تضخم فائق في بريطانيا ودون المأمول بـ«اليورو»

بنك إنجلترا يعود بالإسترليني إلى الخسائر

نمو أسعار السلع الغذائية والترفيهية أسهم بشكل رئيسي في دفع معدل التضخم نحو الارتفاع (أ.ف.ب)
نمو أسعار السلع الغذائية والترفيهية أسهم بشكل رئيسي في دفع معدل التضخم نحو الارتفاع (أ.ف.ب)
TT

تضخم فائق في بريطانيا ودون المأمول بـ«اليورو»

نمو أسعار السلع الغذائية والترفيهية أسهم بشكل رئيسي في دفع معدل التضخم نحو الارتفاع (أ.ف.ب)
نمو أسعار السلع الغذائية والترفيهية أسهم بشكل رئيسي في دفع معدل التضخم نحو الارتفاع (أ.ف.ب)

أشارت بيانات أوروبية، أمس، إلى استقرار مستوى التضخم في منطقة اليورو عند مستوى 1.5% في شهر سبتمبر (أيلول)، دون تغيير عن شهر أغسطس (آب)، ليبقى التضخم عند مستويات دون المستهدف من قبل البنك المركزي الأوروبي، بينما أظهرت بيانات أخرى أن التضخم البريطاني زاد إلى أعلى مستوياته في أكثر من 5 سنوات في سبتمبر، معززاً احتمال قيام بنك إنجلترا (البنك المركزي) بزيادة أسعار الفائدة الشهر القادم.
وقال مكتب الإحصاء الوطني البريطاني، أمس، إن أسعار المستهلكين ارتفعت الشهر الماضي 3% عن مستواها قبل عام، لتتفق مع متوسط توقعات الخبراء الاقتصاديين في مسح أجرته «رويترز»، وتسجل أسرع زيادة منذ أبريل (نيسان) 2012.
وتضغط زيادة التضخم، الذي يقوده بشكل كبير هبوط الجنيه الإسترليني منذ التصويت في العام الماضي على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، على دخل الأسر مما تسبب في تباطؤ النمو الاقتصادي بصفة عامة.
وتعجز الأجور عن مواكبة وتيرة زيادة تكاليف المعيشة. لكن بنك إنجلترا قال الشهر الماضي إنه يتوقع زيادة أسعار الفائدة في الأشهر المقبلة إذا واصل الاقتصاد النمو، وضغوط الأسعار الارتفاع.
وقال بنك إنجلترا الشهر الماضي إنه يتوقع أن يتجاوز التضخم 3% في أكتوبر (تشرين الأول) بارتفاع عما توقعه قبل شهر فقط، حين توقع أن تستغرق عودة التضخم إلى مستواه المستهدف عند 2% أكثر من 3 سنوات.
وقال مكتب الإحصاءات الوطنية البريطاني، أمس، إن الأغذية وتكاليف المواصلات أسهمتا في دفع التضخم إلى الارتفاع في سبتمبر. واستقر المؤشر الأساسي لأسعار المستهلكين، الذي يستبعد التغير في أسعار السلع التي تتسم بالتقلب، مثل الطاقة والأغذية والكحوليات والتبغ، دون تغيير عند 2.7% كما توقع المسح الذي أجرته «رويترز».
كانت توقعات المحللين قد أشارت إلى أن معدل التضخم في بريطانيا سينمو بنحو 2.9% الشهر الماضي. وأوضحت البيانات أن نمو أسعار السلع الغذائية والترفيهية هي التي أسهمت بشكل رئيسي في دفع معدل التضخم نحو الارتفاع.
وعلى وقْع هذه البيانات، ارتفع الجنيه الإسترليني مؤقتاً خلال بداية تعاملات أمس، أمام العملات الرئيسية. حيث سجل الإسترليني ارتفاعاً بنسبة نحو 0.2% مقابل الدولار عند الساعة 10 صباحاً بتوقيت غرينتش. كما زادت العملة البريطانية أمام اليورو بنحو 0.4%، لينخفض سعر اليورو إلى 0.8870 إسترليني.
لكن الإسترليني ما لبث أن عاد إلى الخسائر بعد وقت قليل، لينزل عن مستوى 1.32 دولار للمرة الأولى في 5 جلسات بعد تعليقات أدلى بها صناع سياسات في بنك إنجلترا المركزي فسّرتها الأسواق على أنها تميل إلى التيسير بصفة عامة. وهبط الإسترليني 0.5% خلال الجلسة، لينخفض إلى 1.3192 دولار، في حين تراجعت عوائد السندات القياسية لأجل 10 سنوات بواقع 3 نقاط أساس إلى 1.31%، وهو أدنى مستوى في 19 سبتمبر.
وارتفع المؤشر «فايننشال تايمز 100» البريطاني قليلاً لأعلى مستوى في الجلسة بزيادة نسبتها 0.2%. وأدلى أعضاء اللجنة المعنية بتحديد أسعار الفائدة في بنك إنجلترا بتصريحاتهم أمام لجنة شؤون الخزانة في البرلمان.
وعلى الجانب الآخر من أوروبا، بقيت نسبة التضخم في منطقة اليورو مستقرة في مستوى 1.5% في شهر سبتمبر على أساس سنوي، مثلما كانت عليه في أغسطس، حسب ما أعلن المكتب الأوروبي للإحصاءات «يوروستات»، مؤكداً تقديرات أولى نُشرت في أواخر سبتمبر الماضي.
وفي أغسطس سجلت الأسعار الاستهلاكية في 19 دولة تعتمد اليورو عملةً موحدةً ارتفاعاً بنسبة 1.5% على أساس سنوي. غير أن هذه النسبة ما زالت أدنى من الهدف الذي حدده البنك المركزي الأوروبي، إذ اعتبر أي ارتفاع للأسعار دون 2.0% بفارق طفيف، مؤشراً على صحة الاقتصاد.
وسجلت نسب التضخم الأضعف في قبرص عند مستوى 0.1%، ثم آيرلندا 0.2%، وفنلندا 0.8%... أما النسبة الأقوى فقد كانت في ليتوانيا عند مستوى 4.6%، وإستونيا عند 3.9%، ولاتفيا عند 3%.
وتأكد التضخم الأساسي في منطقة اليورو (أي الذي يستثني الطاقة والمواد الغذائية والمشروبات الكحولية والتبغ، ويستبعد بالتالي المنتجات المتقلبة الأسعار) عند نسبة 1.1% في سبتمبر، مقابل مستوى 1.2% في كلٍّ من يوليو (تموز) وأغسطس الماضيين. بينما سجلت أسعار الوقود نمواً بنحو 3.9% في شهر سبتمبر الماضي.
وفي الاتحاد الأوروبي، حدد التضخم بنسبة 1.8% في سبتمبر، مقابل 1.7% في أغسطس.
وتأثرت العملة الأوروبية الموحدة «اليورو» ببيانات التضخم التي جاءت بعيدة عن المستهدف من جانب «المركزي الأوروبي»، لينخفض اليورو أمام العملات الرئيسية خلال تعاملات أمس. حيث تراجع اليورو مقابل الدولار بنحو 0.3%، ليصل إلى 1.1765 دولار عند الساعة 11:30 بتوقيت غرينتش. بينما تراجعت أمام الين بنحو 0.3% أيضاً، لتصل إلى 131.98 يناً.
وكانت تقارير قد أشارت إلى أن البنك المركزي الأوروبي يدرس خفض مشتريات السندات من 60 مليار يورو شهرياً إلى 30 ملياراً فحسب بدءاً من يناير (كانون الثاني) المقبل.



هل تصبح فرنسا «اليونان الجديدة» في منطقة اليورو؟

أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)
أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)
TT

هل تصبح فرنسا «اليونان الجديدة» في منطقة اليورو؟

أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)
أشخاص يسيرون بالقرب من برج إيفل في باريس (رويترز)

تواجه فرنسا في الوقت الراهن تحديات اقتصادية وسياسية معقدة، تتمثل في ارتفاع معدلات الدين العام وتزايد عدم الاستقرار السياسي، مما يهدد استقرارها الداخلي ويثير القلق بشأن انعكاسات هذه الأوضاع على منطقة اليورو بشكل عام. تأتي هذه الأزمات في وقت بالغ الأهمية، حيث يمر الاتحاد الأوروبي بفترة تحول حاسمة بعد تبعات الأزمة المالية العالمية، مما يطرح تساؤلات حقيقية حول قدرة الدول الأعضاء على مواجهة الأزمات الاقتصادية المقبلة. في خضم هذه التطورات، تظل فرنسا محط الأنظار، إذ يتعرض نظامها السياسي للشلل بينما يتصاعد العجز المالي. فهل ستتمكن باريس من تجنب مصير الدول التي شهدت أزمات مالية مدمرة؟ وما الدروس التي يمكن لفرنسا الاستفادة منها لضمان استدامة الاستقرار الاقتصادي في المستقبل؟

تتجاوز ديون فرنسا اليوم 110 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وبلغت تكلفة اقتراضها مؤخراً مستويات تفوق تلك التي سجلتها اليونان. ويوم الجمعة، توقعت «موديز» أن تكون المالية العامة لفرنسا أضعف بشكل ملموس خلال السنوات الثلاث المقبلة، مقارنة بالسيناريو الأساسي الذي وضعته في أكتوبر (تشرين الأول) 2024. هذه المعطيات أثارت مخاوف متزايدة من أن تكون هذه الأوضاع الشرارة التي قد تؤدي إلى أزمة جديدة في منطقة اليورو. ومع ذلك، عند مقارنة حالة الاتحاد الأوروبي في ذروة الأزمة المالية العالمية، حين كان يواجه خطر التفكك الكامل، مع الوضع الراهن، تتضح الفروق الجوهرية، حيث يظهر الوضع الحالي قدرة الاتحاد على الصمود بشكل أكبر بكثير، مما يعكس قوة أكثر استقراراً وصلابة في مواجهة التحديات الاقتصادية، وفق «رويترز».

وبعد انهيار حكومتها الهشة في أوائل ديسمبر (كانون الأول)، توجد فرنسا حالياً في دائرة الضوء. فقد أدت الانتخابات البرلمانية المبكرة التي أجريت في يوليو (تموز) إلى انقسام الجمعية الوطنية، مما أدى إلى تعميق الأزمة السياسية في البلاد. وفي مسعى لتشكيل حكومة قادرة على استعادة الاستقرار، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون السياسي المخضرم ميشيل بارنييه رئيساً للوزراء بعد الانتخابات، على أمل بناء إدارة مستدامة. لكن التوترات بين الحكومة والبرلمان اندلعت عندما دعا بارنييه إلى خفض الموازنة للحد من العجز المتوقع، والذي قد يصل إلى 6.1 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام. وقد أدى هذا إلى تجمع أعضاء البرلمان من مختلف الأطياف السياسية لرفض الموازنة، وكان التصويت بحجب الثقة الذي أدى إلى إقالة بارنييه هو الأول من نوعه منذ عام 1962.

وأثناء تطور هذه الأحداث، ارتفعت عوائد السندات الفرنسية لأجل عشر سنوات بشكل مؤقت إلى مستويات أعلى من نظيرتها اليونانية، مما أثار المخاوف من أن فرنسا قد تصبح «اليونان الجديدة». ومع ذلك، إذا تم النظر إلى ما حدث في اليونان في عام 2012، عندما وصلت عوائد سنداتها لأجل عشر سنوات إلى أكثر من 35 في المائة، يلاحظ أن الوضع اليوم مختلف بشكل جذري. ففي الوقت الراهن، تقل عوائد السندات اليونانية عن 3 في المائة، مما يعني أن العوائد الفرنسية قد ارتفعت بأقل من 60 نقطة أساس خلال العام الماضي لتصل إلى مستويات مماثلة.

ومن خلال تحليل التغييرات في عوائد السندات في منطقة اليورو خلال السنوات الأخيرة، يتضح أن اليونان قد نجحت في تحسين وضعها المالي بشكل ملحوظ، في حين أن فرنسا شهدت تدهوراً طفيفاً نسبياً.

قصة التحول: اليونان

بعد أن اجتاحت الأزمة المالية العالمية أوروبا في أواخر العقد الأول من الألفية، تعرضت اليونان لمحنة مالية شديدة، حيث تكشفت حقيقة الوضع المالي للبلاد، وارتفعت تكاليف ديونها بشكل كبير. وفي إطار استجابة لهذه الأزمة، حصلت اليونان على حزم إنقاذ من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي مقابل تنفيذ حزمة من الإجراءات التقشفية القاسية. ونتيجة لذلك، دخلت اليونان في ركود اقتصادي طويل دام لعقد من الزمن، بينما تعرضت لعدة فترات من عدم الاستقرار السياسي.

لكن الحكومة الحالية التي تنتمي إلى التيار الوسطي - اليميني نجحت في استعادة بعض الاستقرار الاقتصادي، حيث تمكنت من تحقيق فائض أولي في الموازنة، وهو ما مكنها من تقليص عبء الديون الضخم. كما شهد الاقتصاد اليوناني نمواً بنسبة 2 في المائة العام الماضي، وهو ما يعد تحسناً ملموساً.

ورغم أن فرنسا قد تحتاج إلى جرعة من العلاج المالي ذاته، فإنها تبدأ من نقطة انطلاق أقوى بكثير من اليونان. فاقتصاد فرنسا أكثر تطوراً وتنوعاً، ويبلغ حجمه أكثر من عشرة أضعاف الاقتصاد اليوناني. كما أكدت وكالة «ستاندرد آند بورز غلوبال ريتنغ» قبل أسبوعين تصنيف فرنسا الائتماني، مع التوقعات بأن تواصل البلاد جهودها في تقليص العجز في الموازنة. وأشارت الوكالة إلى أن «فرنسا تظل اقتصاداً متوازناً، منفتحاً، غنياً، ومتنوعاً، مع تجمع محلي عميق من المدخرات الخاصة»، وهو ما يعزز موقفها المالي.

الأمر الأكثر أهمية هنا هو أنه حتى في حال قرر المستثمرون الدوليون سحب أموالهم - وهو ما لا يوجد أي مؤشر على حدوثه - فإن فرنسا تملك إمداداً كبيراً من الأموال المحلية، يُمكِّنها من سد الفجوة المالية المتزايدة.

فعل كل ما يلزم

على الرغم من أن منطقة اليورو لا تزال تشهد تطوراً غير مكتمل، فإنه من المهم الإشارة إلى كيفية تعزيز النظام المصرفي في المنطقة منذ الأزمة المالية العالمية. كما ينبغي تذكر كيف أثبت البنك المركزي الأوروبي مراراً استعداده وقدرته على اتخاذ الإجراءات اللازمة لمنع الأزمات المالية في المنطقة. إلا أن ذلك لا يعني أن صانعي السياسات في باريس أو العواصم الأوروبية الأخرى يشعرون بتفاؤل مطلق بشأن التوقعات الاقتصادية للاتحاد.

ففي العديد من الجوانب، تبدو التحديات الاقتصادية التي تواجه فرنسا أقل حدة، مقارنة بتلك التي تواجهها ألمانيا، التي تعرضت حكومتها هي الأخرى لهزة قوية مؤخراً. ويعاني أكبر اقتصاد في منطقة اليورو من تداعيات سنوات طويلة من نقص الاستثمارات، حيث يواجه قطاعها الصناعي القوي سابقاً صعوبات حقيقية في التعافي. كما أن منطقة اليورو، التي شهدت تباطؤاً ملحوظاً في نمو إنتاجيتها، مقارنة بالولايات المتحدة على مدار السنوات الماضية، تواجه الآن تهديدات كبيرة بسبب الرسوم الجمركية التي قد تفرضها إدارة الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترمب.

لكن هذه التهديدات التجارية قد تكون هي التي تدفع الاتحاد الأوروبي إلى اتخاذ خطوة كبيرة أخرى في تطوره الاقتصادي. فالتاريخ يثبت أن الاتحاد يتخذ خطوات حاسمة عندما يُدفع إلى الزاوية. وفي وقت سابق، قدم ماريو دراغي، الرئيس السابق للبنك المركزي الأوروبي، خطة لإصلاحات اقتصادية طال انتظارها، داعياً إلى استثمار إضافي قدره 800 مليار يورو سنوياً من قبل الاتحاد الأوروبي.

وقد لاقت هذه الخطة دعماً واسعاً من المفوضية الأوروبية والبنك المركزي الأوروبي، حتى أن رئيس البنك المركزي الألماني، المعروف بتوجهاته المتشددة، دعا إلى تخفيف القيود على الإنفاق في ألمانيا. وإذا أسفرت الانتخابات في ألمانيا وفرنسا عن حكومات أقوى العام المقبل، فقد يُتذكر عام 2025 ليس بوصفه بداية لأزمة جديدة في منطقة اليورو، بل بوصفه عاماً شهدت فيه المنطقة اتخاذ خطوة كبيرة نحو تحقيق النمو الاقتصادي المستدام.