بين الإرهاب الناعم ودعم التطرف العنيف

لا تكتفي الدعاية الأصولية بصناعة الهالة والأقنعة اللامعة لأمرائها وشيوخها وممارساتها فقط بل سوقت كل ما يدعم آيديولوجيتها، وهمشت وأقصت كل ما ينقدها أو ينتقدها، وأخذت بذهنية انتقائية عشوائية تنتقي من خطاب حتى من يعارضها ما يفيدها، فأسلمت في نقد الحداثة كثيراً من أدبيات مدرسة ما بعد الحداثة ومدرسة ما بعد الاستعمار وبعض آراء تشومسكي، وكثيراً من أدبيات اليسار في نقد الرأسمالية والعكس أيضاً، حيث تظل هي بلا برنامج واضح محسوم في الجانبين.
لكن يظل انبثاق وإثمار الفكرية الأصولية من تربة الانغلاق والتعصب وانعزال الهوية المأزومة، والنظرة التآمرية والخطباء الشعبويين الباحثين عن دور وعن تأثير في أمة تتلقى سماعاً وشفاهة، والمشتهين للتعصب ورفض التجديد - كما كان يفعل الشيخ عليش وتلامذته مع أمثال الأفغاني ومحمد عبده وتلامذتهما في أخريات القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين - وكما تزعم الراحل الشيخ محمد شاكر الهجمة على الشيخ على عبد الرازق، وعلى كل أفكار النهضة والتنوير حينها.
وجدت رموز التعصب والانغلاق وخطباؤه الشعبية والقبول العامي في كثير من الأحيان، لما يصادفونه ويخاطبونه لدى العامة من مشاعر التمييز والتمجيد وما يشبع لديهم نزعات وأزمات الهوية وتحققها ولو عبر الماضي والانتصار في المستقبل، خصوصا مع هامشية مشاريع التنوير والاستنارة والاعتدال في كثير من حقب تاريخنا وضعف جهود التوثيق والنقد والمراجعة للكبار لحظيا وهو يعد عيبا في كثير من الأحيان، وتمتلك ذاكرة مثقوبة لا تتراكم فيها خبرات التاريخ، الخاص أو العام، وتجاربه فتبني عليه، بل كثيرا ما تعود دائريا لما سبق أن تجاوزته ويعود الجدل صفريا ليبدأ من حيث بدأ، ويزيح الشعار الأفكار والعاطفية الموضوعية والعلمية دون تمحيص ونقد.
* الشعبوية والخطابة وتربة التطرف
نلاحظ أن الخطباء الشعبيين، من البربهاري (أبو الحسن محمد بن على بن خلف البربهاري المتوفى سنة 329 هجرية) شيخ حنابلة بغداد في القرن الرابع الهجري، الذي اشتهر بتغيير المنكر باليد في زمنه، وصولا لأسماء كثيرة في زمنيتنا المعاصرة؛ عبد الحميد كشك (المتوفى سنة 1996) وقبله الشيخ حسن البنا مؤسس الإخوان المسلمين (المتوفى سنة 1949) الذي عُد الأول خلفا له عند بعض المؤرخين، رغم أن كليهما لم يُعرَف له في العلم الشرعي الإنتاج الأصيل، ولم تكن كثير من مقولات وشعارات حسن البنا التي انتشرت عند أتباعه إلا تكرارا غير منسوب لأصحابه الأصليين، ودون ذكر لهم، فنقل الكثير من حكم الإمام علي بن أبي طالب في «نهج البلاغة» كما نقل الكثير مما صاغه صاحب «المنار» السيد محمد رشيد رضا (توفي سنة 1935) في معركته دفاعاً عن الخلاف، وفي السعي لتوحيد المسلمين واستعادها دون ذكر له، كما تأثر كثيراً بخطاب الإسلام المحافظ الذي مثلته نخبة جمعية «الشبان المسلمين» أمثال محب الله الخطيب (توفي سنة 1969) وخطاب اللامركزية العثمانية التي عبر عنها أمثال رفيق العظم ومحمد راغب الطباخ وغيرهم، دون نسبة لهم كذلك. وقد يكون هذا مبرراً لأن شأن الخطيب النقل والذكر المؤثر، وليس التحقيق والتدقيق في الإسناد والنسبة ومراجعة حقائق الكلام، بل هو أقرب للشعارات الشاحنة منه للأفكار الناقدة والمراجعة الفاحصة التي هي شأن العالم والمحقق والباحث المستقل.
ولكن تبقى الخطورة دائماً أن المراجعة والتجديد عند الخطيب تكون أصعب إذا تبعه الكثيرون وحمل وراءه حملاً ثقيلاً من الأتباع، وهو ما كان حسن البنا نفسه واعياً به وصارح به أحمد حسين مؤسس «مصر الفتاة»، حين اقتنع ببعض آراء الأخير وصحتها، ولكنه أخبره أن وراءه تنظيماً كبيراً وحملاً ثقيلاً إذا انحرف به سقط وسقط به معه.
نؤكد بداية أن ثمة حواجز نفسية في ثقافتنا ووعينا العربي تحجبنا عن المصارحة وتعيق العقلية النقدية عن التفاعل، فيتم التسليم بالتلقي والاستسلام للدعاية، ويكون عن وصف الموصوف بما يستحقه، عرفاً أو تديناً أو طباعاً، وهو ما تنسرب به وعبره معايير خاطئة وغير موضوعية في كثير من الأحيان، وتبدو اللغة - حامل الوعي والحقيقة - فارغة من مضامينها، والأوصاف والألقاب منفصلة عن تأصيلها أو تحقيقها، وينال البعض مكانة روحية أو علمية أو تعليمية ليس بينه وبينها سبب أو نسب حقيقي أصيل. ولكن رغم ذلك، نقل الراحل حسن البنا مؤسس جماعة «الإخوان المسلمين»، لقب «المرشد» ذي الأصل الصوفي والتربوي لمجال التنظيم السياسي الإسلامي، واقترحه «الإخوان» في ستينات القرن الماضي - حسب شهادة يوسف ندا - على الخميني أثناء إقامته في باريس في ستينات القرن الماضي، ليلهم ويفجر به أكبر ثورة إسلامية سياسية خلال قرون.
وألهم المرشد وطريقته أو جماعته في الحالة الأولى وثورته ودولته، في الحالة الثانية، عشرات الحركات في مختلف أنحاء العالم، ورعى وكلاء عنه موظِّفاً لهم في إرهاق خصومه وأعدائه، وما زالت تصطلى الأمة بنيران وخطاب الإسلام السياسي السني والشيعي على السواء، الذي ينحرف عنيفاً، حسب قدرته ومصلحته ومواقفه في كل حالة.
* الدعاية والصورة الذهنية
كثيراً ما يسوق التطرف والإرهاب الناعم لمقولاته ورموزه وأهدافه العنيفة عبر صناعة الصورة الذهنية بالخصوص لهم، فيوصف شيخ يؤيده هنا بأنه أعلم أهل الأرض! ويوصف داعية هناك بالمجدد وخطيب بالألمعي الرائد الذي لا يكذب أهله، هذا ما فعلته كل جماعات الإسلام السياسي مع رموزها وشيوخها المنتمين إليها أو المؤيدين لها، هكذا وصف الراحلون حسن البنا من قبل أنصار وعناصر جماعة الإخوان، ووصف المودودي وقطب كما وصف عمر عبد الرحمن بـ«المجددين»، وهكذا حاولت «القاعدة» و«داعش» تصدير صورة شيوخها ودعاتها، فكتب البنعلي يبالغ في أوصاف البغدادي والعدناني كما كتب فارس آل شويل واصفاً أسامة بن لادن بأنه مجدد الزمان وقاهر الأميركان قبل ذلك، كما كتب أبو قتادة الفلسطيني واصفا الظواهري دائما بـ«حكيم الأمة».
وإذا تحول أحد قادة أو منظري هذه الجماعات عن فكرها، وانقلب عما سبق أن دعا له أو مارَسَ عليه مراجعته ونقده تحول عندهم وعند دعايتهم إلى «خائن للعهد» ومنقلب على الحق، كما فعلوا ووصفوا كل أصحاب المراجعات من الجماعة الإسلامية المصرية إلى حسن حطاب مؤسس الجماعة السلفية للدعوة والقتال في الجزائر، التي تحولت للقاعدة في بلاد المغرب العربي عام 2007 بعد تحوله، كما صَبَّت القاعدة وزعيمها أيمن الظواهري تحديداً سهام غضبها ونيران اتهاماتها على رفيق دربه السابق عبد القادر بن عبد العزيز (د. فضل) المنظِّر الجهادي السابق بعدما أصدر من مراجعات سنة 2009، وغيرهم وقبلهم كثير من أحمد حسن الباقوري والبهي الخولي وغيرهم من المنشقين عن «الإخوان» في خمسينات القرن الماضي حتى الآن.
* الإرهاب الناعم... أخطر من العنيف
كان دقيقاً انتقال القاموس التحليلي للتطرف وجماعاته، من سيولة وصف «جماعات الإرهاب» إلى دقة وصف «جماعات التطرف العنيف» فالإرهاب قد لا يكون عنيفاً أحياناً، خصوصاً حين يبقى في حيز اللغة والفتوى والاتهام والتبرير على المستوى النظري، أو التأييد والدعم والتمويل على المستوى العملي، بل يمكننا القول إن الإرهاب الناعم أخطر وأبعد أثراً بكثير من فعل الإرهاب نفسه وعملياته واعتداءاته التي تبدأ فكرة وتنتهي صورة وحضوراً وتهديداً مستمراً.
وربما كان وعي الإرهاب والتطرف والانغلاق كامناً في شيخ يدعي البراءة من العنف، بينما يبرر له، تكفيراً وتبريراً، وتأميناً وتخويناً، وتمييزاً واستعلاء، يقسم العالم فسطاطين، والمواطنة درجات، محتكراً العلم والاجتهاد ومدعياً الاصطفاء له ولشيعته وحزبه دون سواه. لذا نرى خطأ البعض في حصر وحشر وصف «الإرهاب» في العنف وجماعات التطرف العنيف فقط، بل تتعدد أشكاله وصوره كلامياً ونفسياً ووعياً وفعلاً، ويتسع لما هو مقدس وديني مطلق كما يتسع لما هو دنيوي ونسبي وتقديري كذلك، إنها لغة احتكار الحق والحقيقة وأهليتهما في كل اتجاه.
* الخروج بين رهان الأمة والسلطة
بينما راهن كثير من مفكري النهضة والاستنارة على الأمة، راهن الإسلام السياسي والعنيف دائماً على السلطة، وبينما قضية الأول هي التقدم والعدالة والإنسان والبشر، في العقد الثاني من القرن العشرين في مصر كانت ثمة مجلة تسمى «حقوق البشر»، كانت قضية الأصوليات والانغلاق وجماعاتهم وأفرادهم دائما هي الصراع العالمي وفتح العالم والانتصار على الآخر وقمعه وليس المنافسة الحضارية معه.
ونرى أن هذا المنطق الكامن يخالف ما استقرَّ عليه مذهب أهل السنة والجماعة وهويته التي تميزه عن مذاهب غيره من الفرق والغلو، حيث كان مذهب استقرار ودرء للفتنة، وقبل وأكد فقهاؤه منذ عصر الفتنة الكبرى على عدم الخوض في خلافات الصحابة، كما قبلوا بولاية التغلب والاستيلاء، ورغم تأكيدهم على فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، المعارضة السلمية أو المقاومة المدنية بتعبيرات عصرنا، فإنهم رفضوا الخروج المسلح على الحاكم انطلاقاً من الدين بالخصوص، درءاً للفتنة واستباحة الأوطان والإنسان، على عكس غيرهم من فرق الغلو والتطرف.
وترى أن انتشار وغلبة سواد أهل السنة والجماعة على سائر الفرق والمذاهب الإسلامية، يرجع إلى ذلك وكونها جماعة استقرار وتعليم ودعوة، ولم تكن جماعة اعتقاد في الإمامة أو الخروج، فهي في التحليل المعرفي الأخير فصلت الديني والمطلق عن التاريخي والنسبي في مسائل الحكم والإدارة، وكان رهانها الأول على الأمة والناس وتدوين العلم وتعليمه وتخلت عن الخروج مذهباً منذ وقت العقد السابع من القرن الأول الهجري، بينما ركزت الفرق الأخرى قرونا على السلطة والإمامة دون سواها، وحسب صلابة اعتقادها في تسييس الدين والخروج والصراع كان اندثارها وانهيارها، وعلى قدر ميلها للاعتدال والاستقرار وبلورة هويتها، تدوينا وتلقينا وتعليما، كان انتشارها وبقاؤها.
نفر فقهاء السنة والسلف في القرنين الأول والثاني الهجريين من كل عالم أو داعية أو شيخ يدعو للخروج بالقوة ومصارعة السلطة ولو متغلبة، وصارت سبباً لديهم في تراجع شعبيته وذكره، كما حدث في حالة الفقيه البصري مسلم بن يسار (توفي على الأرجح سنة 101 هجرية) الذي كان ينافس الحسن البصري (توفي 110 هجرية) في شعبيته بالبصرة، ولكن خرج وأيد ثورة القراء، وابن الأشعث الصنعاني، ففقد شعبيته وانحاز العامة والخاصة للحسن كما يروي ابن عون.
ما أردناه مما سبق التأكيد على أن الإرهابي بتعبيرات عصرنا أو الخارج وصاحب الفتنة بتعبيرات سلفنا ليس شرطاً أن يكون عنيفاً معلناً، بل يمكن أن يكون ناعماً تسكن أفكاره العنف فقط أو يرحب به أو يدعمه، وفي هذا السياق يمكننا قراءة وتفسير كثير من أزماتنا الراهنة والحاضرة.