدب والفن.
ظاهرة شعراء «الفيسبوك»، لا تنفصل عن هذا الجدل... هل هم شعراء فعلاً؟ هل ما يكتبونه شعر؟ هل نجح قسم منهم في تقديم قصيدة ناضجة فنياً؟ هل أصبحوا جزءاً من المشهد الشعري العربي؟ أم أن كتاباتهم مجرد «خواطر» يبثها أصدقاء لأصدقاء؟ ولماذا الشعر فقط؟ لماذا لا نقرأ قصةً قصيرةً مثلاً في وسائل التواصل الاجتماعي؟!
«الشرق الأوسط» استطلعت في هذا التحقيق آراء عدد من الشعراء والشاعرات ينتمون لأجيال وتيارات مختلفة، لكن «الفيسبوك» أصبح الحاضن الأساس لنصوصهم وأفكارهم حول الشعر وقضاياه.
الشاعر صلاح اللقاني، أحد أبرز شعراء السبعينات في مصر، يرى أن «تقنية (الفيسبوك) تمثل في حياتنا الفكرية المعاصرة أكبر ديمقراطية ثقافية وسياسية في العصر الحديث»، لافتاً إلى أنها «أتاحَتْ للمرة الأولى في التاريخ إمكانية التعبير عن الرأي ونشره دون تدخل من أحد، ودون محظورات في الغالب، وذلك للجميع، ودون استثناء. هذه الإتاحة، وتلك الديمقراطية، وهذا الفضاء حدد مثلما مكّن شكلاً للتعبير يعتمد على التركيز الشديد، والتوهج، وكراهة الإطناب والحشو. ومثلما جمع هذا الفضاء الراسخين في العلم والمعرفة، فقد أضاف لهم أعداداً هائلة من متوسطي الحال في توقد الذهن، وما خبروه من معارف، ومن تجارب الحياة، وأعداداً أخرى من حرافيش المجتمع وعابري سبيله».
يضيف اللقاني متابعاً: «إذا كانت أسئلة الواقع، وأسئلة الوجود، مطروحة على الجميع فقد أسهم الجميع بإجاباتهم على قدر فهمهم. وتصادف في هذا الفضاء الجاذب للمكثف والمتوهج والجارح كشفرة الموسى أن كان الشعر أقربَ الفنون ملاءمةً له، ومجانسةً لإطاره. ومثلما كان هذا الفضاء السيبراني متنفَّساً لكبار الشعراء، فإنه كان مجالاً لكل من يقرزم الشعر، ومن قطع فيه شوطاً ما. وتصادف أن تتوفر تلك الوسيلة في اللحظة التي احتلَّتْ فيها قصيدة النثر المتن الشعري، فكان الاقتراب من عالم الشعر دون تهيُّب فرضه العروض زمناً طويلاً».
ويخلص صاحب ديوان «ضل من غوى وسر من رأى»، بقوله: «لم يصنع (الفيسبوك) شعراءً جدداً، إنما عرف بالشعراء راسخهم ومحدثهم من خلال وصوله لأعداد لم يحلم بها الشعراء من قبل. ومن خلال عملية تفاعل بين التقنية والقصيدة، والشاعر فإن شكل القصيدة اتسع للتوقيعات وللومضة وللقطعة المركزة بشكل غير مسبوق، كما أن المزاج العام للتلقي صار ضيِّق الصدر بالمطولات والملاحم. إن (الفيسبوك) لا يصنع شاعراً، ولكنه يؤثر في الشعراء، وفي القصيدة شكلاً وأسلوباً».
وتقول الشاعرة بهية طلب، إحدى البارزات في موجة التسعينات الشعرية: «لا أعتقد بشعرية هؤلاء الشعراء؛ فهي مجرد خواطر فعلاً تتوافق مع المتابعين لهم وحالاتهم التي لا يملكون ترجمتها إلى كلمات، ويستطيع هؤلاء صفَّها داخل لغة ركيكة وتراكيب بسيطة يصدق المتابعون أنها تعبر عنهم. أنا أتابع صفحات الكتب والقراءة على (الفيسبوك)، والكتب التي يقرأها الشباب مثلاً ويعيدون تذكير الآخرين بقراءتها، لا تختلف عن هذه الكتابات لشعراء (الفيسبوك)، فليس بها أي ملمح جمالي أو رؤية فلسفية أو عمق ما، ولكنهم ينجذبون إليها لأن هذه حدود ثقافتهم الآنية؛ فهم جيل أغاني المهرجانات، وكل ما يمكن أن يؤخذ سريعا (كساندوتش البرغر)». وتخلص صاحبة ديوان «قبل هروب أنجلينا جولي»، قائلة: «هذا هو السر... إنهم لا ينشرون على الصفحات قصصاً؛ فهذا تطويل يحتاج إلى وقت لاستيعابه، أما بخصوص أن أحدهم أنتج قصيدة جيدة أو في سبيله لإنتاجها، فالمسألة تحتاج إلى متابعة لهذا النوع من الكتابة ولعدة سنوات حتى نتأكد إن كان سيخطّ خطّاً في الشعرية العربية، أو أن ما يحدث هو كالزبد يذهب جفاء؟!».
ويرى الشاعر محمد القليني، أحد أبرز شعراء قصيدة النثر، أن «الفيسبوك» وجبة خفيفة، متفقاً ضمنياً مع ما سبق، وعلى حد قوله: «في قاع البحر يتناثر الحصى، لكن هذا لا يمنع من وجود بعض الشعاب المرجانية الجميلة. (الفيسبوك) بحر واسع، يتناثر داخله كثير من الشعراء الذين يقدمون نصوصاً متشابهة وعادية ولا تدفع عجلة المشهد الشعري إلى الأمام، لكن أيضاً - لو دققنا - سنجد شعراء حقيقيين لديهم من الوعي ما يجعلهم يقدمون نصوصاً مفارِقة. وعن نفسي أتعامل مع (الفيسبوك) باعتباره مجردَ وجبة خفيفة، فهو لا يصنع ثقافة شعرية كبيرة، الثقافة في الكتب والاحتكاك الإنساني المباشر... لكنه - ككل شيء - صاحب وجهين: وجه إيجابي، وآخر سلبي».
ولا يخلو «الفيسبوك» من إيجابيات، فكما يرى صاحب ديوان «أركض طاوياً العالم تحت إبطي» الحاصل على عدد من الجوائز أن «من إيجابياته طيّ المسافات... الشعر يسافر بلا جواز سفر، وينتقل من يد الشاعر إلى عيني القارئ في اللحظة نفسها، بلا وسطاء يحتكرونه، أو دور نشر تفشل في توزيع كتبه، ومن عيوبه أنه جعل الكتابة متاحة للجميع، وجعل (الفضفضة) شعراً، ولا مشكلة لدي في أن يكتب من يشاء ما يشاء، المشكلة تكمن في الاسم الذي يطلقه على ما يكتبه، فالشعر له مواصفات معينة، وليست كل كتابة شعراً. لكن تجدر الإشارة إلى أن (فيسبوك) في حياة الشعراء أصبح ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها، وربما (بمرور الوقت) يصبح بديلاً عن الكتب، ويصبح هو المشهد الشعري بالكامل، لكن إلى هذه اللحظة فهو يعج بشعراء يكتبون ما يمكن أن نسميه (فضفضة) أو (خواطر)، أما الشعراء الذين يقدمون نصوصاً ناضجة تجعلهم جزءاً من المشهد الشعري العربي فهم قلة قليلة لا تكاد تُرَى إلا بعدسة مكبرة».
أما الشاعر الناقد خالد حسان، صاحب أطروحة مهمة حول قضايا قصيدة النثر، حصل بها على الماجستير أخيراً، فيبدي قلقه من مصطلح «شعراء الفيسبوك» قائلاً: «لا أطمئن كثيراً لمصطلح (شعراء الفيسبوك) وأشم من ورائه رائحة تهكُّم لوصف مجموعة من الشعراء بالسطحية من خلال اللهاث وراء أعداد (اللايكات) على موقع (فيسبوك)».
يتابع حسان: «لقد ارتبط الشعر أخيراً بموقع (فيسبوك)، وذلك لسهولة النشر، فبالضغط على زر واحد في لوحة المفاتيح يمكن لآلاف من البشر أن يشاهدوا قصيدتك ويتفاعلوا معها، يمكن لقصيدتك أن تدخل في أي مكان وتسافر إلى كل بلاد العالم ليقرأها القاصي والداني في لمح البصر. لقد أصبح (فيسبوك) بمثابة نافذة نشر لجيل كامل من الشعراء ربما لم يجدوا طريقاً إلى النشر الورقي، كما أنه ساعد كثيرين على الانتشار والوصول إلى عدد لا بأس به من الجمهور على مستوى عربي أوسع، أتاح (فيسبوك)، كذلك وجود الجماعة المرجعية التي هي جزء لا يتجزأ من حياة أي مبدع؛ فحضور الأصدقاء والمتابعين على (فيسبوك) ومشاركاتهم وتعليقاتهم يقوم بدور سحري في تحفيز الشاعر ودفعه إلى الكتابة».
وبعين الناقد يؤكد حسان أن «(الفيسبوك) ساعد على إيجاد مناخ شعري حقيقي، ظهر من خلاله شعراء حقيقيون لم نكن نسمع عنهم. وأيضاً فتح الباب على مصراعيه أمام كل من هب ودب ليقول أي شيء ويسميه شعراً. ولكن أعتقد أن هذه ظاهرة صحية طالما ليس هناك اتفاق في أي مستوى على ما يمكن أن نطلق عليه شعراً، وهكذا يبقى فتح باب التجريب هو المعول عليه».
وبرمزية ديوانها النثري الجديد الشيق «الرقص فوق الماء» تقول الشاعرة منال محمد علي: «عندما تريد للماء أن يصل بين يديك وتحت ناظريك يروح ويجيء بين شفاهك بلا حدود ولا قيود، بل مجاني تماماً تطلبه ليلاً أو نهاراً، هذا هو الشعر الذي صادف وسيلة فائقة السرعة للنشر، وما اصطلح على تسميته بوسائل التواصل الاجتماعي. يمكننا الآن أن نضبط إيقاع التطور في شكل القصائد عالمياً فكل تطور وشكل للإبداع جديد في العالم يولد أمامك، تستطيع أن ترى المأساة شعراً وقت حدوثها، فالحرب أيضاً والمعاناة يترجمها الشعر. هذه الوسائل استطاعت في غضون سنوات أن تختصر المسافات وتؤلف بين قلوب البشر... فهنا تولد الصداقات والمحبات، وتستطيع أن تتعرف على أجيال سبقتك في الإبداع وغيرها مقبلة في البعيد لم تزل تنبت بين جنوب الصغار».
تتابع منال: «(الفيسبوك) كوسيلة للتواصل الاجتماعي هي الآن الناشر الأفضل والأسرع رَشَّحت الكثيرين ممن منعتهم ظروف الحرب وفوضى البلاد من النشر أو حضور المؤتمرات أو التواصل بالمعارض الدولية للكتاب للشهرة والمحبة والمتابعة، اختصرت ذلك كله. فهناك من تقرأ له من مبدعي العراق وشعرائها وكذلك اليمن وسوريا ومصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب والسعودية، وفرنسا وألمانيا وأميركا والهند والمكسيك، وغيرها من أقطار العالم... هناك من يكتب ويقرأ العربية في كل بقاع الأرض وهناك الناشر الإلكتروني الذي بات يستمد معرفته بالمبدعين عن طريق وسائل التواصل الاجتماعي فنبتت مواقع إلكترونية تخصصت في النشر الأدبي، جذبت الكثيرين من الشعراء والكتاب».
وتلفت منال إلى الدعاية كملمح مهم يقدمه «فيسبوك»، حيث أصبحت هذه الوسائل تقدم الدعاية للكتاب المصدر وكذلك حفلات المناقشة والتوقيع وجميع المناسبات الأدبية حتى إن المعارض الدولية للكتاب باتت تحفل بالدعاية عبرها ليحضر الفعاليات الكثير من المبدعين والرواد وكذلك من يهتمون بالكتابة، كما تنشر ما كتب حول الكتاب من دراسات نقدية، والترجمات من اللغات الأخرى للعربية والعكس، فباتت محفلاً أدبياً شديد الالتصاق بيومنا وكل ما تمر به البشرية من حب وصراعات، كما قدمت البديل الأسرع والعملي للكتاب الورقي الذي يصادف نشره كثير من الصعوبات.
ويربط الشاعر مؤمن سمير الأمر كله بالماضي قائلا: «كان لإنسان الكهوف تصاوير وتهويمات شعرية، ثم تَمَشَّى الشعر مع الإنسان عبر سنواته الطويلة ملازماً ومصاحباً فريداً ولأن الشعر كائنٌ يدرك حتمية مرونته كان لا بد أن يبدل مراياه كل فترة الشعر الذي يتوق للحرية بعد حبسه طويلاً في الذاكرة أو على الأحجار أو على الورق ارتاح للواقع الافتراضي، الذي يتماهى معه من زاوية مخاتلته ومروره الضوئي بين الأنواع والأشكال والمشاعر».
ويلفت صاحب ديوان «بلا خبز ولا نبيذ» إلى أنه «عبر هذه النافذة أتاح (فيسبوك) لشعراء كبار أن يصلوا لأجيال وجغرافيا كانت بعيدة، مثل نصيف الناصري وصلاح فائق، وأتاح لشعراء غائبين أن تحفزهم فكرة التدوينات اليومية فعادوا إلى تجاربهم أو طوروها، كما أدخل شعراء صغاراً مضمار التجربة بلعبة التفاعل وفي المجمل أعاد ترتيب وتصنيف الأجيال، وكَشَفَ وأضاف ونَقَضَ وأعاد هيكلة مشهد الشعر العربي ونَكَزَ أسئلة الشعر الدائمة بشكل أكثر حيوية، وبشكل طبيعي هناك خواطر وكتابات لا تصمد أمام الفرز الدائم والمستمر كما أن هناك غثاً يَثْبُتْ كعظيم ولكن وسط أشباهه.هذا عكاظٌ عصري لا تغيب عنه القصة لكنها تظهر كَظِلٍ للشعر الأسرع في التلقي والولوج إلى الروح، الذي سيحكي دائماً عن رسوخ موقعه في الثقافة والوعي والذاكرة».


مقالات ذات صلة

أستراليا تعتزم فرض ضريبة على المنصات الرقمية التي لا تدفع مقابل نشر الأخبار

العالم شعار شركة «ميتا» الأميركية (أ.ف.ب)

أستراليا تعتزم فرض ضريبة على المنصات الرقمية التي لا تدفع مقابل نشر الأخبار

أعلنت الحكومة الأسترالية اعتزامها فرض ضريبة كبيرة على المنصات ومحركات البحث التي ترفض تقاسم إيراداتها من المؤسسات الإعلامية الأسترالية.

«الشرق الأوسط» (سيدني)
العالم انقطعت خدمة منصة «إنستغرام» عن أكثر من 23 ألف مستخدم (د.ب.أ)

عطل يضرب تطبيقي «فيسبوك» و«إنستغرام»

أظهر موقع «داون ديتيكتور» الإلكتروني لتتبع الأعطال أن منصتي «فيسبوك» و«إنستغرام» المملوكتين لشركة «ميتا» متعطلتان لدى آلاف من المستخدمين في الولايات المتحدة.

«الشرق الأوسط» (واشنطن)
يوميات الشرق تامونا موسيريدزي مع والدها (صورة من حسابها على «فيسبوك»)

بعد 40 سنة... سيدة تكتشتف أن والدها الحقيقي ضمن قائمة أصدقائها على «فيسبوك»

بعد سنوات من البحث عن والديها الحقيقيين، اكتشفت سيدة من جورجيا تدعى تامونا موسيريدزي أن والدها كان ضمن قائمة أصدقائها على موقع التواصل الاجتماعي «فيسبوك»

«الشرق الأوسط» (تبليسي )
العالم رئيس الوزراء الأسترالي أنتوني ألبانيزي (رويترز)

أستراليا تقر قانوناً يحظر وسائل التواصل الاجتماعي لمن هم أقل من 16 عاماً

أقر البرلمان الأسترالي، اليوم (الجمعة) قانوناً يحظر استخدام الأطفال دون سن الـ16 عاما لوسائل التواصل الاجتماعي، وهو ما سيصير قريباً أول قانون من نوعه في العالم.

«الشرق الأوسط» (ملبورن)
العالم يلزم القانون الجديد شركات التكنولوجيا الكبرى بمنع القاصرين من تسجيل الدخول على منصاتها (رويترز)

أستراليا تحظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للأطفال دون 16 عاماً

أقرت أستراليا، اليوم (الخميس)، قانوناً يحظر استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للأطفال دون سن 16 عاماً.

«الشرق الأوسط» (سيدني)

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين
TT

«كيركيغارد»... والحب المستحيل

ريجين أولسين
ريجين أولسين

كان أحدهم قد أطلق العبارة التالية: كيركيغارد فيلسوف كبير على بلد صغير الحجم. بمعنى أنه أكبر من البلد الذي أنجبه. وبالفعل، فإن شهرته أكبر من الدنمارك، التي لا يتجاوز عدد سكانها 5 ملايين نسمة، وبالطبع أكبر من اللغة الدنماركية المحدودة الانتشار جداً قياساً إلى لغات كبرى كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والإسبانية، ناهيك بالعربية. ولكن مؤلفاته أصبحت مترجمة إلى شتى لغات العالم. وبالتالي، لم تعد محصورة داخل جدران لغته الأصلية الصغيرة. لقد أصبحت ملكاً للعالم أجمع. هنا تكمن عظمة الترجمة وفائدتها. لا حضارة عظيمة من دون ترجمة عظيمة. والحضارة العربية التنويرية قادمة لا ريب، على أكتاف الترجمة والإبداع الذاتي في آنٍ معاً.

سورين كيركيغارد (1813 - 1855) هو مؤسس الفلسفة الوجودية المعاصرة، قبل هيدغر وسارتر بزمن طويل. إنه الممثل الأكبر للتيار الوجودي المسيحي المؤمن، لا المادي الملحد. كان كيركيغارد أحد كبار فلاسفة الدين في المسيحية، إضافة إلى برغسون وبول ريكور، مثلما أن ابن رشد وطه حسين ومحمد أركون هم من كبار فلاسفة الدين في الإسلام.

سورين كيركيغارد

لكن ليس عن هذا سأتحدث الآن، وإنما عن قصة حب كبيرة، وربما أكبر قصة حبّ ظهرت في الغرب، ولكن لا أحد يتحدث عنها أو يسمع بها في العالم العربي. سوف أتحدث عن قصة كيركيغارد مع الآنسة ريجين أولسين. كيف حصلت الأمور؟ كيف اشتعلت شرارة الحب، تلك الشرارة الخالدة التي تخترق العصور والأزمان وتنعش الحضارات؟ بكل بساطة، كان مدعواً إلى حفلة اجتماعية عند أحد الأصدقاء، وصادف أنها كانت مدعوة أيضاً. كانت صغيرة بريئة في الخامسة عشرة فقط، وهو في الخامسة والعشرين. فوقع في حبها على الفور من أول نظرة، وبالضربة القاضية. إنه الحب الصاعق الماحق الذي لا يسمح لك بأن تتنفس. ويبدو أنه كان شعوراً متبادلاً. وبعد 3 سنوات من اللقاءات والمراسلات المتبادلة، طلب يدها رسمياً فوافقت العائلة.

ولكنه صبيحة اليوم التالي استفاق على أمر عظيم. استفاق، مشوشاً مبلبلاً مرعوباً. راح ينتف شعر رأسه ويقول: يا إلهي، ماذا فعلت بنفسي؟ ماذا فعلت؟ لقد شعر بأنه ارتكب خطيئة لا تغتفر. فهو لم يخلق للزواج والإنجاب وتأسيس عائلة ومسؤوليات. إنه مشغول بأشياء أخرى، وينخر فيه قلق وجودي رهيب يكاد يكتسحه من الداخل اكتساحاً... فكيف يمكن له أن يرتكب حماقة كهذه؟ هذه جريمة بحقّ الأطفال الذين سوف يولدون وبحقّها هي أيضاً. ولذلك، فسخ الخطوبة قائلاً لها: أرجوك، إني عاجز عن القيام بواجبات الزوجية. أرجوك اعذريني.

ثم أردف قائلاً بينه وبين نفسه: لا يحق لي وأنا في مثل هذه الحالة أن أخرب حياة خطيبتي المفعمة بحب الحياة والأمل والمحبة، التي لا تعاني من أي مشكلة شخصية أو عقدة نفسية أو تساؤلات وجودية حارقة. وإنما هي إنسانة طبيعية كبقية البشر. أما أنا فإنسان مريض في العمق، ومرضي من النوع المستفحل العضال الذي لا علاج له ولا شفاء منه. وبالتالي، فواجب الشرف والأمانة يقتضي مني أن أدوس على قلبي وأنفصل عنها وكأني أنفصل عن روحي.

لكن عندما سمع بأنها تزوجت من شخص آخر جنّ جنونه وتقطعت نياط قلبه وهاجت عليه الذكريات. بل هرب من الدنمارك كلها لكيلا يسمع بالتفاصيل والتحضيرات وليلة العرس. هذا أكبر من طاقته على التحمل. وأصبح كالمجنون الهائم على وجهه في البراري والقفار. كيف يمكن أن يتخيلها مع رجل آخر؟ هل انطبقت السماء على الأرض؟ مجنون ليلى ما تعذب مثلنا.

الشيء المؤثر في هذه القصة هو أن خطيبته التي عاشت بعده 50 سنة تقريباً طلبت أن تدفن إلى جواره، لا إلى جوار زوجها الشرعي! فاجأ الخبر كثيرين. وكانت بذلك تريد أن تقول ما معناه: إذا كان القدر قد فرقني عنه في هذه الحياة الدنيا، فإني سألتحق به حتماً في الحياة الأخرى، حياة الأبدية والخلود. وكانت تعتبر نفسها «زوجته» برغم كل ما حصل. وبالفعل، عندما كان الناس يتذكرونها كانوا يقولون: خطيبة كيركيغارد، لا زوجة فريدريك شليجيل. وقالت: إذا لم يكن زوجي هنا على هذه الأرض، فسوف يكون زوجي هناك في أعالي السماء. موعدنا: جنة الخلد! هل هناك حب أقوى من هذا الحب؟ حب أقوى من الموت، حب فيما وراء القبر، فيما وراء العمر... الحب والإيمان. أين هو انتصارك يا موت؟

قصة حب تجمع بين كيركيغارد، مؤسس الفلسفة الوجودية، وفتاة شابة جميلة تصغره بعشر سنوات، لكن الفلسفة تقف حجر عثرة بينهما، فينفصل عنها وتظل صورتها تطارده طيلة حياته

اللقاء الأخير

كيف يمكن أن نفهم موقف كيركيغارد من حبيبته إن لم نقل معبودته ريجين أولسين؟ للوهلة الأولى يبدو أنه لا يوجد أي تفسير منطقي له. فقد قطع معها في أوج العلاقة الغرامية، دون أي سبب واضح أو مقنع. ويبدو أنها حاولت أن تراه لآخر مرة قبيل سفرها مع زوجها إلى بلاد بعيدة. أن تراه في الشارع كما لو عن طريق الصدفة. وعندما اصطدمت به، قالت له: «ليباركك الله، وليكن كل شيء كما ترغب». وهذا يعني أنها استسلمت للأمر الواقع نهائياً، وأنه لا عودة بعد اليوم إلى ما كان. تراجع كيركيغارد خطوة إلى الوراء عندما رآها حتى لكأنه جفل. ثم حياها دون أن ينبس بكلمة واحدة. لم يستطع أن يرد. اختنق الكلام في صدره. لكأنه يقول بينه وبين نفسه: هل يحق لمن يقف على الخطوط الأمامية لجبهة الفكر، لجبهة النار المشتعلة، أن يتزوج؟ هل يحق لمن يشعر بأن حياته مهددة أن ينجب الأطفال؟ أطفاله هم مؤلفاته فقط. هل يحق لمن يصارع كوابيس الظلام أن يؤسس حياة عائلية طبيعية؟ ما انفك كيركيغارد يحاول تبرير موقفه، بعد أن شعر بفداحة ما فعل مع ريجين. لقد اعتقد أنه انفصل عنها، وانتهى الأمر، فإذا بها تلاحقه إلى أبد الآبدين. ما انفك يلوم نفسه ويتحسر ويتعذب. لكأنه عرف أن ما فعله جريمة لا تغتفر. نعم، لقد ارتكب جريمة قتل لحب بريء، حب فتاة غضة في أول الشباب. من يستطيع أن يقتل العاطفة في أولها، في بداية انطلاقتها، في عنفوانها؟ طيلة حياته كلها لم يقم كيركيغارد من تلك الضربة: ضربة الخيانة والغدر. وربما لم يصبح كاتباً وفيلسوفاً شهيراً إلا من أجل تبريرها. لقد لاحقه الإحساس القاتل بالخطيئة والذنب حتى آخر لحظة من حياته. إذا لم نأخذ هذه النقطة بعين الاعتبار فإننا لن نفهم شيئاً من فلسفة كيركيغارد. لقد أصبحت قصته إحدى أشهر قصص الحب على مدار التاريخ، بالإضافة إلى قصة دانتي وبياتريس، وروميو وجولييت، وأبيلار وهيلويز. ويمكن أن نضيف: مجنون ليلي، وجميل بثينة، وكثير عزة، وعروة وعفراء، وذا الرمة ومي... إلخ. العرب هم الذين دشنوا هذا الحب العذري السماوي الملائكي قبل دانتي وشكسبير بزمن طويل. ولماذا تنسون عنتر وعبلة؟ بأي حق؟

ولقد ذكرتك والرماح نواهلٌ

مني وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

بعد أن تجاوز فيلسوف الدنمارك تلك التجربة العاصفة، شعر وكأنه ولد من جديد، أصبح إنساناً جديداً. لقد انزاح عن كاهله عبء ثقيل: لا عائلة ولا أطفال ولا زواج بعد اليوم، وإنما معارك فكرية فقط. لقد طهره حب ريجين أولسين من الداخل. كشف له عن أعماقه الدفينة، وأوضح له هويته ومشروعه في الحياة. الحب الذي يفشل يحرقك من الداخل حرقاً ويطهرك تطهيراً. بهذا المعنى، فالحب الفاشل أفضل من الحب الناجح بألف مرة. اسألوا أكبر عاشق فاشل في العالم العربي. بعدها أصبح كيركيغارد ذلك الفيلسوف والكاتب الكبير الذي نعرفه. بالمعنى الأدبي للكلمة، وليس مفكراً فيلسوفاً فقط، بالمعنى النثري العويص الجاف. من ثم هناك تشابه كبير بينه وبين نيتشه مع الفارق، الأول مؤمن، والثاني ملحد. وأخيراً، لم ينفك كيركيغارد يحلل أعماقه النفسية على ضوء ذلك الحب الخالد الذي جمعه يوماً ما بفتاة في عزّ الشباب، تدعى ريجين أولسين. عبقريته تفتحت على أنقاض ذلك الحب الحارق أو المحروق. كان ينبغي أن تحصل الكارثة لكي يستشعر ذاته، ينجلي الأفق، يعرف من هو بالضبط. من كثرة ما أحبها تركها. لقد قطع معها لكي تظل - وهي العزيزة الغائبة - أشد حضوراً من كل حضور!