اليد الثالثة

• الكثير من الرسائل التي ترد هذا الناقد على «فيسبوك» تدور حول سؤال واحد: «كيف يمكن لي أن أصبح مخرجاً؟». إن لم يكن الإخراج هو ما في طموح السائل فهو الكتابة للسينما، وإن لم تكن الكتابة للسينما هي المطلب فالتمثيل، وفي أحيان كثيرة... النقد السينمائي.
• هناك من يسأل عن أفضل المدارس، وهناك من يريد أن يتعلم المهنة المفضلة التي يطمح لممارستها عن طريق الكتب: «ما هي أفضل الكتب التي تعلم الإخراج؟»، سأل أحدهم. و«هل تستطيع أن تدلني على مدرسة متخصصة بتدريس النقد السينمائي؟»
• الموهبة، أي موهبة في العالم، هي لازمة طبيعية يولد بها الإنسان. تبتدعها ظروفه الاجتماعية كما الظروف الثقافية لبيئته. كل واحد منا يحب التعبير عما في داخله لذا يصبح الرسم أو الموسيقى أو التمثيل أو الإخراج أو التأليف بمثابة اليد الثالثة للتواصل مع نفسه أولاً. ثم تأتي الأيام فتعلكنا ونتباطح وإياها فإما نرتقي باللغة التعبيرية التي نريد ونطورها أو نسقط تحت ظروف وقائع مستجدة ونترك ما نهوى إلى ما يكفي لدفع فواتير الحياة.
• هذا هو الواقع الذي يحدث غالباً بصرف النظر عن الموهبة المختارة، لكن صراعك معها في محاولة لتحقيق ما ترجوه منها لا علاقة له البتة بالدراسة. اليوم يدرس الغربيون (والكثير سواهم) الإخراج والتصوير والكتابة والنقد في المدارس، لكن حال السينما، كمنتوج فني وثقافي، ليس أفضل من حالها في الثلاثينات وما بعد. هي تقدمت في وسائط الصناعة والعرض لكن عدد الأفلام المبدعة فناً تقلص لا في أميركا وحدها بل في شتى أنحاء العالم بما في ذلك الأفلام التي تعرض في المهرجانات.
• والثابت الذي لا يمكن نكرانه أن كل المواهب الكبرى في السينما لم تنخرط في مدارس، باستثناء قلة من الممثلين الذين أمّوا منهج ستانيسلاڤسكي الذي اعترف بأنه كتب المنهج لأنه كان يبحث عن عمل وبسبب إفلاسه. لا غراهام غرين ولا رايموند تشاندلر ولا جان - كلود كارييه درسوا كتابة السيناريو، ولا فديريكو فيلليني وجون فورد أو ناغيزا أوشيما درس الإخراج، والكثير من أفضل الممثلين لم ينخرطوا في دراسة التمثيل بل مارسوا الموهبة الناتجة عن رغبتهم التعبيرية. وقس على ذلك ألوف المواهب التي قدّمت للسينما ثراءها الفني والمعرفي والتاريخي.
• نعم، العالم اختلف، لكن منبع الموهبة ما زال كما هو. هي الحاجة الذاتية للتعبير والتواصل. المدرسة تعلمك أنظمة ومناهج، لكن الإخراج، وسواه بما فيه النقد السينمائي، هو نتاج الذات. الموهبة هي مثل العين السليمة. الأسلوب هو معرفة ما الذي تريد أن تراه وكل ما يبقى هو أن تجد الفرصة لذلك.