رموز الحرب الأهلية الأميركية... إرث تاريخي أم تمييز عرقي؟

اصطفاف ترمب مع المدافعين عنها وموقفه من أحداث شارلوتسفيل يغضبان المشرعين

رموز الحرب الأهلية الأميركية... إرث تاريخي أم تمييز عرقي؟
TT

رموز الحرب الأهلية الأميركية... إرث تاريخي أم تمييز عرقي؟

رموز الحرب الأهلية الأميركية... إرث تاريخي أم تمييز عرقي؟

«اليهود لن يعوضونا»، «حياة البيض تهم أكثر»، «نظفوا شوارعنا من السود»، كلها شعارات رددها مئات الرجال البيض، بعضهم بلباس عسكري، وبعضهم الآخر مسلح بدروع ورشاشات وأعلام نازية. كلا، لم يكن ذلك مشهداً مقتبساً من وثائقي حول الحرب الأهلية الأميركية، أو حركة الحقوق المدنية في خمسينات وستينات القرن الماضي، بل هي أحداث شهدتها مدينة شارلوتسفيل بولاية فرجينيا قبل أيام قليلة.
تصدّر النقاش حول عودة العنصرية البيضاء ورموز الحرب الأهلية الأخبار المحلية والنشرات العالمية. وهز مقتل شابة أميركية فيما وصفت بمظاهرات عنصرية تسعى إلى تكريس تفوّق العرق الأبيض، العالم الغربي. وعلى غير العادة، اكتسبت أحداث عنف عنصري في مدينة صغيرة بولاية فرجينيا أبعاداً عالمية، بعد أن أعطتها تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب صبغة دولية، وتسببت في إعادة شبح الحرب الأهلية إلى الساحة السياسية، وخلق أزمة هوية داخل اليمين الأميركي.

بدأ التحضير لاحتجاجات شارلوتسفيل قبل أسابيع، عندما قررت حركة «وحدوا اليمين» حشد جماهيرها في ولاية فرجينيا وخارجها، للتظاهر ضد قرار شارلوتسفيل إزالة تمثال «روبرت إي. لي»، الجنرال الذي قاد القوات الكونفدرالية في الحرب الأهلية الأميركية بين 1861 و1865. وفي 11 و12 الماضيين، استجاب مئات المنتمين إلى حركة اليمين البديل «ألت رايت» لدعوة الاحتجاج، وتدفقوا على شارلوتسفيل مسلحين بهراوات وأسلحة نارية، ورافعين أعلاماً وشعارات نازية. وانضم إليهم منتمون إلى حركة النازيين الجدد، وأفراد من جماعة «كو كلوكس كلان»، المؤمنين بتفوق الجنس الأبيض والمعادين للسامية، بهدف إجهاض قرار إزالة تمثال لي.
وسرعان ما اندلعت اشتباكات عنيفة بين أنصار نظرية تفوق العرق الأبيض من جهة، ومحتجين مناهضين للعنصرية نظموا مسيرات مضادة. وأسفرت المواجهات عن مقتل هيذر هيير الثلاثينية المناهضة للعنصرية، وإصابة عشرين آخرين، بعد أن دهس شاب من النازيين الجدد لم يتجاوز العشرين من عمره، مجموعة من المشاركين في المظاهرة المضادة بسيارته.
تعود قضية إزالة رموز الكونفدرالية والعبودية إلى الواجهة في الولايات المتحدة، بعد كل حادث عنف أو تمييز عرقي، ويعود معها الجدل حول ما إذا كانت التماثيل والأعلام وأسماء جنرالات كونفدراليين التي أطلقت على مدارس وشوارع، جزءاً من التاريخ ينبغي الحفاظ عليه، أو رموز اضطهاد واستعباد يجب إسقاطها وتحويلها إلى عبر تاريخية.
وفي عام 1861، أعلنت سبع ولايات جنوبية، هي كارولاينا الجنوبية، وميسيسيبي، وفلوريدا، وألاباما، وجورجيا، ولويزيانا، وتكساس، انفصالها عن الاتحاد بعد انتخاب الجمهوري أبراهام لينكولن رئيساً للولايات المتحدة، والتزامه بوقف العبودية. وشكلت هذه الولايات التي انضمت إليها في وقت لاحق فرجينيا، وأركنسو، وتينيسي، وكارولاينا الشمالية، حكومة كونفدرالية. واندلعت حرب أهلية بين الجانبين، انتهت باستسلام الكونفدرالية في 1865 وحظر العبودية.
يعتبر كثير من سكان جنوب الولايات المتحدة البيض، أن رموز الكونفدرالية الـ1500 جزء من تاريخ تمردهم على الاتحاد الداعم لحظر العبودية، وأنها تذكر بمكانة الرجل الأميركي الأبيض وإرثه السياسي والاجتماعي؛ لكن كثيرين منهم يتجاهل أنها ترمز كذلك إلى هزيمة الولايات الجنوبية عام 1865 بعد أربع سنوات من الحرب الأهلية، أدت إلى سقوط أكثر من 600 ألف قتيل ودمار مدن بأكملها، كما كان الحال في أتلانتا.
يرى إدوارد أيرز، المحاضر في جامعة «ريتشموند»، في تصريحات لصحيفة «الفايننشيال تايمز»، أن هناك ثلاث حجج يعتمد عليها المدافعون عن التماثيل، هي أن إزالتها تشوه سمعة أجدادهم الكونفدراليين، أو أنها تتسبب في خلافات بين مختلف مكونات المجتمع، أو أنها تؤدي إلى صرف مبالغ من أموال عامة.
وانضم إلى المدافعين عن الحفاظ على تماثيل روبرت لي وأمثاله، رئيس الولايات المتحدة دونالد ترمب، بدافع رابع هو الحفاظ على التاريخ. وكتب ترمب في تغريدة على حسابه بـ«تويتر» أول من أمس، أن تاريخ وحضارة الولايات المتحدة يتعرضان «للتمزيق»، بعد إزالة تماثيل لشخصيات من حقبة الكونفدرالية. وأوضح أنه «من المحزن رؤية تمزيق تاريخ وحضارة بلادنا العظيمة، بإزالة التماثيل والصروح الجميلة. لا تستطيعون تغيير التاريخ، ولكن يمكنكم التعلم منه. روبرت إي. لي، وستونوول جاكسون... من التالي: (جورج) واشنطن، (توماس) جيفرسون؟ هذه حماقة!». وقال ترمب في تغريدة ثالثة: «سنفتقد إلى الجمال الذي يتم إزالته من مدننا وبلداتنا وحدائقنا، ولن يتم استبدال شيء به يضاهيه جمالاً».
في المقابل، يعتبر جزء آخر من الأميركيين، أن رموز الكونفدرالية تذكّر بعزيمة بعض الولايات لإبقاء العبودية، وبحقبة التمييز العرقي، ويرون أن مكانها يكمن في المتاحف وكتب التاريخ. وفي تصريحات صحافية سبقت مواجهات شارلوتسفيل، قال كورنيل ويست، أحد أبرز الناشطين اليساريين، إنه «كان ينبغي إزالة هذه التماثيل منذ وقت طويل. شخصيات مثل روبرت لي أو ستونويل جاكسون، كرسوا حياتهم لاستعباد السود، إنهم ليسوا أبطالاً».
بدورها، قالت لوري مارتن، الأستاذة المساعدة في جامعة «لويزيانا»، إن أحداث العنف العرقي، مثل مجزرة تشارلستون في عام 2015، حيث أطلق عنصري أبيض النار على تسعة مصلين سود في كنيسة، أو أحداث شارلوتسفيل الأخيرة: «تسلط الضوء على نقطة أثارها السود وغيرهم كثيراً في السابق: هذه التماثيل رموز للكراهية».
وأزيلت تماثيل لشخصيات بارزة في الكونفدرالية الأميركية، الأسبوع الماضي، في بالتيمور بولاية ماريلاند، وسط اشتداد الحملة لإزالة رموز الحرب الأهلية الأميركية. وعرض التلفزيون المحلي «دبليو بي إيه إل» صوراً لعمال وهم يضعون تمثالي الجنرال روبرت لي وتوماس جاكسون في شاحنة.
كما تمت إزالة نصب النساء وجنود وبحارة الكونفدرالية، فضلاً عن نصب يكرم قاضياً سابقاً في المحكمة العليا، بحسب صحيفة «بالتيمور صن».
وكان القاضي روبرت تاني مسؤولاً عن صدور حكم في 1857، يقضي بأن الأميركيين من أصل أفريقي لا يحق لهم الحصول على الجنسية الأميركية.
وكُتب على قاعدة حجرية كانت تحمل تماثيل لي وجاكسون بالبخاخ الأسود: «حياة السود مهمة».
وصرحت كاثرين بيو، رئيسة بلدية بالتيمور، لصحيفة «بالتيمور صن» بأن المدينة لم تقرر بعد ما الذي ستفعله بالتماثيل بعد إزالتها. وقالت بيو: «كانت إزالتها واجبة. كل ما يهمني سلامة وأمن شعبنا. لقد تحركنا بالسرعة الممكنة».
واللافت في تماثيل الكونفدرالية، هو أن تشييدها انقسم إلى حقبتين زمنيتين: الأولى في 1910 و1920، بهدف ترسيخ قانون «جيم كرو» للتمييز العرقي، الذي ينص على الفصل بين البيض والسود في المدارس وأماكن العمل والمطاعم وحتى الحمامات. ثم بعد ذلك في الخمسينات والستينات التي تزامنت مع إعلان محاكم عليا في أغلب الولايات الأميركية قوانين «جيم كرو» غير دستورية، وازدهار حركة الحقوق المدنية، كما تشير بيانات مركز «ساذرن بوفرتي لو».
ويقول جوزيف لاوندز، محاضر في جامعة «أوريغون»، لصحيفة «الغارديان» البريطانية، إن ظاهرة «جيم كرو» كانت في الحقيقة مشروعاً سياسياً قادته النخبة السياسية الجنوبية لمواجهة ما بدا أنه تحالف بين الطبقات العاملة السوداء والبيضاء في الولايات الجنوبية، ضد ملاك المزارع الكبار. وتابع لاوندز بأن التماثيل كانت جزءاً من استراتيجية التفرقة، وأنها كانت بمثابة رموز ثقافية تعيد اصطفاف المزارعين الفقراء البيض مع الملاك. وأوضح: «كان مشروعاً سياسياً. وكل مشروع سياسي يحتاج إلى رموزه».
من جانبه، كتب العمدة الديمقراطي لمدينة نيو أورلينز، ميتش لوندريو، في مقال بصحيفة «واشنطن بوست»، أن «هذه التماثيل شيدت لإعادة كتابة التاريخ، وتمجيد الكونفدرالية وضمان استمرار فكرة تفوق الجنس الأبيض». وتابع في مقاله الذي نشر في ١١ مايو (أيار) الماضي: «هذه التماثيل ليست رموزاً كئيبة لإرث من العبودية والتمييز العنصري، بل إنها إشادة به. إنها تحكي قصة مغلوطة عن تاريخنا، وتمثل إهانة لحاضرنا ومثالاً متدنياً لمستقبلنا».
بدوره، قال الأميركي جيمس لوين، صاحب كتاب «الأكاذيب التي سمعتها من معلمي»، إنه رغم هزيمة ولايات الجنوب في الحرب الأهلية، فإن التماثيل المنتشرة في مختلف أنحاء الولايات المتحدة توحي بأن الجانبين تعادلا، كما نقلت عنه صحيفة «لوموند» الفرنسية. وضرب لوين مثلاً بولاية تينيسي التي تحتضن اليوم 727 تمثالاً لرموز الكونفدرالية، واثنين فقط للمنتصرين في الحرب الأهلية.

- عزلة ترمب الجمهورية
أثار الرئيس الأميركي عاصفة انتقادات جمهورية وديمقراطية هذا الأسبوع، على خلفية تعليقاته بشأن أحداث شارلوتسفيل. وقال ترمب في مؤتمر صحافي صاخب، الثلاثاء الماضي، إن اللوم «يقع على الطرفين»، مشيراً إلى أن هناك «أناساً طيبين جداً» في الجانبين.
وأثارت هذه التعليقات توبيخاً علنياً من جانب كبار الجمهوريين ورؤساء الشركات، لإحجام ترمب عن التنديد بشكل صريح بأفعال الداعين لتفوق العرق الأبيض، كما أوردت وكالة «رويترز». في المقابل، لقي الرئيس الأميركي دعماً لدى مؤيديه، وفي مقدمتهم نائبه مايك بنس، ومن طرف اليمين المتشدد.
وبرزت أصوات جمهورية انتقدت تصريحات ترمب بشدة، كزعيم الجمهوريين في مجلس النواب بول راين، وعضوي مجلس الشيوخ ليندسي غراهام وجون ماكين. وكتب راين: «يجب أن نكون واضحين. نظرية تفوق العرق الأبيض كريهة. هذا التعصب مخالف لكل ما يؤمن به هذا البلد. لا يمكن أن يكون هناك أي التباس أخلاقي». بينما أعربت النائبة الجمهورية عن فلوريدا، إيليانا روس ليتينن، عن غضبها فكتبت: «اتهام كلا الطرفين بعد شارلوتسفيل؟! لا. العودة إلى مذهب النسبية حين نتحدث عن (كو كلوكس كلان) وأنصار النازية وتفوق العرق الأبيض؟ لا، قطعاً».
بدوره، قال غراهام على حسابه بـ«تويتر»، إن الرئيس الأميركي «تراجع خطوة» الثلاثاء «بالإشارة مرة أخرى إلى وجود مساواة أخلاقية بين دعاة تفوق العرق الأبيض والنازيين الجدد، وأعضاء (كو كلاكس كلان)، وأشخاص مثل هيذر»، في إشارة إلى الشابة العشرينية التي قتلت في أحداث عنف فرجينيا. بدورهما، دعا الرئيسان السابقان جورج بوش الأب وجورج دبليو بوش، في بيان مشترك نادر، الأميركيين إلى «رفض التعصب العنصري بكل أشكاله». واستشهد الرئيسان، من دون أن يسميا ترمب، بإعلان الاستقلال، وذكّرا الأميركيين بأن جميع المواطنين «متساوون».
وفي مؤشر على عدم استعداد الحزب الجمهوري للدفاع عن الرئيس الأميركي، لم يسع أعضاء الكونغرس الجمهوريون إلى تبرير تصريحات ترمب أو شرحها، كما سبق أن فعلوا في مناسبات سابقة. وقالت زعيمة اللجنة القومية الجمهورية، رونا رومني ماكدانيل، لشبكة «إيه بي سي»: «في شارلوتسفيل اللوم يقع كليا على (كو كلوكس كلان) ودعاة تفوق العرق الأبيض». أما جون كيش الذي نافس ترمب على ترشيح الحزب الجمهوري للرئاسة العام الماضي، فقال لشبكة «إن بي سي»: «عليه أن يصلح الأمر، وعلى الجمهوريين أن يتحدثوا بصراحة».
ولم يجلس ترمب مكتوف الأيدي أمام «عزلته الجمهورية»؛ بل رد على انتقادات زملائه في الحزب. وكتب الرئيس على «تويتر»: «قال ليندسي غراهام الذي يسعى إلى الظهور، كذباً، إنني قلت إن هناك مساواة أخلاقية بين جماعة (كو كلاكس كلان) والنازيين الجدد، ودعاة تفوق العرق الأبيض، وأشخاص مثل السيدة هيير». وتابع ترمب: «يا لها من كذبة مقرفة... إنه لا يستطيع أن ينسى هزيمته في الانتخابات. سكان ساوث كارولاينا سيتذكرون»، في إشارة إلى هزيمة غراهام في الانتخابات التمهيدية العام الماضي.
كما انتقد ترمب الجمهوري جيف فليك، أحد الجمهوريين القلائل الذين انتقدوه مباشرة. وقال ترمب على «تويتر»: «من الرائع أن نرى الدكتور كيلي وورد يتنافس ضد فليك جيف فليك، الضعيف في قضايا الحدود والجريمة، والشخص غير الفاعل في مجلس الشيوخ. إنه كالسم». وكان فليك، الذي يتنافس لإعادة انتخابه، كتب الثلاثاء: «لا يمكن أن نقبل أعذاراً لدعاة تفوق العرق الأبيض، وأعمال الإرهاب الداخلي. يجب أن ندين ذلك». وعاد إلى «تويتر»، الأربعاء، ليقول: «لا يمكن أن نزعم أننا من حزب لنكولن، إذا راوغنا في إدانة دعاة تفوق العرق الأبيض». وكان فليك يشير إلى أبراهام لنكولن، رئيس الجمهورية الذي حظر العبودية وهزم الكونفدرالية الجنوبية في الحرب الأهلية.

- صعود اليمين المتطرف
على عكس الانتقادات الجمهورية، لاقت تصريحات الرئيس الأميركي قبولاً واسعاً لدى اليمين المتطرف. وكان أول المرحبين بها ديفيد ديوك، الزعيم السابق لجماعة «كو كلوكس كلان»، التي تؤمن بتفوق البيض، الذي عبّر عبر حسابه بـ«تويتر» عن «تقديره» لسيد البيت الأبيض، كما نقلت وكالة الصحافة الفرنسية. وكتب ديوك: «شكرا سيدي الرئيس ترمب، على صدقك وشجاعتك في قول الحقيقة عن شارلوتسفيل، والتنديد بالإرهابيين اليساريين».
وتحمس أنصار نظرية تفوق العرق الأبيض والنازيون الجدد لانتقاد ترمب «اليسار البديل» بشكل خاص، وتحميله جزءاً من مسؤولية العنف الذي شهدته مدينة شارلوتسفيل.
بدوره، كتب أندرو أنغلن، مؤسس موقع «ديلي ستورمر» المؤيد للنازيين الجدد والمعادي للسامية، والذي يشكل مركزاً لليمين المتشدد: «هذا الرجل يقوم بكل ما في وسعه لدعمنا، وعلينا الاصطفاف خلفه». وأضاف: «سيكون من الصعب حقاً أن نحمل أي مشاعر سلبية تجاه ترمب، حتى بعد وقت طويل جداً من الآن».
أما ريتشارد سبينسر، المنظم القومي الأبيض لمسيرة «وحّدوا اليمين»، فأشاد بتصريح ترمب الذي وصفه بـ«العادل والواقعي». وقال سبينسر، إن «ترمب يُعنى بالحقيقة»، مضيفاً أنه «فخور» بالرئيس. وأعاد جاك بوزوبييك، أحد مسؤولي اليمين البديل، نشر تغريدة ترمب عبر «تويتر»، فقال: «بلغنا وقت الذروة الآن»، و«ليلة سعيدة لليسار البديل».
وذكرت وسائل إعلام محلية، أنه تم حظر حسابات كثير من أفراد مجموعات اليمين البديل الذين شاركوا في المسيرة، على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل «فيسبوك» و«إنستغرام»، فيما أغلقت صفحاتهم على الإنترنت من جانب مواقع استضافة تتبع سياسة مناهضة للتهديدات وخطاب الكراهية، إلا أن بعضهم ظل قادراً على إيصال صوته.

- عنف محلي ذو أصداء دولية
أخذت أحداث شارلوتسفيل والتصريحات الرئاسية التي رافقتها أبعاداً دولية، وأعادت أشباحاً حاولت أوروبا الغربية دفنها في الماضي، بعد أن حصدت أرواح الملايين.
وكانت ألمانيا، التي قسمتها النازية وهدمت مدنها وأشعلت نار الحرب العالمية الثانية، من أول المعلقين على تظاهر النازيين الجدد والعنصريين البيض. ووصفت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ما قام به المؤمنون بتفوق العرق الأبيض في فرجينيا بالأمر «المقزز»، معتبرة أنه «هجوم شرير» ضد متظاهرين معارضين، حسبما ذكر متحدث باسمها. فيما ندد وزير الخارجية زيغمار غابرييل في وقت لاحق بـ«الخطأ الجسيم» الذي ارتكبه ترمب، برأيه، إذ لم يدن بوضوح النازيين الجدد، والعنصريين، وجماعة «ألت رايت» اليمينية المتطرفة.
بدوره، أعلن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، من مقر إجازته الصيفية بمرسيليا، دعمه للنشطاء المناهضين للعنصرية في الولايات المتحدة، في رسالة تجنبت انتقاد رد فعل الرئيس الأميركي. وكتب ماكرون على «تويتر»: «إلى جانب أولئك الذين يكافحون العنصرية وكره الأجانب. نضالنا مشترك، الأمس واليوم».
وفي بريطانيا، رأت رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي، أن لا مجال للمقارنة بين من يحملون أفكاراً فاشية ومن يعارضونها، في معرض ردها على تصريحات الرئيس الأميركي دونالد ترمب على أحداث شارلوتسفيل. وقالت ماي: «لا أرى أي مجال للمقارنة بين أولئك الذين يتبنون الأفكار الفاشية وأولئك المعارضين لها. أعتقد أنه من المهم لكل من يتولى منصباً مسؤولاً أن يدين أفكار اليمين المتطرف كلما سمعناها».
وأضافت، في تصريح للصحافيين في بورتسماوث بجنوب بريطانيا: «أنا أمقت تماماً العنصرية والحقد والعنف التي رأينا هذه الجماعات تعبر عنه. المملكة المتحدة بادرت إلى حظر المجموعات اليمينية المتطرفة هنا»، كما أوردت وكالة الصحافة الفرنسية.
وأثارت تصريحات الرئيس الأميركي جدلاً واسعاً في إسرائيل كذلك، حيث كان وقع الشعارات النازية التي أنشدها اليمينيون المتطرفون في فرجينيا قاسيا على كثيرين. ورفع الإسرائيليون وتيرة انتقادهم لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، على ما اعتبروه رد فعل ضعيفاً على القوميين البيض العنصريين الأميركيين، وتعليقات الرئيس دونالد ترمب.
وجاء رد فعل نتنياهو في تغريدة بعد ثلاثة أيام على مسيرة القوميين البيض العنصريين، وكتب باللغة الإنجليزية على «تويتر»: «أنا غاضب من التعبيرات المعادية للسامية والنازية الجديدة والعنصرية. على الجميع مناهضة هذه الكراهية».



لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
TT

لبنان يواجه تحدّيات مصيرية في زمن التحوّلات

جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)
جريمة اغتيال رفيق الحريري (غيتي)

يواجه لبنان جملة من التحديات السياسية والعسكرية والأمنية والاقتصادية، خصوصاً في مرحلة التحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة وترخي بثقلها على واقعه الصعب والمعقّد. ولا شك أن أهم هذه التحوّلات سقوط نظام بشّار الأسد في سوريا، وتراجع النفوذ الإيراني الذي كان له الأثر المباشر في الأزمات التي عاشها لبنان خلال السنوات الأخيرة، وهذا فضلاً عن تداعيات الحرب الإسرائيلية وآثارها التدميرية الناشئة عن «جبهة إسناد» لم تخفف من مأساة غزّة والشعب الفلسطيني من جهة، ولم تجنّب لبنان ويلات الخراب من جهة ثانية.

إذا كانت الحرب الإسرائيلية على لبنان قد انتهت إلى اتفاق لوقف إطلاق النار برعاية دولية، وإشراف أميركي ـ فرنسي على تطبيق القرار 1701، فإن مشهد ما بعد رحيل الأسد وحلول سلطة بديلة لم يتكوّن بعد.

وربما سيحتاج الأمر إلى بضعة أشهر لتلمُّس التحدّيات الكبرى، التي تبدأ بالتحدّيات السياسية والتي من المفترض أن تشكّل أولوية لدى أي سلطة جديدة في لبنان. وهنا يرى النائب السابق فارس سُعَيد، رئيس «لقاء سيّدة الجبل»، أنه «مع انهيار الوضعية الإيرانية في لبنان وتراجع وظيفة (حزب الله) الإقليمية والسقوط المدوّي لحكم البعث في دمشق، وهذا إضافة إلى الشغور في رئاسة الجمهورية، يبقى التحدّي الأول في لبنان هو ملء ثغرات الدولة من أجل استقامة المؤسسات الدستورية».

وأردف سُعَيد، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، إلى أنه «بعكس الحال في سوريا، يوجد في لبنان نصّ مرجعي اسمه الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني، وهذا الدستور يجب أن يحترم بما يؤمّن بناء الدولة والانتقال من مرحلة إلى أخرى».

الدستور أولاً

الواقع أنه لا يمكن لمعطيات علاقة متداخلة بين لبنان وسوريا طالت لأكثر من 5 عقود، و«وصاية دمشق» على بيروت ما بين عامَي 1976 و2005 - وصفها بعض معارضي سوريا بـ«الاحتلال» - أن تتبدّل بين ليلة وضحايا على غرار التبدّل المفاجئ والصادم في دمشق. ثم إن حلفاء نظام دمشق الراحل في لبنان ما زالوا يملكون أوراق قوّة، بينها تعطيل الانتخابات الرئاسية منذ 26 شهراً وتقويض كل محاولات بناء الدولة وفتح ورشة الإصلاح.

غير أن المتغيّرات في سوريا، وفي المنطقة، لا بدّ أن تؤسس لواقع لبناني جديد. ووفق النائب السابق سُعَيد: «إذا كان شعارنا في عام 2005 لبنان أولاً، يجب أن يكون العنوان في عام 2024 هو الدستور أولاً»، لافتاً إلى أن «الفارق بين سوريا ولبنان هو أن سوريا لا تملك دستوراً وهي خاضعة فقط للقرار الدولي 2254. في حين بالتجربة اللبنانية يبقى الدستور اللبناني ووثيقة الوفاق الوطني المرجعَين الصالحَين لبناء الدولة، وهذا هو التحدي الأكبر في لبنان».

وشدّد، من ثم، على ضرورة «استكمال بناء المؤسسات الدستورية، خصوصاً في المرحلة الانتقالية التي تمرّ بها سوريا»، وتابع: «وفي حال دخلت سوريا، لا سمح الله، في مرحلة من الفوضى... فنحن لا نريد أن تنتقل هذه الفوضى إلى لبنان».

العودة للحضن العربي

من جهة ثانية، يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة عمّا كان الوضع عليه في العقود السابقة. ولا يُخفي السياسي اللبناني الدكتور خلدون الشريف، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن لبنان «سيتأثّر بالتحوّلات الكبرى التي تشهدها المنطقة، وحتميّة انعكاس ما حصل في سوريا على لبنان». ويلفت إلى أن «ما حصل في سوريا أدّى إلى تغيير حقيقي في جيوبوليتيك المنطقة، وسيكون له انعكاسات حتمية، ليس على لبنان فحسب، بل على المشرق العربي والشرق الأوسط برمته أيضاً».

الاستحقاق الرئاسي

في سياق موازٍ، قبل 3 أسابيع من موعد جلسة انتخاب الرئيس التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه برّي في التاسع من يناير (كانون الثاني) المقبل، لم تتفق الكتل النيابية حتى الآن على اسم مرشّح واحد يحظى بأكثرية توصله إلى قصر بعبدا.

وهنا، يرى الشريف أنه بقدر أهمية عودة لبنان إلى موقعه الطبيعي في العالم العربي، ثمّة حاجة ماسّة لعودة العرب إلى لبنان، قائلاً: «إعادة لبنان إلى العرب مسألة مهمّة للغاية، شرط ألّا يعادي أي دولة إقليمية عربية... فلدى لبنان والعرب عدوّ واحد هو إسرائيل التي تعتدي على البشر والحجر». وبغض النظر عن حتميّة بناء علاقات سياسية صحيحة ومتكافئة مع سوريا الجديدة، يلفت الشريف إلى أهمية «الدفع للتعاطي معها بإيجابية وانفتاح وفتح حوار مباشر حول موضوع النازحين والشراكة الاقتصادية وتفعيل المصالح المشتركة... ويمكن للبلدين، إذا ما حَسُنت النيّات، أن يشكلّا نموذجاً مميزاً للتعاون والتنافس تحت سقف الشراكة».

يحتاج لبنان في المرحلة المقبلة إلى مقاربة جديدة

النهوض الاقتصادي

وحقاً، يمثّل الملفّ الاقتصادي عنواناً رئيساً للبنان الجديد؛ إذ إن بناء الاقتصاد القوي يبقى المعيار الأساس لبناء الدولة واستقرارها، وعودتها إلى دورها الطبيعي. وفي لقاء مع «الشرق الأوسط»، قال الوزير السابق محمد شقير، رئيس الهيئات الاقتصادية في لبنان، إن «النهوض الاقتصادي يتطلّب إقرار مجموعة من القوانين والتشريعات التي تستجلب الاستثمارات وتشجّع على استقطاب رؤوس الأموال، على أن يتصدّر الورشة التشريعية قانون الجمارك وقانون ضرائب عصري وقانون الضمان الاجتماعي».

شقير يشدّد على أهمية «إعادة هيكلة القطاع المصرفي؛ إذ لا اقتصاد من دون قطاع مصرفي». ويشير إلى أهمية «ضبط التهريب على كل طول الحدود البحرية والبرّية، علماً بأن هذا الأمر بات أسهل مع سقوط النظام السوري، الذي طالما شكّل عائقاً رئيساً أمام كل محاولات إغلاق المعابر غير الشرعية ووقف التهريب، الذي تسبب بخسائر هائلة في ميزانية الدولة، بالإضافة إلى وضع حدّ للمؤسسات غير الشرعية التي تنافس المؤسسات الشرعية وتؤثر عليها».

نقطة جمارك المصنع اللبنانية على الحدود مع سوريا (آ ف ب)

لبنان ودول الخليج

يُذكر أن الفوضى في الأسواق اللبنانية أدت إلى تراجع قدرات الدولة، ما كان سبباً في الانهيار الاقتصادي والمالي، ولذا يجدد شقير دعوته إلى «وضع حدّ للقطاع الاقتصادي السوري الذي ينشط في لبنان بخلاف الأنظمة والقوانين، والذي أثّر سلباً على النمو، ولا مانع من قوننة ليعمل بطريقة شرعية ووفق القوانين اللبنانية المرعية الإجراء». لكنه يعبّر عن تفاؤله بمستقبل لبنان السياسي والاقتصادي، قائلاً: «لا يمكن للبنان أن ينهض من دون علاقات طيّبة وسليمة مع العالم العربي، خصوصاً دول الخليج... ويجب أن تكون المهمّة الأولى للحكومة الجديدة ترسيخ العلاقات الجيّدة مع دول الخليج العربي، ولا سيما المملكة العربية السعودية التي طالما أمّنت للبنان الدعم السياسي والاقتصادي والمالي».

ضبط السلاح

على صعيد آخر، تشكّل الملفات الأمنية والعسكرية سمة المرحلة المقبلة، بخاصةٍ بعد التزام لبنان فرض سلطة الدولة على كامل أراضيها تطبيقاً للدستور والقرارات الدولية. ويعتبر الخبير العسكري والأمني العميد الركن فادي داوود، في تصريح لـ«الشرق الأوسط»، أن «تنفيذ القرار 1701 ومراقبة تعاطيها مع مكوّنات المجتمع اللبناني التي تحمل السلاح، هو التحدّي الأكبر أمام المؤسسات العسكرية والأمنية». ويوضح أن «ضبط الحدود والمعابر البرية مع سوريا وإسرائيل مسألة بالغة الدقة، سيما في ظل المستجدات التي تشهدها سوريا، وعدم معرفة القوة التي ستمسك بالأمن على الجانب السوري».

مكافحة المخدِّرات

وبأهمية ضبط الحدود ومنع الاختراق الأمني عبرها، يظل الوضع الداخلي تحت المجهر في ظلّ انتشار السلاح لدى معظم الأحزاب والفئات والمناطق اللبنانية، وهنا يوضح داوود أن «تفلّت السلاح في الداخل يتطلّب خطة أمنية ينفّذها الجيش والأجهزة الأمنية كافة». ويشرح أن «وضع المخيمات الفلسطينية يجب أن يبقى تحت رقابة الدولة ومنع تسرّب السلاح خارجها، إلى حين الحلّ النهائي والدائم لانتشار السلاح والمسلحين في جميع المخيمات»، منبهاً إلى «معضلة أمنية أساسية تتمثّل بمكافحة المخدرات تصنيعاً وترويجاً وتصديراً، سيما وأن هناك مناطق معروفة كانت أشبه بمحميات أمنية لعصابات المخدرات».

حقائق

علاقات لبنان مع سوريا... نصف قرن من الهيمنة

شهدت العلاقات اللبنانية - السورية العديد من المحطات والاستحقاقات، صبّت بمعظمها في مصلحة النظام السوري ومكّنته من إحكام قبضته على كلّ شاردة وواردة. وإذا كان نفوذ دمشق تصاعد منذ دخول جيشها لبنان في عام 1976، فإن جريمة اغتيال الرئيس اللبناني المنتخب رينيه معوض في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) 1989 - أي يوم عيد الاستقلال - شكّلت رسالة. واستهدفت الجريمة ليس فقط الرئيس الذي أطلق مرحلة الشروع في تطبيق «اتفاق الطائف»، وبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها وحلّ كل الميليشيات المسلّحة وتسليم سلاحها للدولة، بل أيضاً كلّ من كان يحلم ببناء دولة ذات سيادة متحررة من الوصاية. ولكنْ ما إن وُضع «اتفاق الطائف» موضع التنفيذ، بدءاً بوحدانية قرار الدولة، أصرّ حافظ الأسد على استثناء سلاح «حزب الله» والتنظيمات الفلسطينية الموالية لدمشق، بوصفه «سلاح المقاومة لتحرير الأراضي اللبنانية المحتلّة» ولإبقائه عامل توتر يستخدمه عند الضرورة. ثم نسف الأسد «الأب» قرار مجلس الوزراء لعام 1996 القاضي بنشر الجيش اللبناني على الحدود مع إسرائيل، بذريعة رفضه «تحويل الجيش حارساً للحدود الإسرائيلية».بعدها استثمر نظام دمشق انسحاب الجيش الإسرائيلي من المناطق التي كان يحتلها في جنوب لبنان خلال مايو (أيار) 2000، و«جيّرها» لنفسه ليعزّز هيمنته على لبنان. غير أنه فوجئ ببيان مدوٍّ للمطارنة الموارنة برئاسة البطريرك الراحل نصر الله بطرس صفير في سبتمبر (أيلول) 2000، طالب فيه الجيش السوري بالانسحاب من لبنان؛ لأن «دوره انتفى مع جيش الاحتلال الإسرائيلي من جنوب لبنان».مع هذا، قبل شهر من انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، أعلن نظام بشار الأسد رغبته بالتمديد للحود ثلاث سنوات (نصف ولاية جديدة)، ورغم المعارضة النيابية الشديدة التي قادها رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري، مُدِّد للحود بالقوة على وقع تهديد الأسد «الابن» للحريري ووليد جنبلاط «بتحطيم لبنان فوق رأسيهما». وهذه المرة، صُدِم الأسد «الابن» بصدور القرار 1559 عن مجلس الأمن الدولي، الذي يقضي بانتخاب رئيس جديد للبنان، وانسحاب الجيش السوري فوراً، وحلّ كل الميليشيات وتسليم سلاحها للدولة اللبنانية. ولذا، عمل لإقصاء الحريري وقوى المعارضة اللبنانية عن السلطة، وتوِّج هذا الإقصاء بمحاولة اغتيال الوزير مروان حمادة في أكتوبر (تشرين الأول) 2004، ثمّ باغتيال رفيق الحريري يوم 14 فبراير (شباط) 2005، ما فجّر «ثورة الأرز» التي أدت إلى انسحاب الجيش السوري من لبنان يوم 26 أبريل (نيسان)، وتبع ذلك انتخابات نيابية خسرها حلفاء النظام السوري فريق «14 آذار» المناوئ لدمشق.تراجع نفوذ دمشق في لبنان استمر بعد انسحاب جيشها بضغط أميركي مباشر. وتجلّى ذلك في «الحوار الوطني اللبناني»، الذي أفضى إلى اتخاذ قرارات بينها «ترسيم الحدود» اللبنانية السورية، وبناء علاقات دبلوماسية مع سوريا وتبادل السفراء، الأمر الذي قبله بشار الأسد على مضض. وأكمل المسار بقرار إنشاء محكمة دولية لمحاكمة قتلة الحريري وتنظيم السلاح الفلسطيني خارج المخيمات - وطال أساساً التنظيمات المتحالفة مع دمشق وعلى رأسها «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة» - وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية. حرب 6002مع هذا، بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان في يوليو (تموز) 2006، التي أعلن «حزب الله» بعدها «الانتصار على إسرائيل»، استعاد النظام السوري بعض نفوذه. وتعزز ذلك بسلسلة اغتيالات طالت خصومه في لبنان من ساسة ومفكّرين وإعلاميين وأمنيين - جميعهم من فريق «14 آذار» - وتوّج بالانقلاب العسكري الذي نفذه «حزب الله» يوم 7 مايو 2008 محتلاً بيروت ومهاجماً الجبل. وأدى هذا التطور إلى «اتفاق الدوحة» الذي منح الحزب وحلفاء دمشق «الثلث المعطِّل» في الحكومة اللبنانية، فمكّنهم من الإمساك بالسلطة.يوم 25 مايو 2008 انتخب قائد الجيش اللبناني ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وفي 13 أغسطس (آب) من العام نفسه عُقدت قمة لبنانية ـ سورية في دمشق، وصدر عنها بيان مشترك، تضمّن بنوداً عدّة أهمها: «بحث مصير المفقودين اللبنانيين في سوريا، وترسيم الحدود، ومراجعة الاتفاقات وإنشاء علاقات دبلوماسية، وتبنّي المبادرة العربية للسلام». ولكن لم يتحقق من مضمون البيان، ومن «الحوار الوطني اللبناني» سوى إقامة سفارات وتبادل السفراء فقط.ختاماً، لم يقتنع النظام السوري في يوم من الأيام بالتعامل مع لبنان كدولة مستقلّة. وحتى في ذروة الحرب السورية، لم يكف عن تعقّب المعارضين السوريين الذي فرّوا إلى لبنان، فجنّد عصابات عملت على خطف العشرات منهم ونقلهم إلى سوريا. كذلك سخّر القضاء اللبناني (خصوصاً المحكمة العسكرية) للتشدد في محاكمة السوريين الذين كانوا في عداد «الجيش السوري الحرّ» والتعامل معهم كإرهابيين.أيضاً، كان للنظام السوري - عبر حلفائه اللبنانيين - الدور البارز في تعطيل الاستحقاقات الدستورية، لا سيما الانتخابات الرئاسية والنيابية وتشكيل الحكومات، بمجرد اكتشاف أن النتائج لن تكون لصالحهم. وعليه، قد يكون انتخاب الرئيس اللبناني في 9 يناير (كانون الثاني) المقبل، الاستحقاق الأول الذي يشهده لبنان من خارج تأثير نظام آل الأسد منذ نصف قرن.