لا يمكن ونحن نتصفح أي مجلة عالمية، أو نتابع أي عرض أزياء هذه الأيام، ألا نلمح تأثيراً من تأثيرات الشرق الأوسط فيها. فالفساتين اكتسبت طولاً، كذلك الأكمام، بينما ارتفعت الياقات لتعانق الرقبة. بل حتى الرأس أصبحت له إكسسواراته المبتكرة التي تتراوح ما بين الإيشاربات المتنوعة وطرق ربطها والعمامات.
القول إن الظاهرة جاءت كردة فعل لسياسات وآراء دونالد ترمب، أو تنامي النزعة الشعبوية في العالم، يمكن أن يكون فيه جانب من المبالغة والخطأ. فلو تتبعنا بذور هذه الموجة لوجدنا أنها بدأت منذ أكثر من عقد من الزمن تقريباً. كان المخضرم كارل لاغرفيلد، مصمم داري «شانيل» و«فندي» من بين أوائل من تنبهوا لها وغذوها، حينها فسر تشكيلة وصفها البعض بالمحافظة جداً نظراً لأكمامها الطويلة وياقاتها العالية وتنوراتها التي تغطي نصف الساق، بأنها مواكبة لتغيرات العصر. وأشار حينها إلى أن المصمم «ابن بيئته وعصره»، يجب أن يكون منصتاً جيداً لما يدور حوله من أمور سياسية واجتماعية وثقافية يترجمها بطريقته. مرت السنوات واتضحت الصورة أكثر بفضل وسائل التواصل الاجتماعي، وصور شابات من المنطقة العربية بملابسهن المحتشمة وإكسسواراتهن غالية الثمن. صورة اكتسبت قوةً ووهجاً في الآونة الأخيرة. فبعد أن كان الغرب يعتبرها مملة و«قديمة» أصبح لا يتقبلها فحسب بل ويستحْليها ويستنسخها. وهكذا بعد أن كان يُملي توجهاته واقتراحاته على هذه المرأة، ويتوقع أن تتقبلها كما هي، بات يتودد لها بلغتها، لكن بلكنته ومفرداته المكسرة. الدليل على هذا أن العديد من بيوت الأزياء العالمية ركبت الموجة، بدءاً من «فالنتينو» و«غوتشي» إلى «شانيل» و«بيربري» و«دولتشي أند غابانا» و«كارولينا هيريرا» وهلم جرا. وحتى من لم يركبها علانية اعتمد على أسلوب الطبقات المتعددة لكي يضرب عصفورين بحجر. بالأول يُبقي على ولاء زبونات غربيات يرين في كشف المستور أنوثة، وبالثاني يستقطب زبونات الشرق الأوسط ممن يُردن ستر المكشوف.
فمن كان يتصور منذ عقد من الزمن أن تتصدر صور محجبات أغلفة مجلات براقة وعالمية؟ ومن كان يتصور أن يحتضن أسبوع نيويورك بالذات عرض أزياء خاص بالأزياء الإسلامية لمرتين على التوالي؟ ومن كان يخطر بباله أن تصبح فتاة محجبة (حليمة عدن) واحدة من أهم العارضات في الساحة على الإطلاق؟ كل هذا أصبح واقعاً ملموساً. والمثلج للصدر أكثر أن العملية لم تبق رهينة مصممين غربيين، عشقوا سحر الشرق أو آخرين يرونه سوقاً خصبة لجني الأرباح. فقد تسلم مصممون عرب وشرق آسيويون مبادرة القيام بحملة موازية ولسان حالهم يقول: «نحن نفهم الحشمة أكثر منكم ولا نتعامل معها بلغة دخيلة علينا». فالحشمة بالنسبة لهؤلاء هوية وثقافة تتعدى طول الأكمام والتنورات. هذه المبادرة أخذت عدة أشكال. فهناك مثلاً موقع «ذي موديست دوت كوم» (The Modist.com) الذي انطلق في دبي منذ فترة قصيرة، وحقق نجاحاً لا يستهان به. يعتمد أساساً على إطلالات تناسب ذوق امرأة شرقية، وتُراعي بيئتها وثقافتها. فرغم أنه يعرض أعمال مصممين عالميين إلى جانب محليين، فإن قوته تكمن في تنسيقه هذه التصاميم بأسلوب «محتشم» وصورة أنيقة راوغت الغرب طويلاً، ليؤكد الموقع والمشرفون عليه بأن «أهل مكة أدرى بشعابها».
من الأساليب الأخرى، عروض أزياء تركز على الأزياء المحافظة من الرأس إلى أخمص القدمين. بالنسبة لمُنظميها، فإن الحلول الوسطى وأي محاولة للعب على مفهوم الحشمة غير مطروح لأنه مجرد مراوغة. فالموضة المحتشمة لا تتعارض لا مع الأناقة، ولا مع الذوق العام، عندما يتم التعامل معها بشكل صحي ومن منظور واقعي. وهذا تحديداً ما عاشته العاصمة البريطانية يوم السبت في فندق «غروفنر هاوس» وسط لندن، من خلال حفل كبير شارك فيه ما لا يقل عن سبعة مصممين. كان دافعهم هو إثبات وجودهم وقدراتهم، وبشكل مباشر التأكيد أن سوقهم مهم. هؤلاء المصممون هم بُثنية وأمل الرايسي من عمان ومريم بوسيكوك من المغرب ورايشما من بريطانيا، وأخيراً وليس آخراً الثلاثي ميرا إندريا وفيفي زوبيدي وهانغي كاويلارانغ من إندونيسيا.
الفعالية التي تعتبر الأولى من نوعها في العاصمة البريطانية، وتمت تحت اسم «The Modest Fashion Festival» من بنات أفكار الدكتورة فاهرين مير، ومحامية حقوق الإنسان سلطانة تافادار والمحامية مروة باختيري. ثلاث شابات مسلمات وناجحات في مجالاتهن قررن أن يضعن حداً لتلك النظرة الدونية والصورة النمطية السائدة في العالم عن المرأة المحجبة أو المحافظة. تُؤكدن أن مبادرتهن ليست تحدياً للغرب بقدر ما هي «تصحيح لصورة نمطية ترسخت في ذهنه طويلاً عن المرأة المحجبة». فحتى عهد قريب كان ينظر إليها، بعباءتها أو جلابيتها الطويلة، على أنها تابعة وغير مواكبة لعصرها، بينما هي في الواقع إما سيدة أعمال ناجحة أو طبيبة أو محامية أو معلمة أو ربة بيت. والأهم من هذا هي امرأة تعشق الموضة، وتريد أن تستمتع بها بأسلوب يتوافق مع هويتها من دون إملاءات الغير. وتأمل كل من فارهين وسلطانة ومروة أن تُرسخ الفعالية هذه الفكرة وتُسلط الأضواء على موضة توارثتها المرأة المسلمة، وتمثل لها ثقافة بأكملها. بيد أنهن يؤكدن أن هذه «الموضة بكل ما تحمله في تفصيلها وتفاصيلها لا تقتصر على دين أو هوية ثقافية معينة، بل يمكن لأي أحد أن يتبناها لأنها تتضمن جماليات كثيرة».
وهذا ما نجح في تأكيده مهرجان «الموضة المحتشمة» يوم السبت الماضي، إضافة إلى احتفاله بنساء قويات وناجحات في مجالات عديدة اخترن الحجاب أسلوباً خاصاً بهن، ولا يرينه يتعارض مع حياتهن. فأغلب الحاضرات كن في أجمل حلة بطرحاتهن وعماماتهن وفساتينهن الطويلة. أما بالنسبة للمصممين الذين قدموا من أماكن متعددة، فكان مناسبة لاستعراض قدراتهم على منبر عالمي.
تقول المصممة العمانية أمل الرايسي إن المهرجان «أتاح فرصة للمصممين العرب لوضع أقدامهم في الغرب، خصوصاً أن (الموضة المحتشمة) تشهد رواجاً عالمياً في الوقت الحالي ما يمنحنا، كمصممين عرب، فرصة أكبر للإبداع وإبراز قدراتنا».
ولم تخيب الرايسي، ولا أي من المصممين المشاركين، الآمال. بل العكس نجح كل منهم في رسم صورة مفعمة بالأناقة لامرأة شرقية قوية لا تقبل أن تتنازل لا عن أناقتها ولا عن هويتها وأسلوبها الخاص. امرأة لم تهدأ إلا بعد أن نجحت في فرض أسلوبها على الساحة العالمية. المصممة المغربية مريم بوسيكوك التي شاركت في الفعالية بمجموعة من القفاطين الفخمة، بيع واحد منها في مزاد ذهب ريعه لصالح أطفال سوريا، علقت أن المناسبة مهمة جداً لأنها منبر عالمي يُعرف العالم أيضاً بـ«المهارات اليدوية والحرفية التي تتمتع بها منطقتنا. وهي مهارات يتوارثها الصناع أباً عن جدٍ». الحرفية التي تقصدها مريم تجسدت في مجموعة قفاطين تستحضر ليالي ألف ليلة وليلة بتطريزاتها الغنية وألوانها الصارخة. وتشرح بوسيكوك أن تصاميمها لا تُجسد الحشمة والفخامة فحسب، بل تحافظ أيضاً على الخطوط التقليدية لهذه القطعة العريقة. تشرح: «أنا لست مع تطوير القفطان بشكل مبالغ فيه لكي أساير العصر، أو أكسب ود زبونات صغيرات السن، بل أريد أن أحافظ على أصالته، من حيث طوله وكل تفاصيلها. والطريف أنني من خلال احتكاكي بزبوناتي اكتشفت أن حتى صغيرات السن منهن يُفضلن حالياً قفاطين تقليدية. فرغم أنه بإمكانهن ارتداء فساتين سهرة من أي مصمم عالمي، فإنهن يخترن القفطان لأنه أكثر تميزاً وأناقة».
اللافت أن الفعالية خلفت ردود فعل إيجابية على كل المستويات، لا سيما أن جزءاً مهماً منها كان عبارة عن مزاد لصالح أطفال سوريا. نجاحها مؤشر بأنها مجرد البداية، وبأن لندن ستحتضن هذه الفعالية لسنوات.
> بحسب تقرير الاقتصاد الإسلامي العالمي، الذي أعدته وكالة «رويترز»، بالتعاون مع «دينار ستاندرد»، فإن المسلمين قوة شرائية مهمة، حيث أنفقوا ما يقدر بنحو 243 مليار دولار على الأزياء في عام 2015، ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 368 مليار دولار في عام 2021. أي بزيادة قدرها 51 في المائة عن عام 2015.
> لا يختلف اثنان أن الغرب أكثر من استفاد من ثقافة الشرق. فقد غرف من فنونها وألوانها الشيء الكثير. بعضهم شغفاً بها، وأغلبهم من مستشرقي القرن الماضي مثل بول بواريه وإيف سان لوران، وبعضهم الآخر رغبة في كسب وده وتجارته. الفئة الأخيرة بدأت تُخاطب الزبون الشرقي بلغته، لكن مشكلتها أنها لم تنجح أن تضيف أي جديد على ما يقدمه المصممون المحليون منذ عقود. وليس أدل على هذا من مجموعة العباءات التي خص بها الثنائي الإيطالي «دولتشي أند غابانا» منطقة الشرق الأوسط، وأثارت جدلاً كبيراً بين موافق ومعجب، وبين رافض ومستنكر. فهي لم تحمل جديداً باستثناء توقيعهما عليها. وبينما فشلت المحاولة من الناحية الفنية، فإنها كانت «ضربة معلم» من الناحية التجارية، حيث حققت للدار الإيطالية الكثير من الأرباح. الجميل فيها أنها ولدت حركة إبداعية مضادة يقودها مصممون شباب أعطتهم هذه التصاميم الغربية الهجينة قوة وجرأة أكبر. والأهم من هذا رغبة قوية على تغيير ثقافة التسوق في المنطقة وتحويلها من ثقافة استهلاكية إلى إبداعية. وهذا ما تابعناه يوم السبت الماضي في فندق «غروفنر هاوس» تحت راية «موديست فاشن» (Modest Fashion Festival) وتعيشه منطقة الشرق الأوسط منذ سنوات على يد مبدعين في مجالات متعددة. من هؤلاء نذكر مصممة الأزياء السعودية رزان عزوني ومصممة الإكسسوارات ناتالي تراد، التي باتت تتوفر حقائبها في كل أنحاء العالم، والعطار السعودي باسل بن جابر صاحب ماركة «ثمين» التي تحقق أعلى المبيعات في محلات «سيلفريدجز» وغيرهم. في ماليزيا أيضاً وصلت هذه الظاهرة إلى حد غزو المصممة أنيسة حاسوبيان لأسبوع نيويورك، لتكون أول مصممة تعرض فيه تشكيلة كاملة للمحجبات.