ربما كان المفكر الإيطالي الشهير أنطونيو غرامشي (1892 - 1937) أول من تحدث بوضوح دامغ عن دور المثقفين أفراداً ومؤسسات في التمكين لهيمنة الطبقات الحاكمة على المجتمع من خلال تقديم نموذج فكري وأخلاقي تتبناه الأغلبية، ويصبح بمثابة نظام يحكم رأيها وتوجهاتها. غرامشي استخلص فهمه لصنّاع الثقافة من تحليله العميق لأدوار مثقفين إيطاليين فلاسفة وروائيين ومسرحيين وأدباء وصحافيين، وبيّن كيف اندرج كل منهم - بوعي أو من غير - في خدمة مصالح الطبقة المهيمنة دائماً. وقد طورت مدرسة فرنكفورت أفكاراً مماثلة، في حين نقلتها نظريّة الاستشراق لإدوارد سعيد (1935 - 2003) إلى مجال أرحب عندما كشف عن دور مئات السنوات من العمل الموجه للمستشرقين في خلق صورة للإسلام - والآخر غير الأوروبي - بوصفه نقيضاً للغرب المتحضر والمتقدّم: إرهاب وتدمير وقتل وقطعان من المتوحشين المنفلتين على كل رموز الحضارة الغربيّة وممثليها.
الباحث البريطاني أندرو غلازارد، المتخصص في تاريخ الآداب، يبني على هذا التراث التحليلي العميق، ليقدم نظريّة جريئة تقول بأنه منذ أكثر من مائة عام قبل ظهور «داعش» تشكلّت صورة المسلم الإرهابي - كما هي سائدة في وسائل الإعلام اليوم وفي مخيّلة معظم الغربيين للأسف - على يد جيل محددٍ من المثقفين الإنجليز الروائيين منهم على وجه الخصوص إبّان عصر الإمبراطوريّة البريطانيّة الفيكتوري، وهم عبر مجموعة ضخمة من الأعمال الأدبيّة - وبخاصة الرّوايات التي كانت أداة الثقافة الشعبيّة الأولى لذلك العصر - صاغوا مخيلة شعب الإمبراطوريّة التي لم تغب عنها الشمس يومها بشأن ربط الإسلام بالعنف وسفك الدماء والبربرية والتخلف.
وبالفعل فإن روائيين مشهورين مثل آرثر كونان دويل وريديارد كيبلنغ وجي إيه هينتي وآخرين خبا نجمهم الآن، لكنهم كانوا معروفين على نطاق واسع في أرجاء الإمبراطوريّة شكلوا بمجموعهم ما يشبه أداة بروبوغاندا فائقة التأثير استكملت رسم صورة الآخر وفق ما يكون في مصلحة الإمبراطوريّة، بالطبع إلى جانب التقارير الصحافية والرسائل الدبلوماسيّة والمناقشات البرلمانيّة الصاخبة، بل ومثلت أعمالهم في بعض الأحايين أداة للضغط باتجاه تنفيذ الحملات العسكريّة وإيقاع الأذى بكل من تسوّل له نفسه بالتصدي للجيش البريطاني أو حتى التفكير بإبداء أي شكل من أشكال المقاومة.
يذهب غلازارد الذي نشر كتاباً معروفاً عن أعمال كونراد الروائيّة - وكانت الأخيرة موضوع تشريح مبضع إدوارد سعيد - بأن نقطة بداية صياغة تلك الصورة كانت تحديداً من تقاطع حدثين تاريخيين: الأول كان استثمار بريطانيا الفيكتوريّة الكثيف في مشروع قناة السويس، لضمان السيطرة على طرق التجارة مع مستعمرات الإمبراطوريّة فيما وراء البحار لا سيما الهند، ولاحقاً الاحتلال العسكري لمصر عام 1882، بينما كان الثاني سبقه بعام واحد وتمثّل في موجة صعود ثوري غير مسبوق بالجزء السوداني من مصر بقيادة الإمام المهدي. كان من الممكن أن تخمد ثورة المهديين وتنتهي كنبضة صغيرة في تاريخ الشرق لولا سوء إدارة الحملات العسكريّة المصريّة - البريطانيّة التي أرسلت نحو الجنوب وربما شجاعة السودانيين الفائقة التي مزقت الجهد العسكري البريطاني مرة بعد مرّة على نحو كرّس صورة المهدي في أذهان السودانيين كقائد ملهم. وقد تسبب ذلك الفشل حينها بقيام دولة مستقلة في أجزاء واسعة من السودان، اعتمدت أحكام الشريعة الإسلاميّة، وتبنت برنامجاً طموحاً لغزو القاهرة، ومنها إلى السيطرة على أملاك الخلافة العثمانيّة كافة.
في لندن وقتها دفعت عُصْبة من صقور قيادات الجيش بالتعاون مع صحافيين ثرثارين باتجاه تشكيل رأي عام ضاغط لإرسال الجنرال تشارلز غوردن - وهو كان تولى إدارة السودان في وقت ما - لقيادة حملة تأديبيّة تنهي الحالة المهديّة من جذورها وتستعيد خضوع الأملاك المصريّة في الجنوب. وقد نجحت تلك الضغوط على رئيس الوزراء المتردد ويليام غلادستون بإرسال غوردن إلى الخرطوم عام 1884، قبل أن يطبق عيها حصار المهديين فتسقط بأيديهم خلال أقل من عام. قتل في هذه الهزيمة الجديدة ما يزيد على عشرة آلاف من سكان المدينة المحاصرة والجنود البريطانيين، لكن بالنسبة للصحافة والمخيال الشعبي في بريطانيا فإن موتاً واحداً فقط كان يستحق الوقوف عنده: لقد قتل غوردن وجز رأسه في إهانة غير مسبوقة لشرف الإمبراطوريّة. كان ذلك كل ما احتاجه صقور لندن وقتها: شهيد تتوحد جهود الحرب خلف رسمه، وبالفعل فقد طوبته صحافة تلك الأيام قديساً شهيداً للإمبراطورية، وتحول خلال وقت وجيز إلى أيقونة في الثقافة الشعبية عبر العالم البريطاني من ملبورن إلى لندن، وأصبح ضيفاً دائماً على الروايات الأدبيّة من تلك الفترة، بل وعلّقت صورة كبيرة له داخل غرفة جلوس شرلوك هولمز في بيكر ستريت بلندن، كما في تقارير الصحف الصفراء تلك الأيام.
كتب حينها كيبلنغ روايته المشهورة (الضوء الذي خبا - 1891) عن حملة انتقاميّة لاستعادة جسد القديس الشهيد غوردن، وشاركته جموع من المثقفين الملتحقين في خدمة الهيمنة الإمبراطوريّة روائيين وصحافيين وشعراء ورسامين بتكوين تيار سياسي عريض يدفع باتجاه تأديب السودانيين. غوردن لم يصبح في تلك الأعمال مجرد شهيد تهوي إليه الأفئدة، بل نموذجاً مجسداً لكل معنى نبيلٍ بالحضارة الغربيّة. هدف هذا النموذج ليس غوردن بحد ذاته (وهو ما تبين لاحقاً في سير كتبت بعد عقود من كونه قائداً عسكرياً فاشلاً وسكيراً معربداً)، بل نحْتُ شخصية العدو النقيض: الدراويش المسلمون المتوحشون ذوو الجبب الذين يستمتعون بالقسوة، ويتفننون في أساليب القتل والسحل والاغتصاب والعنف، ويمثلون بتخلفهم وسوء أخلاقهم وعدوانيتهم غير المبررة سوى بالتطرف الديني الأعمى أكبر تهديد للحضارة والقيم الغربيّة. وهكذا عندما قاد اللورد هيربرت كيتشنر حملته الناجحة على السودان بعد ست سنوات، هتف بجنوده في معركة عطبرة الحاسمة عام 1898 «من أجل غوردن».
لا شك أن هؤلاء المثقفين المنخرطين في خدمة المجهود الحربي للإمبراطوريّة تناولوا بعض تفاصيل واقعية متناثرة من هنا وهناك في إطار الحدث السوداني، لكنهم أعادوا رسم (حقيقة) متخيلة معقدة من تداخل خيوط متعددة جعلت الأمور وكأنها ليست لها علاقة بالواقع. حتى شجاعة السودانيين غير المسبوقة صوّرت وكأنها تطرّف مهووس مقابل الشجاعة الواثقة والتضحيّة الكريمة للبريطانيين. وهي جعلت من التطرف جامعاً لكل أطياف السودانيين عرباً وزنوجاً، والسودان نفسه وكأنه بلاد واق واق خارج مشروع الحضارة الإنسانيّة بالكامل.
بالطبع فإن مؤرخين لاحقين تخلصوا من عبء الشحن الآيديولوجي تحدثوا بنوع من الحياديّة عن السودان الثائر كدولة ذات نظام بيروقراطي متقدم، مثّل بعض قادتها نماذج ممتازة تضاهي قدرة رجال أي دولة متقدمة على التفاوض وإدارة العلاقات الدبلوماسية، وشكلت التجربة بمجملها نقلة نوعيّة للمواطنين العاديين الذين عانوا ولعقود طويلة من تعامل القاهرة معهم كحديقة خلفيّة مهملة. كما أن المواجهة الصلبة التي قدمتها قوات تلك الدولة الثائرة بالتصدي لحملات ذات استعداد تقني برسم الإمبراطوريّة تشير إلى حس تنظيمي عال وشجاعة فائقة في مواجهة قوات غازية استعماريّة ليس لها مبرر للظهور في تلك البقعة من العالم سوى جشع الرأسماليين الإنجليز وأحلام توسع عسكرهم السقيمة.
لكن ذلك لا يجدي كثيرا الآن. فالتجربة التحررية السودانيّة - بغض النظر عن دوافعها الآيديولوجيّة المرتبطة بظروفها المحليّة - أجهضت، وأعيد السودان حبيساً للاستعمار وللهيمنة الأجنبيّة. والأخطر من ذلك كله أن مثقفي تلك المرحلة أطلقوا لنا مسخ الإسلاموفوبيا البشع، الذي وفي عصر أحدث منتجات الإعلام والاتصال المتقدمة، ما زال حياً يرزق يعتاش على الكراهية والعنف والتصورات المسبقة.
المثقفون سلاحاً للإمبراطورية البريطانية
صاغوا صورة المسلم «المتطرف» في العقل الأوروبي قبل «داعش» بمائة عام
المثقفون سلاحاً للإمبراطورية البريطانية
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة