العلاج بتحرير الشهوات أم بضبطها؟

الباحث المغربي طه عبد الرحمن يهاجم فرويد

طه عبد الرحمن
طه عبد الرحمن
TT

العلاج بتحرير الشهوات أم بضبطها؟

طه عبد الرحمن
طه عبد الرحمن

معروفة هي تلك الهجمات التي تلقاها «التحليل النفسي» وذلك منذ نشأته بزعامة فرويد، ويبقى أهم نقد له هو ذلك الذي كان من طرف الإبستمولوجي الشهير «كارل بوبر» الذي أخرج التحليل النفسي من دائرة العلمية لأنه بحسبه نظرية غير قابلة للتكذيب وتدعي أنها تجيب على كل المآزق، لهذا فهي من «أشباه العلم» أو لنقل إنها علم مزيف مثلها مثل التنجيم. لكن سيظهر في الآونة الأخيرة نقد آخر، وهذه المرة من داخل ثقافتنا والتي قام بها المفكر طه عبد الرحمن حيث خصص حيزا مهما من كتابه الأخير «شرود ما بعد الدهرانية» لتوجيه سهام النقد للمحلل النفسي فرويد، كما أنه أعاد الأمر مرة أخرى وفي إشارات كثيرة في عمله الكبير الذي جاء في ثلاثة مجلدات وبعنوان: «دين الحياء»، إذ يكفي للقارئ المنشغل والمتسرع أن يعود فقط إلى خاتمة هذا المشروع في الجزء الثالث من هذا الكتاب في الصفحات(168. 169. 170) ليطلع ولو بشكل خاطف على أهم الانتقادات للتحليل النفسي والتي نبرزها هنا كالآتي:
نحن نعلم أن طه عبد الرحمن لا يهادن مع من يفصل الدين عن قطاعات الحياة، فالذي يقوم بذلك ينعته «بالدهراني المارق» وهو ألف كتابا ليرد على الذين أبعدوا الدين عن الأخلاق بعنوان «بؤس الدهرانية» وهم: روسو وكانط ودوركايم ولوك فيري. أما الذي يبعد الدين جملة وتفصيلا فينعته بـ«ما بعد الدهراني» أو بـ«الشارد» ونذكر هنا: نيتشه وباتاي وفرويد ولاكان. أما الماركيز دوساد فقد وسمه باسم مخصوص وهو: «المارد». فطه عبد الرحمن يقول بأن من أشد الأمور «إيلاما له» ومن «أبغض الأشياء إليه» رؤيته للبعض وهو يمحو الدين من الحياة.
فلنقف إذن عند نقده لواحد من هؤلاء وهو سيجموند فرويد:
يؤكد فرويد على أن الإنسان وعبر مسيرته التاريخية، قد تأذت نفسه كثيرا جراء الكبت المفرط لشهواته، هذا الكبت الذي مارسته الأوامر الأخلاقية المانعة للجموح الطبيعي للجسد، وهو ما أحدث تشويهات في الطبيعة الإنسانية فظهرت الأمراض النفسية والأسقام الباطنية بصنوفها المتعددة، ولا علاج عند المحللين النفسيين إلا برفع الكبت عن هذه الشهوات وتحرير الجسد من قيود الآلاف السنين. هنا بالضبط يتدخل طه عبد الرحمن ليبين أنه قد قام بمقايسة بين العلاج بالتحليل النفسي والعلاج بالتربية الخلقية رغم ما بينهما من تضاد، فالأولى تعالج بإطلاق الشهوات والثانية تعالج بضبط الشهوات. وبعد طول تفكر في هذه المقايسة تأكد له بأن أهل التحليل يداوون الأمراض النفسية بأمراض أخلاقية شر منها.
وهنا نشير إلى أن الأخلاق عند طه عبد الرحمن التي يعول عليها كعلاج للأعطاب النفسية مرتبطة «بالشاهدية الإلهية» فالإنسان المتعلق بربه والرابط بينه وبين خالقه والمستحضر له كآمر والمتوسل إليه، ليس فقط كسامع، ولكن كشاهد، بحيث يكون هذا التوسل ليس فقط في الحاجات بل حتى في الكمالات... لهو إنسان يحصل بهذه الطريقة على تربية خلقية تزرع الرحمة في جوفه. ومن آثار الرحمة وجود الشفاء، وهو شفاء روحي يمليه القرب من الرب، بينما الذي لا يتعلق بالنظر الإلهي فهو لا يزداد إلا مرضا حتى ولو أشبع كل شهواته، بل هذا الإشباع علامة على تفاقم وتضاعف مرضه، ناهيك على أن التعلق بالنظر الإلهي يورث المرء الحياء ويحس أنه يقهر الشهوة بعيون أكبر منه، فعوضا عن المراقبة الخاصة التي ستتعب المريض، فإنه يترك الرقابة إلى سلطة أكبر منه.
نفهم من أطروحة طه عبد الرحمن ذات النزوع الصوفي، صرخة ضد انغماس الإنسان المعاصر فيما يسميه العالم الملكي أو العالم الأفقي والمرئي أي عالم الوسائل والمادة، ناسيا وغافلا عن العالم الذي يسميه بالعالم الملكوتي أو العالم العمودي، أي عالم الغايات والمقاصد أو لنقل عالم الغيب والروح، هذا العالم الذي يتجاوز النفس، فهو أول طبقة في جوف الإنسان إلى درجة يمكن الحديث مع طه عبد الرحمن عن «لاشعور روحي»، تم إقصاؤه في الزمن الحديث، وهو ما أحدث ضررا هائلا سواء في سحق الطبيعة باستباحتها والانغماس في التعامل مع ظواهرها فقط مجردة عن آياتها، أو سحق الإنسان برده فقط إلى جوانبه الجسدية، ليصبح مجرد كتلة غرائز حيوانية واجبة التحقيق مهملة عالم الروح فيه وهو أثمن ما يقدم للمرء المعنى وما أدراك ما المعنى!.
إن طرد الروح (المقاصد والغايات) من كل المقاربات المنتمية إلى العلوم الحقة أو الفلسفة أو العلوم الإنسانية بدعوى أنها مجرد أوهام وخرافات غير نافعة، لهو أمر قد ضيق من أفق الإنسان، وجعله يعالج سطحا لا عمقا، فالتركيز على القشور الظاهرة في الإنسان لأنها تخضع لمعايير العلمية وإهمال العمق الروحي الأصيل والمتجذر فيه، قد ضيع بحق، على البشرية خلاصها. بكلمة واحدة وبعبارات طه عبد الرحمن نقول إنه لا إنقاذ للبشرية من همومها ومن مآسيها، إلا باللجوء إلى المقاربة المعراجية (العالم الروحي) بدل الاكتفاء بالمقاربة الإسرائية (العالم المرئي). وهذه صوفية لا ينكرها طه عبد الرحمن أبدا بل يعتز أنه قد تتلمذ على أحد شيوخ الطريقة القادرية وهو: حمزة بن العباس.


مقالات ذات صلة

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

كتب الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة

رشا أحمد (القاهرة)
كتب «عورة في الجوار»... رواية  جديدة لأمير تاجّ السِّر

«عورة في الجوار»... رواية جديدة لأمير تاجّ السِّر

بالرغم من أن الرواية الجديدة للكاتب السوداني أمير تاج السر تحمل على غلافها صورة «كلب» أنيق، فإنه لا شيء في عالم الرواية عن الكلب أو عن الحيوانات عموماً.

«الشرق الأوسط» (الدمام)
كتب «البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

«البؤس الأنثوي» بوصفه صورة من «غبار التاريخ»

في كتابه الأحدث «البؤس الأنثوي... دور الجنس في الهيمنة على المرأة»، يشير الباحث فالح مهدي إلى أن بغيته الأساسية في مباحث الكتاب لم تكن الدفاع المباشر عن المرأة

محمد خضير سلطان
خاص الكاتب الغزي محمود عساف الذي اضطر إلى بيع مكتبته لأحد الأفران (حسابه على «فيسبوك»)

خاص غزة تحرق الكتب للخبز والدفء

يعاني سكان قطاع غزة، خصوصاً في شماله، من انعدام تام لغاز الطهي، الذي يُسمح لكميات محدودة منه فقط بدخول مناطق جنوب القطاع.

«الشرق الأوسط» (غزة)
ثقافة وفنون الشيخ ثاني بن حمد الممثل الشخصي لأمير قطر خلال تكريم الفائزين بالجائزة (الشرق الأوسط)

«جائزة الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» تتوّج الفائزين بدورتها العاشرة

كرّمت «جائزةُ الشيخ حمد للترجمة والتفاهم الدولي» في قطر الفائزين بدورتها العاشرة خلال حفل كبير حضره الشيخ ثاني بن حمد وشخصيات بارزة ودبلوماسية وعلمية.

ميرزا الخويلدي (الدوحة)

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
TT

«حياتي كما عشتها»... محمود ياسين يروي ذكرياته مع الأدباء

الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)
الفنان المصري الراحل محمود ياسين (فيسبوك)

في كتاب «حياتي كما عشتها» الصادر عن دار «بيت الحكمة» بالقاهرة، يروي الفنان المصري محمود ياسين قبل رحيله طرفاً من مذكراته وتجربته في الفن والحياة من خلال حديث مطول أدلى به لمحرر المذكرات ومؤلف الكتاب الصحافي سيد محمود سلام. ورغم أن حديث الذكريات هنا يشمل محطات مختلفة، فإن الكتاب يركز بشكل خاص على مرحلة النشأة والطفولة وما اكتنفها من اكتشاف الفنان في سنوات التكوين الأولى لعالم الأدب وخصوصية مدينته بورسعيد، مسقط رأسه.

ويشير محمود ياسين إلى أن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر، وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها. ويرى أنه كان طفلاً محظوظاً لأنه نشأ في أسرة تعد الثقافة جزءاً مهماً من تكوين أبنائها، وكان ترتيبه السادس بين أشقائه العشرة، وقد تأثر في طفولته بشقيقه الأكبر فاروق: «إذ فتح عيني على شيء اسمه الكتاب بمعناه الواسع. كان يتسلم الكتب ويذهب إلى المدرسة، لكن فاروق كانت له في البيت مكتبة خاصة عبارة عن خزانة كبيرة في الحائط صُممت على الطراز الفرنسي تضع فيها الوالدة الفخار وقطع الخزف الصيني وكؤوس الزجاج وأشياءها الخاصة، فصنع منها مكتبة بعرض الحائط بعد أن أقنعها بذلك حيث كانوا يقطنون في فيلا من دورين تابعة لشركة قناة السويس التي كان يعمل بها والده، وعاشوا فيها ما يزيد على 25 عاماً».

ظل فاروق يشتري الكتب باستمرار مثل سلسلة «اقرأ» التي كانت تصدر ملخصات لعيون الأدب العربي والعالمي والسير الذاتية مثل السيرة الذاتية لطه حسين ودوستويفسكي ومكسيم غوركي وأنطون تشيخوف، فضلاً عن عيون الأدب الفرنسي مثل مؤلفات غي دي موباسان. كانت السلسلة تصدر كتيبات لكل كتّاب ومفكّري العالم، فالتراث الإنساني كله أنتجته سلسلة «اقرأ»، وقد جمعه فاروق في مكتبته وأيضاً سلسلة أخرى بعنوان «كتابي» جمعها أيضاً في المكتبة.

قرأ محمود ياسين في صغره معظم دواوين الشعراء العرب وعبقريات العقاد في مكتبة شقيقه، فضلاً عن كتب سلسلة «الكتاب الذهبي» التي تعرّف فيها على محمد عبد الحليم عبد الله ونجيب محفوظ ويوسف إدريس ويوسف السباعي. كما كان الشقيق الأكبر فاروق شغوفاً باقتناء الكتب والمطبوعات الثقافية مثل مجلة «الهلال» حتى إنه يشتري الكتب بمصروفه الشخصي المحدود. ولم يكن الطفل محمود يشغل نفسه بشراء الكتب، لكن يده بدأت تمتد إلى مكتبة شقيقه، فغضب بشدة من استعارته كتبه؛ وذلك خوفاً من ألا تلقى الاحترام ذاته الذي تلقاه عنده تلك المكتبة التي كوّنها واشتراها من مصروفه. لكن عندما اطمأن لشقيقه، بدأ يشجعه مع بعض النصائح خوفاً على هذه الكتب. وبدأ الشقيق الأصغر في متابعة المسرحيات المترجمة بشكل خاص، لا سيما أعمال وليام شكسبير وهو ما أثار دهشة وإعجاب فاروق حين رأى شقيقه لا يفوّت نصاً للكاتب العالمي، سواء في سلسلة «كتابي» أو نظيرتها «اقرأ».

ويشير محمود ياسين إلى أن أبناء بورسعيد يتشابهون في ملامحهم وتكوينهم؛ لأن هذه المدينة تترك بصماتها على أبنائها، فهي بلد مفتوح على الدنيا ويُطل على أوروبا، فهناك شاطئ بحر وفي الأفق عالم آخر يجب أن تحلم به. إنها مدينة وسط جزر من المياه، فتأثر بهذه الخصوصية الجغرافية وما أكسبته لسكانها من حس حضاري لافت.

يقول محمود ياسين في مذكراته إن الطفولة مفتاح كل بوابات العمر وقد عاش طفولته في أسرة محافظة مثقفة محبة للفن ولتراب الوطن حيث أثرت كثرة الحروب التي خاضتها المدينة على تعميق الحس الوطني لأبنائها.

امتزجت شخصية محمود ياسين بالبحر المتوسط الذي تطل عليه مدينته، فهو مثله تراه شديد الهدوء تارة، شديد الصخب تارة أخرى. يقول: «إن أخلاقي كأخلاق البحر وطبيعتي تشبهه، فأنا في شهري سبتمبر وأكتوبر أكون هادئاً هدوءاً غريباً وعندما تنظر إليّ تشاهد ما في أعماقي، وإذا تحدثت إليّ يمكنك أن تكتشف كل شيء. أما الشخص الصاخب العصبي فهو أيضاً أنا ولكن في شهر يناير، وكذلك البحر بـ(نواته) وأمواجه المتلاطمة. لا أحب شهر يناير، قد يكون لأنه بداية عام لا أعلم ما يخبئه، وحين راقبت نفسي وجدت أنني في مواسم أكون هادئاً وأخرى أكون صاخباً وهذا هو حال البحر».

كانت حياة الصبي محمود ياسين قبل التمثيل غير مستقرة، كأنه يبحث عن شيء يسعده. كان يراقب شقيقه فاروق، الممثل العظيم بقصور الثقافة، وتعلم منه كيف يحب الريحاني. يشاهده فيشعر بأنه يمتلك عالم التمثيل بين عينيه، نظراته، تأمله، صوته حتى وهو يغني بصوتٍ أجش تستسيغ غناءه من هذه الحالة التي لاحظها وتأثر بها. أحبَّ التمثيل وشعر بأنه الشيء الذي يبحث عنه، إنه عالمه المفقود، به ستكتمل حياته.

اللافت أن التمثيل منذ البدايات الأولى بالنسبة لمحمود ياسين «حالة»، إنه بمثابة «عفريت» يتجسد في الشخص المحب له، فكان يسعد بالمشاهد التي يمثلها في نادٍ يسمى «نادي المريخ» ببورسعيد وهو طفل. وكوّن هو وزملاؤه فرقة مسرحية، مع عباس أحمد الذي عُرف بأشهر مخرجي الثقافة الجماهيرية، وله باع طويل وأثر في حياته كصديق ورفيق رحلة كفاح، هو والسيد طليب، وكانا أقرب صديقين له، سواء على مستوى هواية التمثيل أو الحياة.

ويروي كيف كان يقدم مسرحية على خشبة مسرح صنعوه بأنفسهم من مناضد وكراسي متراصة، وفي قاعة تسع 100 شخص، فلمح والده، وكانت المرة الأولى التي يمثل فيها ويشاهده أبوه، وإذا به يبتسم له ابتسامة هادئة، اعتبرها أول تصريح رسمي منه بموافقته على دخوله هذا المجال. ويذكر أيضاً أن من بين العمال الذين تأثر بهم محمود عزمي، مهندس الديكور العبقري، الذي لم يحصل على أي شهادات دراسية ولم يلتحق بالتعليم، لكنه كان يهوى الرسم ويصمّم ديكورات أي نصوص سواء عربية أو عالمية ببراعة مدهشة.