الانتخابات النيابية الألمانية: «مامي» أنجيلا باقية في الحكم

تحالف المسيحيين يحلّق في استطلاعات الرأي... والاشتراكي شولتز يفقد زخمه

الانتخابات النيابية الألمانية: «مامي» أنجيلا باقية في الحكم
TT

الانتخابات النيابية الألمانية: «مامي» أنجيلا باقية في الحكم

الانتخابات النيابية الألمانية: «مامي» أنجيلا باقية في الحكم

لم يسبق لاستطلاعات الرأي الألمانية أن كانت بمثل هذا الوضوح منذ سقوط جدار برلين وإعادة توحيد ألمانيا. فكل الاستطلاعات تعطي التحالف المسيحي تفوّقاً على منافسه الاشتراكي بما لا يقل عن 15 نقطة، قبل شهر واحد من موعد الانتخابات النيابية في 24 سبتمبر (أيلول) 2017.
وإذ يعزو بعض المحللين تفوّق التحالف المسيحي الديمقراطي على غريمه الاشتراكي الديمقراطي إلى إنجازات زعيمة الطرف الأول، المستشارة أنجيلا ميركل و«وسطيتها» السياسية بين المحافظين الألمان، فإن مجموعة من العلماء النفسانيين ترى أن سر جاذبية «مامي»، بحسب الوصف الذي يُطلق على ميركل، يكمن في شيء آخر. إذ يقول علماء من جامعة فريدريش ألكسندر في بافاريا إن سر نجاح ميركل يكمن في شكل وجهها، ويعتبرون أن النساء من ذوات الوجه العريض، مثل ميركل وهيلاري كلينتون، يتمتعن بشراهة إلى السلطة أكثر من غيرهن. وتسعى هذه النسوة إلى فرض النفوذ وتوفير شروط النجاح أكثر من غيرهن من النساء، بحسب دراسة علماء الجامعة البافارية.
وللوصول إلى هذه الخلاصة، درس العلماء تأثير زيادة النشاط الهرموني في الدماغ ونمو الجسم في مرحلة الشباب، وتوصلوا إلى أن هذا النشاط ينعكس على عظام الوجه وعلى تطور فصوص الدماغ الأمامية المسؤولة عن الحوافز والسلوك عند البشر. واستخدم العلماء طريقة قياس الوجه التي يُطلق عليها اسم طريقة «نسبة عرض الوجه إلى طوله»، وتوصلوا مجدداً إلى أن البشر يميلون إلى الذكورة والأنوثة كلما زادت نسبة عرض الوجه بالنسبة إلى طوله.
طبّق علماء جامعة بافاريا نتائج دراستهم على 213 فرداً وانطبقت على كثير من النساء، على رغم أن النسبة بين عرض وطول الوجه تصلح أكثر في تقييم الرجال. وذكر كيفن جونسون الذي قاد فريق العمل، أن أنجيلا ميركل نموذج جيد للعلاقة بين أبعاد الوجه وسلوك التهافت على السلطة. ومعلوم أن وسائل الإعلام الألمانية تُطلق منذ فترة اسم «مامي» (Mutti) على ميركل، لكن ذلك أثار اعتراض أكثر من سياسي اعتبر أن هذه التسمية تمنح أفضلية للمستشارة على غيرها في الانتخابات من خلال تصويرها بوصفها «أم كل الألمان».

التحالف المسيحي في الواجهة
وأظهر آخر استطلاع للرأي نُشر في ألمانيا أن ثلث الناخبين لم يحسموا بعد أمرهم إلى أي جهة سيصوتون. وكما هو متوقع، اعتبر الحزب الديمقراطي الاشتراكي هذه النتيجة - الثلث الحائر في تأييد هذا الطرف أو ذاك - دليلاً على إمكانية تجاوز الفجوة بينه وبين الاتحاد المسيحي في «الوقت الضائع» من المباراة، بينما اعتبرها المسيحيون تعبيراً عن وقوف الاشتراكيين وحلفائهم في «موقف تسلل».
ويشير استطلاع الرأي، الذي أجراه معهد «انزا» بتكليف من جريدة «بيلد» واسعة الانتشار، إلى أن الاتحاد المسيحي سيفقد نقطة ويحقق 37 في المائة من الأصوات. ويحقق الحزب الليبرالي (الحزب الديمقراطي الحر)، وهو الحليف التقليدي للمسيحيين، نسبة 8 في المائة. ويأتي الحزب الديمقراطي الاشتراكي في المرتبة الثانية محققاً نسبة 24 في المائة. وسيخسر حزب الخضر، بحسب الاستطلاع، نقطة واحدة، لكنه سيتخطى نسبة 5 في المائة اللازمة لدخول البرلمان ويحقق 6.5 في المائة.
وكان حزب اليسار وحزب «البديل لألمانيا» الشعبوي الحزبين الوحيدين اللذين حققا ارتفاعاً قدره نقطة واحدة مقارنة باستطلاعات الرأي قبل شهر. ويُتوقع أن يرتفع رصيد اليسار إلى أكثر من 10 في المائة قليلاً ليصبح القوة الثالثة في البرلمان، فيما سيحقق حزب «البديل لألمانيا» نسبة 10 في المائة.
وقبل شهرين كشفت نتائج استطلاعات الرأي من معهد «فورسا»، لصالح مجلة «شتيرن» وتلفزيون «ر ت ل»، أن تحالف المحافظين مع الليبراليين سينجح في تشكيل حكومة غالبية، وأن الاشتراكيين لا أمل لهم في الوصول إلى السلطة.
وبالأرقام، ظهر أن التحالف المسيحي سيحقق بمفرده نسبة 40 في المائة، تاركاً للاشتراكيين نسبة 22 في المائة، ولليبراليين نسبة 8 في المائة، ولليسار نسبة 9 في المائة، والخضر نسبة 8 في المائة، ولحزب «البديل لألمانيا» نسبة 7 في المائة. وعلى هذا الأساس، يُتوقع أن يحقق تحالف المحافظين مع الليبراليين نسبة 48 في المائة في مقابل مجموع قدره 46 في المائة لكل القوى الأخرى.

قضم التفاحة الخضراء أو التحالف الكبير
وبالمقارنة مع استطلاعات الرأي الأخيرة، يتضح أن أشكال التحالفات الحكومية المقبلة تقلّصت إلى مجرد شكلين فقط، هما التحالف الكبير (غروكو/ مختصر التحالف الكبير بالألمانية) بين الاتحاد المسيحي والحزب الديمقراطي الاشتراكي، وتحالف «جامايكا» الذي يعبّر عن ألوان التحالف المسيحي (الأسود) مع الليبراليين (الأصفر) وحزب الخضر (الأخضر). فمجموع نسبة المسيحيين مع الليبراليين (45 في المائة) لا يكفي لتحقيق الأكثرية اللازمة لتشكيل حكومة، ولا تكفي أصوات الاشتراكيين واليسار والخضر لتحقيق أغلبية تكفي لتأسيس حكومة «يسارية» (المجموع 40.6 في المائة). وإذ يرفض الجميع التحالف مع حزب «البديل لألمانيا»، ولا تعترض قيادة المسيحيين على التحالف مع الخضر، لا يبقى سوى احتمال استمرار التحالف الكبير في تولي الحكم في برلين، أو «قضم التفاحة الخضراء» من قبل المسيحيين والليبراليين (مجموع 51.5 في المائة لـ«تحالف جامايكا»). وسياسة «قضم التفاحة الخضراء»، بمعنى عدم الاعتراض على التحالف مع الخضر، هي سياسة أوجدها المستشار الأسبق هيلموت كول في أواخر أيامه.
لا يصب كلا الشكلين من التحالف في صالح الحزب الديمقراطي الاشتراكي الذي يفسّر جناحه الأيسر هبوط شعبية الحزب على أساس دخوله التحالف الكبير مع المحافظين. وحينها لا يبقى أمام حزب المرشح الاشتراكي مارتن شولتز غير القبول بدور الحليف الصغير في الـ«غروكو» إلى جانب المسيحيين، وهو الدور الذي كان الليبراليون يؤدونه في العادة، أو القبول بدور المعارض البرلماني الكبير لحكم «جامايكا».
ولم يكشف مارتن شولتز، الذي تخلى عن موقعه رئيساً للبرلمان الأوروبي ليخوض معترك المنافسة السياسية الألمانية، ما إذا كان سيرضى بموقع وزير الخارجية في حكومة تشكلها ميركل مستقبلاً، أو أنه سيحتفظ بموقعه التنظيمي فقط رئيساً للحزب الديمقراطي الاشتراكي.

وزراء يرحلون ووزراء قادمون
وعلى أي حال، يتوقع محللون سياسيون، في ضوء أداء وزراء التحالف الكبير الحاكم حالياً، أن يؤدي هذا التحالف إلى فقدان كثير من الوزراء حظوتهم لدى أنجيلا ميركل. وتوقّع معهد «انزا» لاستطلاعات الرأي أن يخسر المسيحيون 50 نائباً برلمانياً إذا خسروا 3 نقاط في الانتخابات في المحصلة الأخيرة مقارنة بنتائج انتخابات 2013.
ويكشف استطلاع الرأي أن المسيحيين والاشتراكيين سيخسرون كثيراً من النقاط، وعليهم على هذا الأساس أن يتخلّوا عن عشرات النواب في الدورة النيابية المقبلة. وطبيعي أن الرابح الأكبر من هذه الخسارة سيكون حزب «البديل لألمانيا» الشعبوي الذي سيقفز من صفر إلى 10 في المائة، وكذلك حزب اليسار الذي سيكسب 3 نقاط.
وبحسب تقديرات برنامج «مينوس آينز» الذي تبثه قناة التلفزيون الأولى (ا ر د)، فهناك قائمة جاهزة تضم تشكيلة الوزارة الجديدة في حالة انعقاد «التحالف الكبير» مجدداً بعد الانتخابات. وفضلاً عن الـ«مامي» ميركل على رأس الوزارة، من المتوقع أن يحتفظ وزير المالية الحالي السياسي المحافظ المخضرم فولفغانغ شويبله بكرسيه «السيّار» في الحكومة رغم بلوغه 78 سنة. كما أدت الاشتراكية أندريا ناليز عملها بشكل جيد في وزارة العمل، ويُتوقع بالتالي أن تحتفظ بحقيبتها الوزارية.
ويُعتقد أن قائمة الذين سيبقون في الحكومة، عند حصول «التحالف الكبير» مجدداً، ستشمل وزير دائرة المستشارة بيتر التماير (مسيحي)، ووزير الصحة هيرمان غروهه (مسيحي)، ووزيرة التعليم يوهانا فانكه (مسيحية)، ووزير الخارجية زيغمار غابرييل (اشتراكي)، ووزيرة العائلة كاتارينا برالي (مسيحية)، ووزير الزراعة كريستيان شميدت (مسيحي)، ووزير التنمية والعلوم غيرد موللر (مسيحي).
ويقف وزير الداخلية الاتحادي توماس دي ميزير (مسيحي) على قائمة المتوقع «تسريحهم» من الخدمة الوزارية المقبلة، ويرافقه الاشتراكي هايكو ماس الذي يحمل حقيبة وزارة العدل، وتنضم إليهما وزيرة الدفاع أورسولا فون ير لاين (مسيحية)، ووزير النقل ألكسندر دوبرند (مسيحي) ووزيرة البيئة باربرا هيندريكس (اشتراكية).
ويبدو يواخيم هيرمان، وزير داخلية بافاريا المتشدد (ينتمي إلى الاتحاد الاجتماعي المسيحي)، مرشحاً قوياً لخلافة دي ميزير في وزارة الداخلية. كما يبرز اسم ينز شبان، المنتمي بدوره إلى الاتحاد الاجتماعي المسيحي، مرشحاً قوياً لموقع وزير الدفاع.

الاشتراكي مارتن شولتز يفقد «تأثيره»
وكانت قيادة الحزب الديمقراطي الاشتراكي وافقت بالإجماع، في مؤتمر الحزب السنوي نهاية العام الماضي، على ترشيح مارتن شولتز (61 سنة) لمنازلة المحافظة ميركل على منصب المستشارية في الانتخابات العامة. وفي الحال، نال ترشيح شولتز موافقة الجناح اليساري في الحزب، وتأييد النقابات العمالية وثيقة الصلة بالحزب، وهو أول مرشح يحظى بمثل هذا التأييد الداخلي. كما رحّب حزب اليسار، وكذلك حزب الخضر، بترشيح شولتز، وعبّر مندوبو الحزبين عن اقتناعهم بإمكانية الرهان على شولتز لإقصاء ميركل.
وكان «البارومتر» السياسي، الذي تقدمه القناة الثانية في التلفزيون الألماني (ز د ف)، يضع شولتز، في استطلاعات الرأي، على رأس قائمة السياسيين الأكثر شعبية في ألمانيا، يليه اشتراكي آخر هو فرانك فالتر شتاينماير، ثم وزير المالية فولفغانغ شويبله، وتأتي ميركل بعدهم في المرتبة الرابعة.
وفي استطلاع للرأي أجرته القناة الأولى في التلفزيون الألماني (ا ر د) في يناير (كانون الثاني) الماضي، قال 67 في المائة ممن شملهم الاستفتاء إنهم يدعمون ترشيح شولتز. ونال شولتز نسبة من الأصوات بلغت 41 في المائة (+5 مقارنة بشهر ديسمبر/كانون الأول) مقابل النسبة نفسها للمستشارة ميركل (- 2 مقارنة بشهر ديسمبر).
وتفوّق شولتز على ميركل، في هذا الاستطلاع، من ناحية «المصداقية»، وحقق نسبة 65 في المائة مقابل 64 في المائة لميركل، ومن ناحية «اللطافة»، لأنه حقق 69 في المائة مقابل 63 في المائة للمستشارة. إلا أن ميركل تفوّقت عليه في قضايا «الكفاءة» بنسبة 78 في المائة إلى 68 في المائة، وفي القدرة القيادية 78 في المائة إلى 68 في المائة.
ووصفت الصحافة الألمانية ما أنجزه في بداية مشواره بـ«تأثير شولتز»، إلا أن هذا التأثير لم يدم طويلاً، إذ فقد شولتز زخمه، فيما نجحت ميركل في استعادة توازنها السياسي في التعامل مع مشكلة اللاجئين، وأجرت مصالحة مع هورست زيهوفر، زعيم الاتحاد الاجتماعي المسيحي (الشقيق البافاري للمسيحي الديمقراطي)، الذي هدد بدخول الانتخابات منافساً لميركل لو أنها استمرت في سياسة الترحيب باللاجئين.
وواقع الحال أن شولتز أنقذ الاشتراكيين من نسبة تحت العشرين في المائة، التي منحتها لهم استطلاعات الرأي قبل ترشيح نفسه، والتي اعتبرت «خسارة تاريخية» لهم من قبل الإعلام الألماني. وتحتسب نسبة 24 في المائة التي حققها شولتز لحزبه في الاستطلاعات قبل شهر من الانتخابات إنجازاً له، رغم كل شيء.
وفي تفسيرهم سبب تراجع الاشتراكيين السريع في استطلاعات الرأي، وصعود المسيحيين مجدداً، يُجمع معلقون سياسيون على أن حزب المستشارة ميركل كسب في واقع الحال الناخبين من معسكر حزب «البديل لألمانيا» بعد انعطافته «اليمينية» في موضوع سياسة الهجرة واللجوء.

برلمان مقبل بستة أحزاب
حقق حزب «البديل لألمانيا» أعلى نتائجه سنة 2015 مستغلاً أصوات الناقمين على سياسة الباب المفتوح أمام اللاجئين. وتراجعت أصواته كثيراً بعد أن أوصدت ميركل أبواب الهجرة مجدداً بوجه اللاجئين، لكنه أصبح القوة السادسة التي يتوقع أن تدخل البرلمان الألمان (البوندستاغ).
وإذا تم التعامل مع الاتحاد المسيحي كحزب واحد، يمكن القول إن «البوندستاغ» بقي بـ3 أحزاب طوال 40 سنة حتى منتصف الثمانينات. وهي أحزاب الاتحاد المسيحي والحزب الديمقراطي الاشتراكي والحزب الديمقراطي الحر. وكان الحزب الليبرالي (الديمقراطي الحر) القاسم المشترك الأعظم الذي حقق للحزبين الكبيرين كل مرة الأغلبية اللازمة عند فوزه في الانتخابات.
وتجاوز حزب «الخضر» حاجز 5 في المائة اللازمة لدخول البرلمان وأصبح القوة الرابعة فيه سنة 1987. أعقب ذلك سقوط جدار برلين والوحدة الألمانية و«نشوء حزب الديمقراطية الاشتراكية»، الذي تحوّل بعد ذلك من حزب شرقي بحت إلى حزب اليسار لكل ألمانيا في مطلع القرن الحادي والعشرين، وصعد إلى البرلمان كقوة خامسة. قبلها نجح الحزب في انتخابات التسعينات في إدخال بعض ناخبيه عبر الترشح الفردي في مناطقهم الانتخابية، لكنه لم يتحوّل إلى «كتلة برلمانية» إلا بعد تغيير اسمه إلى حزب اليسار.

اللجوء والاندماج أكثر ما يهم الناخب الألماني
أجرى برنامج «فال جيك» الذي تبثه القناة الأولى في التلفزيون الألماني (ا ر د)، بالتعاون مع معهد «انفراتيست» لاستطلاعات الرأي، دراسة ميدانية حول أهم الموضوعات التي «تحرّك الناخب الألماني» في الحملة الانتخابية الحالية.
ويتضح من الاستطلاع أن موضوع الهجرة واللاجئين والاندماج يحظى بالمرتبة الأولى من اهتمام الناخبين. وقالت نسبة 41 في المائة إن موضوع دمج اللاجئين يهمهم أكثر من أي شيء آخر، وطالبت نسبة 34 في المائة بوقف الهجرة إلى ألمانيا. وتتفق الغالبية مع سياسة الحكومة الحالية المتشددة، التي تتمسك بسياسة ترحيل اللاجئين الذين رُفضت طلبات لجوئهم، وتتشدد في لم شمل عوائل اللاجئين.
وأحصت الدراسة الميدانية دخول 1.3 مليون لاجئ ومهاجر إلى ألمانيا منذ سنة 2015، يشكّل الشباب تحت سن 20 سنة 33 في المائة منهم. وهناك اليوم 490 ألفاً منهم يبحثون عن عمل أو نالوا حق التدريب المهني، مع مشكلة عسيرة تتمثل بوجود 25 في المائة منهم من الأميين الذين لا يعرفون القراءة والكتابة بلغتهم الأم، ويقع على المسؤولين تعليمهم الألمانية وتدريبهم ودمجهم في سوق العمل.
وفي هذا المجال، منح البرنامج نقطة لصالح التحالف المسيحي على حساب بقية الأحزاب، خصوصاً أن الحزب الاشتراكي كان طوال الفترة الماضية شريكاً حكومياً ويتحمل كل النتائج السلبية الناجمة عن سياسة الهجرة في ألمانيا.
أما الموضوع الثاني الذي يهم الناخب الألماني فهو التقاعد والفقر بعد التقاعد وارتفاع الإيجارات، وهي مشكلة اجتماعية قديمة - جديدة. وقالت نسبة 35 في المائة إن تراجع معدلات الرواتب التقاعدية، وتصاعد نسبة المتقاعدين في المجتمع، تقلقهم إلى أبعد حد. وتضطر نسبة 30 في المائة من المتقاعدين إلى عمل إضافي ينقذهم من الفقر عند الشيخوخة.
ودعت نسبة 34 في المائة إلى محاربة الفقر في الشيخوخة وتقليل الفجوة بين الفقراء والأغنياء، فيما رأت نسبة 28 في المائة من الذين شملهم الاستفتاء ضرورة وضع حد لارتفاع الإيجارات المنفلت الذي تفاقم مع دخول أكثر من مليون لاجئ يبحث عن سكن إلى ألمانيا.
وتوقع يوخن بمبرتز، من معهد الدراسات الاقتصادية الألماني، أن ينخفض تقاعد ضعيفي الدخول أكثر مستقبلاً، وأن يتفاقم خطر الفقر في الشيخوخة. وقال إن تقاعد العامل والموظف الصغير في عام 2030 سيكون الراتب التقاعدي نفسه سنة 2017، بحسبان ارتفاع الأسعار والتضخم والضرائب.
وفي هذا المجال، منح بمبرتز نقطة إضافية للحزب الديمقراطي الاشتراكي، لأن الحزب الديمقراطي المسيحي لم يتقدم ببرنامج واضح لمعالجة هذه النقطة، في حين قدّم منافس ميركل الاشتراكي مارتن شولتز برنامجاً متكاملاً يضع فيه تصوراته لحل مشكلة الفقر بين الكهول عند فوزه في الانتخابات.
وفي التعليم، الذي يحتل المرتبة الثالثة من اهتمامات الناخبين الألمان، طالبت نسبة 57 في المائة بفرص متساوية لأبناء الفقراء والأغنياء في التحصيل العلمي العالي. كما طالبت نسبة 26 في المائة بالمساواة في فرص التعليم بين الولايات، وجعل الخطط التعليمية مركزية بدلاً من تركها إلى الحكومات المحلية.
واعترفت الدكتورة يانا تيلتمان، من معهد الدراسات التربوية الاتحادية، بأن فرص أولاد الأغنياء أكبر من فرص أبناء الفقراء والمهاجرين في التعليم العالي. لكنها اعتبرت المعادلة الشائعة «مال أكثر يعني تحصيلاً علمياً أفضل» قضية «نسبية»، مشيرة إلى أن الحافز والرغبة في شق الطريق يلعبان دوراً أيضاً، وليس فقط عامل الفقر والثراء.
وتكشف إحصاءات معهد «انزا» وجود حالة اجتماعية واضحة تكشف أن عائلات الأكاديميين أفضل مالياً من العمّال وغير الدارسين (تعليماً عالياً)، وقادرة على دعم أولادها في طموحهم الدراسي الجامعي، في حين تعجز العائلات الأفقر حالاً عن دعم أولادها في هذا المجال. وإذ يدرس في الجامعة 6 من كل 10 من أبناء عائلات الخريجين من التعليم العالي، لا يحقق ذلك سوى 1.5 من كل 10 من أبناء عائلات غير الخريجين.
ومنحت تيلتمان نقطة تفضيلية إلى الحزب الديمقراطي الاشتراكي الذي ينادي حالياً بالتعليم المجاني ومنح فرص متساوية في التعليم العالي لأبناء الأغنياء والفقراء، وبرفع حصة التعليم من الميزانية العامة. وأشارت الباحثة إلى أن دول الاتحاد الأوروبي تخصص 11.2 في المائة من ميزانيتها كمعدل لدعم التعليم، في حين تخصص الدولة الألمانية منذ عقود معدل 9.5 في المائة من ميزانيتها فقط لدعم التعليم.

اتفاق غير معلن على تجاهل موضوع الإرهاب
والملاحظ في الحملة الانتخابية 2017 تجنّب الحزبين الكبيرين إثارة موضع الإرهاب في الحملة الانتخابية. واتهمت صحيفة «هاندلزبلات» المعروفة الحزبين الحاكمين، وكذلك حزبي الخضر واليسار، بتجنب إثارة موضوع الإرهاب تحت شعار «الديمقراطية أهم من الإرهاب». وذكرت الصحيفة أن هذا التوجّه تعزز بعد العمليات الإرهابية الأخيرة في برشلونة.
وطبيعي أن يتجنب الحزبان الحاكمان موضوع الإرهاب، لأن «الأخطاء» التي ارتكبت في كثير من حالات التعامل مع الإرهابيين يتحملها وزراء داخلية من الحزبين، وخصوصاً وزير الداخلية الاتحادي توماس دي ميزير من الحزب الديمقراطي المسيحي والاشتراكي رالف ييغر وزير داخلية ولاية الراين الشمالي فيستفاليا.
ويمكن لإثارة موضوع الإرهاب أن يعيد إلى أذهان الناخبين ارتباطه بقضية إدخال مليون لاجئ دون كثير من التدقيق إلى الأراضي الألمانية. وبعد أن نفى دي ميزير أكثر من مرة - وأيدته ميركل في ذلك - وجود ترابط بين الإرهاب واللاجئين، اتضح الآن، بحسب ما يقول منتقدون، أن معظم الذين ارتكبوا العمليات الإرهابية في ألمانيا، أو الذين اعتقلوا بتهمة الإرهاب، هم من اللاجئين الذين وفدوا إلى ألمانيا بعد سنة 2015.



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.