في الإعلان الصادر عن اتحاد كرة القدم بإطلاق بطولة الدوري الممتاز منذ 25 عاماً مع بزوغ فجر اتفاقات البث التلفزيوني مدفوع الأجر، لم يرد ثمة ذكر للثروات الشخصية التي سيجنيها ملاك الأندية الكبرى. وبقيادة الأندية «الخمسة الكبرى» التي نصبت نفسها في هذه المكانة - مانشستر يونايتد وآرسنال وليفربول وإيفرتون وتوتنهام هوتسبير - حشدت أندية الدوري الممتاز قواها وظلت تطلق تهديدات على امتداد ثمانينات القرن الماضي بالرحيل عن الدوري الممتاز أو ما كان يسمى دوري الدرجة الأولى في ذلك الوقت والذي يرجع عمره إلى قرن مضى، كي لا تشارك أندية الأدوار الثلاثة الأدنى في ملايين الجنيهات الناتجة عن البث التلفزيوني الجديد.
وعلى امتداد ذلك العقد، باتت الثقافة الكروية السائدة أضيق أفقاً، الأمر الذي انتهى بمقتل 96 شخصاً في مباراة الدور قبل النهائي لبطولة كأس الاتحاد الإنجليزي عام 1989 في هيلزبره. ومن جانبه، أعلن اتحاد الكرة «خريطة مستقبل كرة القدم» بعد عامين فحسب، والتي لم تكن سوى مجرد شرك، ذلك أنها نصت على بتر رأس الدوري الإنجليزي بصورته المعروفة من خلال السماح بدوري الدرجة الأولى بالانفصال عنه وإنشاء ما يعرف الآن بالدوري الممتاز عام 1992.
من ناحيته، وفي إطار مراجعته لتلك السنوات الخادعة الأولى التي اتضح أنها كانت بمثابة خطأ تاريخي عميق، قال غراهام كيلي، الذي كان يتولى آنذاك منصب الرئيس التنفيذي لاتحاد الكرة، إن الخطة الأصلية دارت حول تولي اتحاد الكرة إدارة الدوري الممتاز الجديد، تماماً مثلما كان يفعل مع بطولة كأس الاتحاد الإنجليزي. إلا أن ملاك الأندية - الذين كانت تجري الإشارة إليهم آنذاك بعبارة «رؤساء الأندية»، عندما كان مسؤولو كرة القدم لا يزالون متحفظين حيال الاعتراف بفكرة أن الأندية ليست سوى شركات تجارية تضم حاملي أسهم - سارعوا إلى تجريد اتحاد الكرة من هذه السلطة وانطلقوا في جني مليارات لأنفسهم.
وجاءت محنة عائلات ضحايا هيلزبره والناجين الذين عايشوا كابوساً متكرراً في خضم النظام القانوني دون دعم من قبل اتحاد الكرة أو الأندية التي هبط عليها الثراء حديثاً، لتكشف النقاب عن حالة التناقض الصارخ التي لطالما كانت قائمة على امتداد الأعوام الـ25 التي انهمرت خلالها عائدات البث التلفزيوني على الأندية.
وتجلت المفارقة المأساوية هذا العام: ففي الوقت الذي بلغ فيه عمر الدوري الممتاز الجديد 25 عاماً، وأصبح يحصد الآن 2.8 مليار جنيه إسترليني من وراء صفقات بث تلفزيوني، بينما تنفق الأندية 50 مليون جنيه إسترليني على ضم لاعبين في مركز الظهير الأيمن فقط، شهد العام ذاته على الجانب الآخر تقدم السلطات أخيراً باتهامات جنائية عن مقتل ضحايا هيلزبره بعد 28 عاماً.
وحدد أول تقرير صدر عن كبير القضاة موراي تايلور أسباب الكارثة، ومع هذا اضطرت عائلات الضحايا إلى الانتظار 27 عاماً أخرى كي يجري إقرار هذه الحقيقة قانونياً من خلال النتائج التي خلصت إليها تحقيقات جديدة في أبريل (نيسان) 2016. وجاء التقرير الثاني والأخير لتايلور حول إجراءات السلامة داخل الملاعب، حاملاً في طياته إدانة لأسلوب إدارة وتنظيم رياضة كرة القدم بوجه عام وحالة الملاعب وجشع وأنانية ملاك الأندية ومسؤوليها الإداريين، بجانب توجيه سهام النقد إلى الجماهير التي ظلت على وفائها للأندية على امتداد تلك الفترة.
من ناحيتها، وافقت الأندية على توصية تايلور بضرورة إجبار جميع المشجعين على الجلوس أثناء المباريات، في الوقت الذي لم تقبل قط المنظمات الممثلة لمشجعي الأندية هذا الأمر، مطالبة بدلاً منه بتوفير ما أطلقت عليه «الوقوف الآمن». في الوقت ذاته، نجحت الأندية في إقناع الحكومة في أنها لا تملك المال اللازم لإعادة بناء الملاعب الخاصة بها، ما مكنها من ضمان الحصول على منح بقيمة مائتي مليون جنيه إسترليني من المال العام، في وقت كانت صفقات البث التلفزيوني لحساب «سكاي نيوز» التي كانت تسعى بدأب لاجتذاب مشتركين جدد، تلوح في الأفق.
من ناحيته، دحض تايلور الفكرة التي اعترض بها المشجعون حول أن مسألة جلوس الجميع على مقاعد ستعني بالضرورة زيادة ثمن التذكرة، مشيراً إلى أن تذكرة استاد أيبروكس التابع لرينجرز كانت تبلغ حينها 6 جنيهات إسترلينية رغم أن جميع المشجعين كانوا يجلسون على مقاعد. ومع هذا، تجاهلت الأندية تماماً هذا الجزء من التقرير وضاعفت سعر التذكرة بمقدار 1.000 في المائة.
من ناحية أخرى، فإنه في قلب مأساة هيلزبره تكمن حقيقة مقتل عدد ضخم من الشباب - 37 من الضحايا لم يتجاوزوا مرحلة المراهقة، وكان الكثيرون منهم يحضرون مباراة للمرة الأولى بحياتهم - فقط لمجرد أنهم رغبوا في مشاهدة أعظم فريق في تاريخ ليفربول يواجه نوتنغهام فورست بقيادة المدرب القدير بريان كلوف في الدور قبل النهائي ببطولة كأس الاتحاد الإنجليزي. في الواقع، كانت مسألة مضاعفة أسعار التذاكر خيانة أخرى لجماهير كرة القدم وتقرير تايلور.
وحتى هذه اللحظة، لا يزال مسؤولو كرة القدم متحفظين ويبدون قدرا واضحا من الخجل، مثلما كان اتحاد الكرة في خريطة الطريق التي أطلقها من 25 عاماً، إزاء حجم الأموال الهائلة التي جناها ملاك الأندية على نحو شخصي.
والأدهى، أن الخرافة القديمة التي تزعم أن هؤلاء الملاك يخسرون أموالهم، لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا.
في المقابل، تكشف الأرقام أنه من بين «الخمسة الكبار» الأصليين، حصد مارتن إدواردز 94 مليون جنيه إسترليني من وراء ديكتاتوريته الكروية وبيع نصيبه في مانشستر يونايتد، بينما جنى ديفيد موريز 90 مليون جنيه إسترليني من وراء بيع الحصة التي ورثها في نادي ليفربول إلى توم هيكس وجورج غيليت. أما ديفيد دين، فقد باع حصته في آرسنال مقابل 75 مليون جنيه إسترليني التي كان اشتراها بثمن زهيد في ثمانينات القرن الماضي إلى الملياردير الروسي أليشر عثمانوف.
وفي ظل غياب رؤية واضحة أو تنظيم، بات الدوري الممتاز اليوم عنصر جذب لملاك أندية ومستثمرين من مختلف أرجاء العالم، يسعون وراء القيمة الاستثمارية الكبيرة لكرة القدم الإنجليزية.
واللافت أن الحكومات المتعاقبة منذ إنشاء «قوة عمل كرة القدم» من جانب حزب العمال عام 1997 أصيبت بالعمى جراء عملية إعادة تأهيل الإعلام الرياضي المعني بكرة القدم والجاذبية الهائلة التي تمتع بها الدوري الممتاز بالخارج. ومقابل تعهد الدوري الممتاز عام 1999 بتوجيه 5 في المائة فقط من إجمالي عائدات البث التلفزيوني الضخمة التي يجنيها إلى المنشآت الرياضية المتردية المعنية بالمواطنين العاديين، أيدت الحكومة منح الأندية الـ20 الكبرى بالدوري الممتاز حقا استثنائيا يتمثل في العمل على رفع قيمة تعاقدات البث التلفزيوني لها إلى أقصى حد ممكن عبر التفاوض كوحدة واحدة.
حدث في منتصف الثمانينات أن تجمع جمهور نادي آرسنال خارج غرفة مجلس إدارة النادي ليهتفوا «اطردوا مجلس الإدارة»، لكن كيف لجمهور النادي اليوم أن يصل إلى الملياردير الأميركي ستان كرونكي - صاحب الحصة الأكبر في نادي آرسنال وقدرت الصفقة بنحو مليار دولار و195 مليون دولار أميركي وفقاً لبيان صدر في بورصة لندن - والملياردير الروسي أليشر عثمانوف صاحب الحصة الأقل؟
جدير بالذكر أن لاعب الكرة صاحب المهارات العالية في زمانه والشخصية المستقلة لين شاكيلتون - الذي كان يتقاضى 17 جنيها إسترلينيا أسبوعيا، وكان أعلى أجر حينها عندما اقترب من الاعتزال عام 1957 - لجأ إلى حيلة غريبة للتعبير عن كراهيته للطريقة التي تدار بها أندية كرة القدم. ففي سيرته الذاتية، خصص شاكيلتون فصلا كاملا لأعضاء مجلس الإدارة اختار له عنوان «إلمام المديرين بشؤون الكرة»، ولم يشمل الفصل سوى صفحة واحدة بيضاء.
ونظرا لخلافه مع الكثير من مديري الكرة، فإن شاكيلتون حاليا يشير إليهم بكلمة «هؤلاء الجالسون بالطابق العلوي». في الحقيقة، يوضح هذا الوصف انعدام التواصل بين البروليتاريا الكادحة وطبقة رجال الأعمال المناط بهم اتخاذ القرارات الخاصة بشؤون الأندية، وهي المشكلة التي تمتد جذورها بعيدا إلى الوراء في تاريخ اللعبة.
أحيا مهاجم المنتخب الإنجليزي سابقا والناقد الكروي حاليا أيان رايت روح شاكيلتون منذ وقت قريب عندما أدى بدلوه في الصراع الجاري حاليا في نادي آرسنال بين المليارديرين القويين الشريكين في ملكية النادي. فقد نشر رايت تغريدات حماسية ردا على المبارزة الحامية في بورصة الكرة نتيجة للمنافسة بين ستان كرونيكي وأليشر عثمانوف للحصول على أسهم بعضهما. وإذا قرأت ما بين السطور، تستطيع أن تتخيل رايت وهو يفكر ويقول لنفسه: «بالله عليك، ماذا يعرف هذان الرجلان عن كرة القدم؟».
فعندما ظهر كرونيكي للمرة الأولى على الساحة، قال المدير السابق لنادي آرسنال بيتر هيل وود عبارته الشهيرة: «لا نريد هذه النوعية من الناس»، فالتشكك الطبيعي في نوايا المستثمر الأجنبي كانت واضحة تماما. كان مجلس إدارة آرسنال القديم يتألف من عدد من الأسر المرتبطة بالنادي لعقود، لكنهم وجدوا أن عليهم البحث عن الذات منذ عشر سنوات عندما ظهر طرفان بالغا الثراء وأبديا رغبتهما في الاستحواذ على حصة في الدوري الإنجليزي في ظل تنامي قيم صفقات البث التلفزيوني وعائدات الإعلانات، وكان أحدهما من الولايات المتحدة والآخر من روسيا. هل يهم ماذا يعرف أو إلى أي مدى يهتم كلاهما بآرسنال؟ هل الإجابة تعني شيئا؟
ففي العالم الجديد الذي باتت تحكمه الصفوة ورجال الأعمال الذين يقودون أندية الكرة، جاءت المغامرة الكبرى مع كرونيكي الذي يعتمد في سياسته على الجلوس في المقعد الخلفي ليسمح لرجال الأعمال بتولي القيادة. كان نهج عدم التدخل أحد العوامل التي راقت للبعض. لكن مع مرور السنين في عهد كرونيكي، فإن مناخ الراحة والرضا الذي يغضب أمثال رايت يعيدنا إلى السؤال نفسه: إلى أي مدى يعلم أو يهتم الأميركان بكرة القدم؟
فقد رأينا في تاريخ الكرة بعض الحماة الأمناء ممن أبدوا اهتماما بالنادي وكأنه ثروة عائلية ويغدقون عليه من مالهم لحمايته والارتقاء به وكان النادي دوما في قلوبهم. فهناك مثلا جاك واكر بنادي بلاكبيرن، وعائلة كوبولد بنادي أيبسويتش، وماثيو هاردينغ بنادي تشيلسي، وديد نايت بنادي برايتون ولاحقا بنادي هوف ألبيون وجمعيهم لا بد أن يتواردوا إلى الذهن عندما نتحدث في هذا الشأن.
وفي كتاب جيمس مونتاغو بعنوان «نادي الملياردير» الذي يتناول الموجة الجديدة من كبار المستثمرين القادمين من أوروبا الشرقية ومن الولايات المتحدة وآسيا والشرق الأوسط، يثير الكاتب السؤال التالي: «هل يهم من يمتلك نادي كرة القدم؟ هل يهم لماذا اختار شخص ما أن يشتري ويمول فريقك؟ أبسط إجابة سمعتها هي - سواء تلك التي سمعتها من كولين بنادي بورتسموث أو جاكو بنادي أدو دين هاغ الهولندي، هي أن غالبية المشجعين الذين قابلتهم لا يبالون ما دام أن فريقهم يفوز بالدروع، وعليه سيقبلون بأي مالك. لكن ليس الجميع يفوزون، وهنا كانت اللحظة التي بدأ يثار فيها السؤال عن ملاك الأندية وعند الهدف الذي جاءوا من أجله».
ما هو الهدف الذي جاءوا من أجله؟ الإجابة الأكثر تبلدا تأتي على شكل كشف الموازنة. ففيما يتعلق بالحرب الباردة بنادي آرسنال، من الأفضل أن تلقي نظرة على ما حدث لسعر السهم منذ بدأ كرونيكي وعثمانوف الاستثمار في النادي. فعندما بدأ الرجلان في التعامل مع سنداتهم بطريقة أكثر جدية، ارتفع سعر السهم في صيف 2007 بسرعة من 7500 جنيه إسترليني إلى 10000 وفي عام 2011. قام كرونيكي بنقلته الكبيرة ليصبح المالك لغالبية الأسهم وحينها تخطى سعر السهم 11000 جنيه إسترليني.
الآن وبعدما ما احتفظ الاثنان بأسهمهما لعقد كامل ولم ينفقا مليما واحدا على النادي خلال تلك الفترة، فإن نادي آرسنال بات في موقع يمكن كرونيكي من رفض عرض من كونسورتيوم أجنبي لشراء السهم بسعر 32000 للسهم قبل جس النبض لشراء حصة عثمانوف. ومن دون الحاجة لبذل الكثير من الجهد، فقد زادت قيمة الاستثمارات أكثر من ثلاثة أضعاف. ربما يرى كرونيكي وعثمانوف أن قيم الأسهم باتت أغلى من أن تباع في ظل توقعات بمزيد من الارتفاع، وهذا هو الحال وسبب رفض كل منهما لعرض الآخر شراء أسهمه.
في الحقيقة، فقد تسبب هذا في إيجاد جو خانق بنادي الآرسنال في ظل وجود رجلين لا يشعران بالرغبة في التعاون في تحالف غير مريح بالمرة. كذلك لا يستطيع الجمهور المتذمر من هذا الوضع التعبير عن امتعاضه من طريقة ملكية النادي بطريقة تصل بغضبهم إلى المالكين مباشرة. فنادرا ما يحضر كرونيكي مباراة، فيما كان الملاك السابقون يعانون الأمرين للوصول إلى سياراتهم وسط زحام المشجعين بعد انتهاء المباريات.
في فترة الثمانينات، حدث أن تجمع الآلاف من جمهور آرسنال خارج ملعب النادي أسفل نوافذ مجلس الإدارة وأخذوا في الصياح «اطردوا مجلس الإدارة» والباقين، وكان هذا السلوك يبدو مقبولا. لكن للجمهور الساخط اليوم بعض الطرق الواضحة التي يستطيع من خلالها التعبير عن خيبة أمله من الطبقة الحاكمة بطريقة مباشرة. فهناك الاعتراض عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو ترديد الأهازيج في الملعب في بعض المناسبات مثل المباراة الأخيرة في الموسم على ملعب النادي أمام إيفرتون أو الاجتماع السنوي الأخير الذي يحضره كرونيكي عندما يحضر إلى المدينة، لكن جميعها لم يكن لها أي تأثير ظاهر.
سيجد الجمهور العادي صعوبة في إيصال رسالتهم للمليارديرات الذين لا يعرفون سوى أصدقاء لين شاكيلتون الجالسين بالطابق الأعلى، لكن الملاك لديهم المال والمسافة التي تجعلهم يتجاهلون نداءات الجماهير.
جماهير الكرة الإنجليزية ما زالت تتعرض لخيانة الأثرياء
الخرافة القديمة التي تزعم أن ملاك الأندية الكبيرة يخسرون أموالهم لا تزال مستمرة حتى اليوم
جماهير الكرة الإنجليزية ما زالت تتعرض لخيانة الأثرياء
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة