أسئلة ما بعد الموصل

رغم الانتصار الكبير في الموصل، يصبح الحذر وبقاء هواجس الخطر من تنظيم الدولة «داعش» الأخطر في تاريخ الإرهاب العالمي منذ ظهوره، لعدد من الأسباب وخلاصة التجارب السابقة معه، نحددها فيما يلي: قدرة الإرهاب على التكيف: ترفد هواجس الخطر المستمرة من «داعش» من قدرته على التكيف والتمرين والمراوغة، رغم سقوط مهده في الموصل، واستعادة دولته فيها من جديد في 10 يونيو (حزيران) سنة 2013.
تتجلى هذه القدرة على التكيف وتوظيف السياقات من تاريخ «داعش»، أو «القاعدة» في العراق سابقاً، مع مدينة الموصل والعراق، حيث استطاع التنظيم استعادة حياته ودولته فيها عام 2013 ثم خلافته من الشام بعد ذلك بعام، في يونيو سنة 2014، وقد كمن التنظيم ست سنوات، بعد سقوطه فيها وسقوط عاصمة «دولة العراق الإسلامية» التي أنشأها سنة 2007 في الأنبار وظل مختفيا عدة سنوات، لا يسعى للتمكين، حتى ظهر من جديد مستغلاً وموظفاً لسياسات المالكي الطائفية في حقبته الحكومية الثانية، وسياقات ما بعد الانتفاضات العربية سنة 2011، ليستعيد نشاطه بدرجة أقوى مما سبق عراقياً وعربياً بعد ذلك، وتكون قفزته الرهيبة التي تصدر بها صدارة «الجهاد العالمي» منذ عام 2013 وحتى تاريخه، قبل أن تعود «القاعدة» وبعض فروعها في أفريقيا والشام واليمن وغيرها للنشاط من جديد واستعادة حضورها.
ومن علامات هذه القدرة على التكيف والتوافق وبقاء الخطر وقد ركز «داعش» خلال شهر رمضان الماضي، مع اشتعال الحرب والضغط عليها في معاقلها في سوريا والعراق، على استهداف هجماتها الدول الغربية، ووصلت أيضاً لجنوب شرقي آسيا، وظهر لها فرع جديد في الفلبين.
نعم، «داعش» تراجع وخسر معاقل مهمة له في سوريا والعراق، ومنها الموصل - حيث بدأ - والرقة - حيث عاصمته - التي وصلت المعركة ضد داعش فيها بتقدم قوات سوريا الديمقراطية، المدعومة أميركياً، حسب تصريح المراقبين لـ30 في المائة تقريباً من حجمها أواخر يونيو الماضي، ويتوقع معهد دراسات الحرب الأميركي ISW)) في تقرير له بتاريخ 10 يوليو الحالي، أن «داعش» لا يزال يملك إصرار مقاتليه وثقافة العناد والأمل الأصولي التي تنتج قدرته على التكيف، واستغلال الأوضاع الأمنية المرتبكة وضعف حضور الدولة والاحتقان الطائفي ليعاود الحضور من جديد.
لا شك أن تحرير الموصل من «داعش» له دلالة تاريخية ورمزية خاصة، كونها كانت مهد ميلاد «داعش» الجديد، ومع الضغوط الأخيرة في الشام، التي سقطت بها نبوءات التنظيم وروايات آخر الزمان التي استثمر فيها ووظفها في الدعاية والتجنيد، بدءاً من سقوط «دابق» في 16 أكتوبر العام الماضي سنة 2016 إلى تقدم قوات «سوريا الديمقراطية» في الرقة وسيطرتها على ما يقرب من 35 في المائة منها حتى اللحظة الراهنة، مما يجعلنا نرى أن «داعش» يخسر حروب آخر الزمان التي وعد بها واعتقدها من كتب الفتن، قبل أن يخوضها ليسقط بها وعده ووعيده معها.
لا شك أن «داعش» يفقد هالته وحضوره، كما تشارف لحظته وزمنيته التي أزعجت العالم، على الموت، وسقوط مهده في الموصل يمهد للمزيد من التراجعات مستقبلاً، ولا يمكن فصله عن هزائمه في غيرها، كما لا يمكن فصله عن محاولاته فروعه وخلاياه النائمة وذئابه المنفردة إعادته للحيوية والنشاط محاولة تخفيف الضغط عليه هنا أو هناك، وهو ما تمكن ملاحظته في سيناء ومصر، حيث تبنت «داعش» مقتل 23 عنصراً من عناصر الجيش المصري، في مقدمتهم ضابط برتبة كبيرة، في سيناء بعد عملية إرهابية كبيرة في 7 يوليو الحالي، قبل سقوط الموصل بثلاثة أيام، وهو التزامن الذي يفسر بعضه بعضاً في إصرار التنظيم وقيادته المركزية وفروعه على مقاومة الموت والحياة رغم أزمته العنيفة.
من هنا، تظل خطورة هذا التنظيم حاضرة وعنيفة في كل مكان، وليس في العراق فقط؛ ففي ليبيا على الرغم من طرد تنظيم «داعش» في مدينة سرت وجوارها، العام الماضي، بعد شهور من المعارك العنيفة التي أسفرت عن مقتل أكثر من 700 قتيل وآلاف الجرحى، فإن الحديث عن خطر هذا التنظيم وإمكانية عودته ما زالت تشكل هاجساً كبيراً فيها، وحسب كثير من المراقبين ثمة علامات على أن «داعش» سيحاول العودة للساحة من جديد عبر خلاياه النائمة التي تنتشر في البلاد، والتي تتبع أساليب دموية يمكن أن تستخدم في أماكن كثيرة تشمل العاصمة طرابلس ومدناً أخرى في الغرب الليبي، وقد نشطت الذئاب المنفردة وبعض المواجهات أخيراً فيها.
تتطلب مرحلة ما بعد تحرير الموصل عدم تكرار السياقات السابقة المنتجة لها، أو إعادتها للحياة لا سيما مع بقاء بعض المجاميع الموالية لها هنا وهناك، فهذه التنظيمات تجيد فقه الفرصة والتوظيف للسياقات بشكل واضح، ونذكر في ذلك دليلين:
1- نجحت قاعدة العراق، «داعش» فيما بعد، بتحقيق كل أهدافها التي طرحتها في استراتيجيتها الثانية في أكتوبر عام 2010 وهي استعادة دولتها التي جاءت أقوى من دولتها السابقة التي سقطت نهائياً عام 2008.
2- نجح «داعش» وفروع «القاعدة» وكذلك مختلف قوى التطرف والتطرف العنيف، في توظيف سياقات ما بعد «سقوط النظام» التي طرحتها بقوة انتفاضات ما عُرِف بـ«الربيع العربي» سنة 2011، ووجدت في فراغ الدولة الناتج عنها فرصة ذهبية لتمدد دولتها.
لذا لا يمكن الاطمئنان للراحة والرضا بعد انتهاء معركة الموصل، خصوصاً مع بقاء الخطر وكمونه للظهور مجدداً حين تحين الفرصة.
ما زال ملحّاً ومطلوباً التمكين لدولة القانون في العراق، وتجفيف منابع الاحتقان الطائفي، ووقف سعيره وتجلياته وخطاباته، والقطع الدائم مع ما سبق مع حقبة المالكي السابقة، ووقف التدخلات الإيرانية المستمرة في الداخل العراقي، وكذلك ترشيد وكلائها من الحشد الشعبي إلى عصائب الحق إلى غيرها من الميليشيات العراقية التابعة لها، التي يلح خطابها والكثير من شعاراتها على تصدير صورة طائفية للنصر والتحرير، مما يوفر الحاضنة الاجتماعية في المحافظات السنية لـ«داعش» من جديد، وكانت مباركة السيستاني لتحرير الموصل رشيدة وعاقلة حين وصفه بالنصر العراقي الكبير، وهو ما ينبغي أن يستمر وأن يُلتزَم من قبل كل القوى العراقية، والحذر من تكرار تجربة إنتاج «داعش» السابقة في عهد رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، التي قطع فيها مع الجميع، سواء فيها القوى السياسية التي تمثل التحالف الشيعي أو المرجعية التي انتقدته وضغطت من أجل رحيله فيما بعد في أغسطس (آب) سنة 2014.
ومما نذكر أنه عند بداية معركة الموصل قبل عشرة شهور، قدر عدد مقاتلي «داعش» داخل المدينة بسبعة آلاف مقاتل، و12 ألفاً في محيطها أغلبهم من المقاتلين الأجانب، وذلك قبل انطلاق عملية «قادمون يا نينوى» كما سُمِّيَت المعركة حينها، ويرجح تراجع عدد المقاتلين ككل لألف أو ألفين فقط خلال الشهر الأخير، مما يبقى خطر بعض هؤلاء قائماً، خصوصا إذا توفرت حواضن اجتماعية أو طائفية أو سياقات مناسبة من التوحش أو الرفض أو الأمل المواتي لمجموعات الإرهاب.
يسيطر على مشهد الإرهاب الراهن - رغم خطورته - ملمحا التشظي من جهة، حيث كثرة وصراع التنظيمات والانشقاقات، وأيضاً التحالفات المؤقتة، في شكل جبهات، كما ينشط فيه الخلاف والانقسام والنقد المتبادل حتى داخل التنظيمات الواحدة، في ثورة وميل مستمر، لنفي المرجعيات، وحكم الميدان والواقع على النظر، وقد انقسم منظرو «السلفية الجهادية» في تقدير الوقائع انقساماً واسعاً، وكان آخرها ما ثار بين الأردني أبو محمد المقدسي في نقده لبيان هيئة تحرير الشام بخصوص قتل كل من يؤمن بالديمقراطية في يونيو الماضي، وانتقاد المقدسي أيضاً لهيئة تحرير الشام ومعركتها في إدلب، واستهداف فلول «داعش» هناك، حسب تصريحاتها، وهو ما فَجَّر خلافاً مع كبير شرعيي فتح الشام الأردني أيضاً سامي بن محمود العريدي، وما زالت الخلافات والتشظي والنفي المتبادل سمة المشهد الفكري والنظري كما هي سمة المشهد الواقعي والحربي بين فصائل جبهات «الجهاديين» والتطرف العنيف كما هي كذلك بدرجة كبيرة داخل كل فصيل.