مونيك باستيانس... شغف بالطبيعة ونزوع لتجميلها

وجدت ما تبحث عنه في المدن الإسبانية

جدارية «رائحة الشمس»  -  مونيك باستيانس
جدارية «رائحة الشمس» - مونيك باستيانس
TT

مونيك باستيانس... شغف بالطبيعة ونزوع لتجميلها

جدارية «رائحة الشمس»  -  مونيك باستيانس
جدارية «رائحة الشمس» - مونيك باستيانس

بحضور جماهيري كثيف في بلدة «شيفا» التابعة لمدينة فالنسيا الإسبانية تم افتتاح العمل النحتي الكبير الذي يحمل عنوان «رائحة الشمس» للفنانة الإسبانية من أصول هولندية - بلجيكية مونيك باستيانس. وهذه المنحوتة عبارة عن جدارية ضخمة تضم في متنها «الريليفيّ» البارز بصمات راحات الأيدي لأربعة آلاف مواطن شيفاوي من الطفل الرضيع الذي يتراوح عمره أسبوعين حتى الشيخ الطاعن في السن الذي يبلغ عمره تسعين عاماً. الفكرة الرئيسة لهذا العمل الفني هي تآزر مواطني هذه البلدة، وتناغمهم، وتكافلهم الدائم مهما اختلفت الأصول، وتنوعت المشارب، وتعددت المرجعيات. فالحُب شعارهم، والصداقة مذهبهم، والعيش المُشترك هو هاجسهم الأول والأخير. نفّذت باستيانس بصمات الأيدي التي هي عبارة عن كُرات طينية مضغوطة قليلاً بالأصابع على راحة اليد ومفخورة بالنار ومثبتة بمادة لاصقة على سطح الجدارية التي أخذت شكل الزورق العائم على ماء البِركة، أو شكل الطائر الذي يحاول الهبوط على سطح الماء.
لم يكن هذا العمل النحتي القائم على البصمات هو الأول من نوعه فقد سبق لباستيانس في عام 2015 أن أنجزت ثلاثة أعمال كروية لبصمات الأصابع لأربعة آلاف طالب من طلبة كلية آركوس في مدينة هيرلين الهولندية.
ولكي نتعمّق بثيمات وتقنيات هذه الفنانة الدؤوبة التي يقترن اسمها دائماً بالحداثة والابتكار لا بد أن نتوقف عند المحاور الفنية الأربعة التي انغمست فيها منذ دراستها في أواسط السبعينات بقسم النحت في أكاديمية الفنون البصرية بأوتريخت، وهذه المحاور هي: المداخلات الفنية في جسد الطبيعة والحياة Interventions، والأعمال التركيبية Installations، والأعمال النحتية Sculptures، والرسوم Drawings وسوف نركِّز على المحور الأول آملين أن نتناول المحاور الباقية في دراسة لاحقة.
بدأت باستيانس حياتها الفنية بالنحت، حقل تخصصها الرئيسي، لكنها اكتشفت أن عملية النحت تستغرق وقتاً طويلاً لذلك التجأت إلى الرسم كي تعمل بعفوية وتلقائية كلما عنَّ لها أن تنهمك في عمل فني يلبّي رغباتها الآنية السريعة، ومع ذلك فقد أنجزت منحوتات برونزية لأشكال بشرية حوّلتها شيئا فشيئاً إلى طيور، أو إلى كائنات مهجّنة تجمع بين شكل الطير وشكل الإنسان في آنٍ معا. والغريب أنها أنجزت قبل رحلتها إلى إسبانيا منحوتات مُحلِّقة في الفضاء وكأنها كانت تدرك في دخيلتها بأنها سوف تغادر هولندا وستجد ضالتها في المدن الإسبانية التي تحتضن حضارات وثقافات وأديان مختلفة تعايشت على مرّ العصور، وتنافرت في بعض الأوقات العصيبة العابرة.
وبما أن مشاريعها في المحاور الأربعة كثيرة ومتنوعة فسوف نقتصر على تناول البعض منها الذي يحيط القارئ علماً بموضوعاتها وأساليبها ومقارباتها الفنية. لعل أبرز الثيمات التي تشتغل عليها الفنانة باستيانس هي الطبيعة، والإنسان، والمجتمع، والتجليات الروحية في مختلف الديانات السماوية والأرضية، هذا إضافة إلى توظيف بعض الجوانب الفلسفية، والتعاطي مع الأمثال التي وجدت طريقها إلى نماذج محددة من أعمالها الفنية. تبدو الطبيعة هي المكان المفضّل لأعمالها الفنية التي تتدخل في الطبيعة براً وبحراً وفضاءً وغالباً ما تضيف إليها عناصر جمالية مثل المظلات، والنيونات، واللالئ الكبيرة البيضاء التي تُحدث تغييراً جذرياً في المكان الجغرافي الذي تشتغل عليه كما في تحفها الفنية المُبهرة «الطحالب الزرقاء»، أو سلسلة أعمال «كل الطرق تؤدي إلى روما»، أو «قناديل البحر» التي زينّت شاطئ المتوسط وغيّرت إيقاعه اللوني المعتاد. وحينما يقف المتلقي أمام أعمالها الفنية عليه أن يستنفر أربعاً من حواسه في الأقل وهي البصر والسمع والشمّ واللمس ولعله يحتاج الحاسة السادسة لسبر أغوار بعض الأشياء المخبأَة وراء الأشكال والتكوينات العصيّة على التفسير.
لا تكتفي باستيانس بما هو موجود في الطبيعة، فالهوّة العميقة بين جبلين صخريين تُجسِّرها بخطوط مستقيمة أو مائلة من اللآلئ البيضاء، والغابات الكثيفة الأشجار تزيّنها بمظلات وردية تتدلى من أعمدة معدنية منحنية، أما الجسور والقناطر القديمة فتطليها بألوان صارخة تعيد إليها الحياة من جديد. وإذا تعذرت عليها الأشكال والتكوينات الجميلة فإنها تستخرج البُصيلات والدَرَنات من أعماق الأرض ثم تصوغها بأحجام كبيرة وتثبتها في الأماكن الفارغة في قلب الطبيعة.
لا بد من الوقوف عند مشروعها القديم بعض الشيء لأنه علامة فارقة في حياتها الفنية إذ حوّلت 270 شجرة برتقال ميتة، قيل إنها فارقت الحياة بسبب الحزن، إلى بستان من الألوان المبهجة على رأسها اللون الأحمر والوردي والأبيض الشفاف.
أشرنا إلى اهتمامها بالديانات السماوية الثلاث وربما تكون «يد فاطمة» نسبه إلى فاطمة الزهراء، هي واحدة من تجليات اهتمامها بالديانة الإسلامية التي ترسخت خلال ثمانية قرون في هذا البلد. فصورة هذه اليد تعتبر تعويذة لتفادي الحسد والسحر، وتميمة لدرء الأخطار والبلايا. وقد نفّذت الفنانة سبعة تكوينات من كُرات زرقاء مليئة بالهليوم مثبتة فوق أعمدة معدنية بطول 17م. وفي السياق ذاته فإن باستيانس تهتم بالديانات الأخرى مثل الديانة الشنتوية اليابانية لأن هذه الأخيرة تمجِّد الطبيعة وتحث على الاهتمام بها. وربما يكون مشروع «أعواد الثقاب» هو إشارة تحذيرية لكل الناس لحماية غاباتهم من الحرائق المدمرة التي تفتك بمساحات شاسعة من المناطق المُشجرة التي يبعث منظرها الكارثي على الحزن والأسى العميقين. فإلى جانب كل شجرة محترقة غرزت باستيانس أعواد ثقاب كبيرة الحجم بطول 4 م تحذيراً من حرائق مُقبلة.
ما يميّز الأعمال التركيبية عن سابقتها هو المكان، فالأولى كانت في قلب الطبيعة، بينما تأخذ الأعمال التركيبية Installations مكانها في المتاحف، والجامعات، والمباني التاريخية، والساحات العامة وبقية المناطق المأهولة بالسُكّان في المدينة. ولا بد من الأخذ بعين الاعتبار أن بعض هذه الأعمال التركيبية الضخمة يحتاج إلى رافعات وشاحنات والعمل المضني لحدّادين ولحّامين وتقنيين في الضوء والصوت وما إلى ذلك وبإشراف مباشر من باستيانس التي توقّع العمل باسمها في نهاية الأمر بعد أن تضع عليه اللمسات الأخيرة. يحتل محور النحت مساحة كبيرة من تجربة الفنانة باستيانس، فهو شغفها الأول، واختصاصها الدقيق، وقد أنجزت حتى الآن 48 مشروعاً، بمعدل عشرة أعمال أو أكثر لكل مشروع ويكفي أن نشير هنا إلى بعض هذه المشروعات مثل «حذاء السندريلا»، و«فالانتاين» و«للحيطان آذان» وهي في مجملها أفكار جديدة لم تُطرَق من قبل. وعلى الرغم من ارتباط الأعمال النحتيّة بالحواضر والمدن فإن عشق الفنانة للفضاءات المفتوحة هو الذي دفعها لأن تنجز منحوتة «فالانتاين» في قلب الطبيعة مستعينة بعدد من العمال الذين شيدوا هذا الصرح الجميل في منطقة زراعية هادئة مُحتفية بعزلتها وبإيقاعها الداخلي الخاص.
يبدو أن محور الرسم هو أقل المحاور الأربعة من حيث الكم، فقد أنجزت حتى الآن عشرة مشاريع وهي في مجملها تكرار لبعض مشاريع المحاور الثلاثة التي أشرنا إليها سلفاً، ولعلها نماذج أولية مصغرة لتماثيلها، ومداخلاتها الفنية، وأعمالها التركيبية الكبيرة.
نخلص إلى القول بأن باستيانس هي نبع من الأفكار المتدفقة التي لا تنضب، وأن أسلوبها الفني يعود إليها فقط ويصعب أن تجد مصادره عند فنانين آخرين رغم أنها كانت تنتمي في بداياتها الفنية إلى جماعة الـFluxus التي وصفها الناقد الفني الهولندي هاري روهي بأنها «الحركة الفنية الأكثر تطرفاً وتجريبية في الستينات».



«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
TT

«الجمل عبر العصور»... يجيب بلوحاته عن كل التساؤلات

جانب من المعرض (الشرق الأوسط)
جانب من المعرض (الشرق الأوسط)

يجيب معرض «الجمل عبر العصور»، الذي تستضيفه مدينة جدة غرب السعودية، عن كل التساؤلات لفهم هذا المخلوق وعلاقته الوطيدة بقاطني الجزيرة العربية في كل مفاصل الحياة منذ القدم، وكيف شكّل ثقافتهم في الإقامة والتّرحال، بل تجاوز ذلك في القيمة، فتساوى مع الماء في الوجود والحياة.

الأمير فيصل بن عبد الله والأمير سعود بن جلوي خلال افتتاح المعرض (الشرق الأوسط)

ويخبر المعرض، الذي يُنظَّم في «مركز الملك عبد العزيز الثقافي»، عبر مائة لوحة وصورة، ونقوش اكتُشفت في جبال السعودية وعلى الصخور، عن مراحل الجمل وتآلفه مع سكان الجزيرة الذين اعتمدوا عليه في جميع أعمالهم. كما يُخبر عن قيمته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية لدى أولئك الذين يمتلكون أعداداً كبيرة منه سابقاً وحاضراً. وهذا الامتلاك لا يقف عند حدود المفاخرة؛ بل يُلامس حدود العشق والعلاقة الوطيدة بين المالك وإبله.

الجمل كان حاضراً في كل تفاصيل حياة سكان الجزيرة (الشرق الأوسط)

وتكشف جولة داخل المعرض، الذي انطلق الثلاثاء تحت رعاية الأمير خالد الفيصل مستشار خادم الحرمين الشريفين أمير منطقة مكة المكرمة؛ وافتتحه نيابة عنه الأمير سعود بن عبد الله بن جلوي، محافظ جدة؛ بحضور الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد بن عبد العزيز، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»؛ وأمين محافظة جدة صالح التركي، عن تناغم المعروض من اللوحات والمجسّمات، وتقاطع الفنون الثلاثة: الرسم بمساراته، والتصوير الفوتوغرافي والأفلام، والمجسمات، لتصبح النُّسخة الثالثة من معرض «الجمل عبر العصور» مصدراً يُعتمد عليه لفهم تاريخ الجمل وارتباطه بالإنسان في الجزيرة العربية.

لوحة فنية متكاملة تحكي في جزئياتها عن الجمل وأهميته (الشرق الأوسط)

وفي لحظة، وأنت تتجوّل في ممرات المعرض، تعود بك عجلة الزمن إلى ما قبل ميلاد النبي عيسى عليه السلام، لتُشاهد صورة لعملة معدنية للملك الحارث الرابع؛ تاسع ملوك مملكة الأنباط في جنوب بلاد الشام، راكعاً أمام الجمل، مما يرمز إلى ارتباطه بالتجارة، وهي شهادة على الرّخاء الاقتصادي في تلك الحقبة. تُكمل جولتك فتقع عيناك على ختمِ العقيق المصنوع في العهد الساساني مع الجمل خلال القرنين الثالث والسابع.

ومن المفارقات الجميلة أن المعرض يقام بمنطقة «أبرق الرغامة» شرق مدينة جدة، التي كانت ممراً تاريخياً لطريق القوافل المتّجهة من جدة إلى مكة المكرمة. وزادت شهرة الموقع ومخزونه التاريخي بعد أن عسكر على أرضه الملك عبد العزيز - رحمه الله - مع رجاله للدخول إلى جدة في شهر جمادى الآخرة - ديسمبر (كانون الأول) من عام 1952، مما يُضيف للمعرض بُعداً تاريخياً آخر.

عملة معدنية تعود إلى عهد الملك الحارث الرابع راكعاً أمام الجمل (الشرق الأوسط)

وفي حديث لـ«الشرق الأوسط»، قال الأمير فيصل بن عبد الله، رئيس مجلس أمناء شركة «ليان الثقافية»: «للشركة رسالة تتمثّل في توصيل الثقافة والأصالة والتاريخ، التي يجهلها كثيرون، ويشكّل الجمل جزءاً من هذا التاريخ، و(ليان) لديها مشروعات أخرى تنبع جميعها من الأصالة وربط الأصل بالعصر»، لافتاً إلى أن هناك فيلماً وثائقياً يتحدّث عن أهداف الشركة.

ولم يستبعد الأمير فيصل أن يسافر المعرض إلى مدن عالمية عدّة لتوصيل الرسالة، كما لم يستبعد مشاركة مزيد من الفنانين، موضحاً أن المعرض مفتوح للمشاركات من جميع الفنانين المحليين والدوليين، مشدّداً على أن «ليان» تبني لمفهوم واسع وشامل.

نقوش تدلّ على أهمية الجمل منذ القدم (الشرق الأوسط)

وفي السياق، تحدّث محمد آل صبيح، مدير «جمعية الثقافة والفنون» في جدة، لـ«الشرق الأوسط» عن أهمية المعرض قائلاً: «له وقعٌ خاصٌ لدى السعوديين؛ لأهميته التاريخية في الرمز والتّراث»، موضحاً أن المعرض تنظّمه شركة «ليان الثقافية» بالشراكة مع «جمعية الثقافة والفنون» و«أمانة جدة»، ويحتوي أكثر من مائة عملٍ فنيّ بمقاييس عالمية، ويتنوع بمشاركة فنانين من داخل المملكة وخارجها.

وأضاف آل صبيح: «يُعلَن خلال المعرض عن نتائج (جائزة ضياء عزيز ضياء)، وهذا مما يميّزه» وتابع أن «هذه الجائزة أقيمت بمناسبة (عام الإبل)، وشارك فيها نحو 400 عمل فني، ورُشّح خلالها 38 عملاً للفوز بالجوائز، وتبلغ قيمتها مائة ألف ريالٍ؛ منها 50 ألفاً لصاحب المركز الأول».

الختم الساساني مع الجمل من القرنين الثالث والسابع (الشرق الأوسط)

وبالعودة إلى تاريخ الجمل، فهو محفور في ثقافة العرب وإرثهم، ولطالما تغنّوا به شعراً ونثراً، بل تجاوز الجمل ذلك ليكون مصدراً للحكمة والأمثال لديهم؛ ومنها: «لا ناقة لي في الأمر ولا جمل»، وهو دلالة على أن قائله لا يرغب في الدخول بموضوع لا يهمّه. كما قالت العرب: «جاءوا على بكرة أبيهم» وهو مثل يضربه العرب للدلالة على مجيء القوم مجتمعين؛ لأن البِكرة، كما يُقال، معناها الفتيّة من إناث الإبل. كذلك: «ما هكذا تُورَد الإبل» ويُضرب هذا المثل لمن يُقوم بمهمة دون حذق أو إتقان.

زائرة تتأمل لوحات تحكي تاريخ الجمل (الشرق الأوسط)

وذُكرت الإبل والجمال في «القرآن الكريم» أكثر من مرة لتوضيح أهميتها وقيمتها، كما في قوله: «أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ» (سورة الغاشية - 17). وكذلك: «وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ» (سورة النحل - 6)... وجميع الآيات تُدلّل على عظمة الخالق، وكيف لهذا المخلوق القدرة على توفير جميع احتياجات الإنسان من طعام وماء، والتنقل لمسافات طويلة، وتحت أصعب الظروف.