أن تزور تركيا دون أن تعرّج على مطعم «نوسريت ستيك هاوس» Nusret Steakhouse، كأنك تقطف وردة دون أن تشتم رائحتها. أما إذا قصدت مدينة بودروم السياحية المعروفة في البلد المذكور، فإن أول معلم سياحي ينصحك به أهاليها هو مطعم «نوسريت» في منطقة «بالمارينا»، الواقعة على الواجهة البحرية الشبيهة لمنطقة «زيتونة باي» في بيروت.
«سيفوتك الكثير إذا لم تزوري هذا المطعم»، قال لي محمد، صاحب وكالة سياحية في بودروم، عندما سألته عن «نوسريت»، مضيفاً: «هناك، ستتذوقين قطعة لحم لا تشبه غيرها في العالم». وبالفعل، اتجهت وشقيقتي إلى منطقة بالمارينا. وفي مجمع متاخم لمركز تجاري ضخم يحمل اسم المنطقة، وعلى طول طريق تصطف على جانبه من ناحية البحر يخوت خيالية بأحجامها وهندستها الشبيهة بالقصور، وصلنا مطعم «نوسريت» بعد أن لاح أمام ناظرنا اسمه من بعيد وقد كتب بالأخضر.
«أهلاً وسهلاً سيداتي، ولكن عليكن أن تنتظرن دوركن لتحظين بطاولة في المطعم، فأمامكن نحو 65 شخصاً ينتظرون»... تفاجأنا، أختي وأنا، في البداية، وشعرنا بالإحباط: كيف ننتظر كل هؤلاء الناس لندخل «الجنة»، وسيصل بعد نحو ساعتين التاكسي ليقلنا؟
رضينا بالأمر الواقع، وقررنا المغامرة، بعد أن تمنينا على مضيفة المطعم أن تسرع بإيجاد حجز لنا، كوننا سياحاً، ومصيرنا يرتبط بسيارة التاكسي التي ستقلنا بعد فترة من الوقت.
جلسنا ننتظر دورنا في الباحة الخارجية للمطعم، التي تعج بالعشرات من الأشخاص أصحاب البال الطويل مثلنا، فيما كان يجلس بالمقابل المئات يتناولون طعام العشاء بمزاج وفرح.
«انظري هذا هو صاحب المطعم نوسريت»، قال لي أحد اللبنانيين الذي كان يجلس منتظراً دوره مثلنا. وتلقائياً، وبشعور الصحافية النهمة، اتجهت مسرعة نحو هذا الرجل المنمنم القامة، الذي يضع نظارات شمس على عينيه في عز الليل، ويرتدي قميصاً قطنياً أبيض وبنطالاً أسود وحذاءً رياضياً ملوناً، واقتربت منه وسألته: «مرحباً، إذن أنت صاحب المطعم؟» ليرد عليّ: «مرحباً، لا، أنا الجزار الذي يقطع اللحم». ابتسمت، وعدت أروي للشخص اللبناني أن معلوماته خاطئة. فابتسم، وقال لي: «إنه نوسريت، وهو متواضع لأبعد حدود». لم أرد أن ألح على المدعو نوسريت، وبعد انتظار دام نحو 20 دقيقة، دعتنا المضيفة لأخذ محلاتنا على طاولة في حديقة المطعم، تظللها الأشجار وتنيرها أضواء خافتة.
وبعد أن قدّم لنا النادل محمد نصائحه حول الأطباق التي علينا تذوقها خلال هذه السهرة، وفي مقدمها الـ«لوكوم»، وهي نوع من لحم الضأن الطري إلى حد الذوبان في الفم. قمت من مكاني، وتوجهت من جديد نحو نوسريت، وسألته مباشرة: «ما هو سرك؟ فأنا أكتب في جريدة (الشرق الأوسط)، وأرغب في إجراء مقابلة معك». ابتسم لي نوسريت، وبادرني بلكنته التركية وإنجليزيته الضعيفة: «إذن، أنت لا تستسلمين؟ أوافق على الأمر شرط ألا تقترب آلة التسجيل مني». وهكذا، بدأت أطرح على نوسريت جوكشي كل ما كان يدور بخلدي من أسئلة، بعد أن جاوبني على سؤالي الأول قائلاً: «ثلاثة أشياء تؤلف عناصر النجاح لدى كل واحد منا، ألا وهي: الفن والفكر ورب العالمين». وماذا تقصد برب العالمين؟ «يعني أن تصغي إلى إشاراته ولا تهملينها، فعندما فاتحت والدي وأنا في الرابعة عشرة من عمري بأنني أرغب في فتح مطعم، هزأ مني، وقال لي: أنت مجرد لحام يقطع اللحم لزبائنه، فبماذا تتفوه؟». ويكمل نوسريت حديثه: «يومها، خرجت من المنزل تاركاً كل ما يربطني به لأتفرغ لحلمي. وتوجهت إلى الأرجنتين، ومكثت هناك لفترة تعرفت خلالها على أفضل أنواع اللحوم وألذها، وتعلمت كيف عليّ أن أتعامل معها. وبعدها، عدت إلى تركيا لافتتح مطعماً صغيراً لي في إسطنبول، بالكاد يتسع لـ10 أشخاص».
كان نوسريت يروي حكايته لي بشغف وهو يبتسم، ويتابع: «في البداية، اقتصر الزبائن على عدد أصابع اليد الواحدة، ليؤلفوا بعد نحو أسبوعين العشرات الذين كانوا يقفون على باب مطعمي ينتظرون دورهم للدخول. ومن هناك، انطلقت وصار لديّ اليوم أكثر من فرع في تركيا (4 مطاعم في إسطنبول، وواحد في بودروم، وفروع أخرى في أنقرة ومرمريس)».
ذاع صيت «نوسريت» اليوم ليصل إلى بلدان الخليج (أبوظبي ودبي)، وقريباً سيفتتح فروعه الجديدة في ميامي ونيويورك ولندن. ولكن هل فكرت في افتتاح فرع في بيروت؟ تفاجأ نوسريت بسؤالي له وأجابني: «من يدري؟ ربما، فأنت من لفت نظري لهذا الموضوع الآن».
ويعتبر نوسريت أنه اجتهد ليصل إلى مكانته هذه، فقد صار أشهر من أن يعرف عنه في العالم أجمع، بعد أن صار يستحوذ على أحاديث الصالونات، ويقصده نجوم عالميون أمثال ليوناردو دي كابريو، ويقلد حركته في رش الملح المعروف بها على وسائل التواصل الاجتماعي الآلاف، وبينهم لاعب فريق آرسنال داني ويلبيك، الذي وقف يقلد حركته هذه وسط الملعب بعدما سجل هدفاً مميزاً لصالح فريقه. كما كرمته مدينة ميلبورن (أستراليا) برسم غرافيتي له في أحد أهم شوارعها الرئيسية، وطبعت صورته بأنامل مصممين عالميين على قمصان قطنية تهافت النجوم لارتدائها، وفي مقدمهم الممثل بن عفليك والمغنية ريهانا. «أعلم جيداً أنني أشكل ظاهرة في العالم أجمع، حتى أن الشباب التركي بات لا يحلم بأن يصبح طبيباً أو مهندساً، بل أن يكون (نوسريت) فقط»، يروي لي نوسريت بفخر بعد أن اعترف لي بأنه ابن عائلة فقيرة جداً، وأن أصدقاء الطفولة الذين دعموه في بداياته بقي وفياً لهم حتى اليوم، واثنين منهم يديرون مطعميه في دبي وأبوظبي.
ونوسريت الذي بالكاد يعرف الإنجليزية استطاع باستعراضه الذي قدمه في بداية عام 2017، على صفحته الإلكترونية (إنستغرام)، أن يجذب الملايين من مختلف بلاد العالم، وهو يظهر فيه يقطع لحم الكستليتا المشوي بعد جرمه، ويتوج هذا المشهد في الختام برشة ملح كريستالية ينثرها على طريقته، فلقب بـ«Salt Bae» (وتعني رشة الملح بحب). وتضاهي شهرته اليوم نجوم هوليوود ورؤساء الجمهوريات وأبطال الرياضة: «أتواصل مع الآخرين من خلال قطعة لحم، وهو أمر رائع».
ولحسن حظنا، قدم نوسريت في أثناء تناولنا العشاء في مطعمه في بودروم استعراضه الشهير. وفي تلك اللحظات، هدأ الجميع وتوقف عن الكلام، وساد الصمت الأجواء، ليتحول صوت طرقات سكينه الذي يلامس قطع اللحم على الطبلية الخشبية الموسيقى الوحيدة التي تتسلل إلى مسمعك، وليعلو التصفيق الحار له من قبل الحضور.
الشيف نوسريت لـ«الشرق الأوسط»: الفن والفكر من أسرار النجاح
الطاهي التركي صاحب رشة الملح الخاصة
الشيف نوسريت لـ«الشرق الأوسط»: الفن والفكر من أسرار النجاح
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة