ألمانيا رائدة استكشاف «كنز النفايات»

عندما نستغني عن جهاز هاتف محمول، أو نلقي أي أجهزة نستخدمها في حياتنا اليومية، أو نظهر انزعاجنا للنفايات المختلفة التي تتراكم أحيانا في الشوارع كما هي الحال في بلدان فقيرة أو نامية، أو على شواطئ البحار أو في أعماقها، لا يمكن أن نتصور مدى إمكانية الاستفادة منها؛ إما بتصنيع سلع جديدة أو إنتاج الطاقة، وذلك عبر ما يسمى اليوم بعملية إعادة التدوير.
ولقد استفادت ألمانيا قبل عامين من أطنان هائلة من النفايات، عندما أضرب عمال التنظيف في مدينة نابولي الإيطالية، وكادت المدينة أن تواجه أمراضا خطيرة لو لم تقدم شركات في مدينتي لابزيج وبريماهافن على عمل غير عادي... فقد اشترت هذه الشركات تلك الأطنان من النفايات ودوّرتها.
وأول صفقة تمت يومها كانت تبلغ نحو 1500 طن نفايات من نابولي، تحولت بعد ذلك إلى مواد أولية لصنع أدوات منزلية وحاجيات بكلفة بسيطة؛ لأن المواد الأولية كانت قد أنتجت من النفايات، ثم بيعت سلعا وكأنها مصنوعة من مواد أولية جديدة يتم استيرادها عادة من الخارج.
وحققت الشركات أرباحا كبيرة، واليوم يوجد في ألمانيا أكثر من 100 مصنع للاستفادة من النفايات، إما بإحراقها وإنتاج طاقة منها لإضاءة آلاف المنازل، أو لتدويرها كي تصبح مواد أولية تدخل في صناعات كثيرة.
وتعتبر ألمانيا حاليا في طليعة الدول التي تعتمد على عمليات تدوير النفايات وتحويلها إلى مواد أولية، إما لصناعة السلعة نفسها التي تم تدويرها أو سلعا جديدة، وبخاصة بعد إقرار الحكومة الألمانية قوانين ولوائح تحظر رمي النفايات والمخلفات بشكل عشوائي، وتقضي بتجميعها لإعادة تدويرها. وتبع ذلك إقرار الاتحاد الأوروبي بأهمية عملية إعادة التدوير؛ وذلك لحماية البيئة وفي الوقت نفسه تنشيط اقتصاديات الدول الأعضاء بالاتحاد.
* الحاجة أم الابتكار
ولقد أدى ارتفاع أسعار المواد الأولوية وتناقص المخزون العالمي منها إلى البحث عن بدائل؛ ما جعل اليوم عملية إعادة تدوير المخلفات والنفايات الصناعية والمنزلية عنصرا يزداد أهمية في الدورة الاقتصادية الألمانية، ومصدرا مهما للحصول على المواد الأولوية اللازمة للكثير من القطاعات الصناعية. فنتج من ذلك إنشاء شركات متخصصة بجمع وفزر النفايات من الأجهزة الكهربائية والسيارات والبطاريات والنفايات المنزلية، ثم تعبئتها وتغليفها وبيعها.
وبرأي خبراء اقتصاد، أصبح تدوير النفايات «منجم ذهب لا ينضب»، طالما أن الناس يرمون ما لا يريدون استخدامه، كما أن هذا العمل لا يحمي الطبيعة فحسب؛ بل يقلل أيضا من الاعتماد على استيراد المواد الخام الصناعية من الخارج، ويخفض من تكلفة السلع المنتجة.
وحسب بيانات وزارة الاقتصاد والطاقة الاتحادية في ألمانيا، فإن حجم النفايات البلاستيكية التي جمعت عام 2015 في ألمانيا وصل إلى ما يقرب من 6 ملايين طن، تم تدوير نحو 84 في المائة منها كمواد أولية دخلت في صناعات مختلفة، وما تبقى كان من أجل إنتاج الطاقة.
ولقد أنتج من 50 في المائة من هذه النفايات البلاستيكية مادة بولي فينيل كلوريد، التي تستخدم في البناء كمادة إنشائية، و2.29 مليون طن من البولي إثيلين المستخدم في الكثير من الصناعات، مثل صناعة الأجزاء المتحركة من آلات النسيج وغيرها، وكذلك 990 ألف طن من مادة البولي بروبلين، وهي لدائن تدخل في صناعة الأحبال والملابس الداخلية والسجاد، وأجزاء من السيارات وسلع كثيرة أخرى. ويقدر قيمة ما ينتج في العالم من عملية تدوير النفايات البلاستيكية بنحو 65 مليار دولار سنويا.
وتراهن اليوم الكثير من المصانع في ألمانيا أيضا على عمليات تدوير الألمنيوم والنحاس؛ ما يمكنها من سد حاجاتها إلى الصناعة بنسبة لا بأس بها، ويوفر عليها شراء مواد أولية من الأسواق الدولية؛ إذ توجد أعداد هائلة من الهواتف النقالة القديمة ما زالت لدى الألمان، وضعت في القبو لتحل مكانها الأجهزة المتطورة. والأجهزة القديمة تحتوي على ذرات من الذهب والفضة ومعادن أخرى ثمينة أدخلت في صناعتها، وتحاول المصانع اليوم شراءها من أجل إعادة تدويرها. إلى جانب ذلك، تفكر مصانع كبيرة بتطوير تقنيات بهدف إعادة تدوير المواد الممغنطة في الكثير من الأجهزة بهدف إدخالها في صناعات كهربائية كثيرة.
* اعتماد رئيسي على التدوير
ولقد أصبح إعادة تدوير المخلفات والنفايات مصدرا جديدا للحصول على مواد أولية لعدد لا بأس به من المصانع الألمانية، منها مصنع في إقليم براندنبورغ الذي يدّور سنويا ما يقرب من 40 ألف طن من النفايات البلاستيكية لإدخالها في صناعة الكوابل، ويجني أرباحا تصل سنويا إلى مليار يورو نتيجة تقليصه شراء مواد أولية من الخارج.
هذا التطور في مجال الحصول على مواد أولوية قد يغير جذريا استراتيجية إنتاج قطاعات صناعية ألمانية عدة مستقبلا؛ فهي تتركز على استعادة أكبر كمية من المواد الأولية لصنع السلعة نفسها أو سلع مختلفة، أيضا استخدام المخلفات وقودا ومصدرا مساعدا لإنتاج الطاقة الكهربائية أو الطاقة الحرارية، وذلك عبر إحراقها في أفران خاصة؛ مما يقلل من استيراد كميات ضخمة من المواد الأولية اللازمة لتشغيل مصانعها، بالأخص بعد الدراسات التي تحذر من مغبة تراجع كميات المواد الأساسية الخام؛ وفي الدرجة الأولى المعادن المختلفة... في وقت يزداد فيه الطلب العالمي عليها، وتحتكرها بلدان مصدرة لها، وبخاصة تلك التي تدخل في الصناعات الالكترونية، التي أصبحت اليوم أحد أهم ركائز اقتصاد بلدان صناعية كبيرة.
فألمانيا على سبيل المثال ليس لديها ثروات طبيعية؛ ما يضطرها إلى استيراد نحو 75 في المائة من حاجاتها إلى المواد الأساسية، ويجعل صناعتها مرتهنة للبلدان المنتجة لهذه المواد الأساسية... وبذلك تصبح ألمانيا أحيانا خاضعة للأسعار التي لا تتحكم بها الأسواق العالمية مباشرة، بل وضع البلدان المصدرة، ومن أهم الدول المصدرة لهذه المواد الحيوية الصين، حيث تنتج مناجمها نحو 70 في المائة من المعادن النادرة في العالم، وتأتي بعدها البرازيل ثم روسيا.
* ماذا يصنع من النفايات
يعتبر قطاع تدوير النفايات اليوم في ألمانيا من أهم أرباب العمل، ففي هذا القطاع يعمل أكثر من 300 ألف شخص، ويحقق القطاع إيرادات تتجاوز سنويا 38 مليار يورو. وتستفيد من عمليات التدوير قطاعات عدة، منها قطاع البناء، حيث يبلغ سنويا حجم مخلفات البناء نتيجة هدم المباني والمنازل أو عمليات الترميم نحو 50 مليون طن. وتتم الاستعانة بنحو مليوني طن من الخرسانة المدورة في المباني الجديدة، وبتكاليف أقل من شراء مواد بناء جديدة.. إلى جانب أكثر من 7 ملايين طن من قضبان الحديد وكميات هائلة من التراب للبناء.
والأمر نفسه ينطبق على صناعة الورق، وتصل نسبة إعادة تدوير ما يجمع من كل أنواع الورق (صحف ومجلات وكتب ومستلزمات ورقية في الإدارات) إلى نحو 99 في المائة.
وتكتسب عملية إعادة التدوير في صناعة الورق أهمية كبيرة، فالمصدر التقليدي الرئيسي هو الأخشاب في الغابات، مثل غابات الأمازون، والتدوير يقلل من قطع الأشجار فيها.
وأصبح رمي الزجاج في ألمانيا بشكل عشوائي من الأمور المحظورة، حيث تنتشر آلاف الحاويات في الأحياء لجمعه. وتشير الإحصائيات الرسمية إلى أنه يتم سنويا جمع ما يقارب من 2.5 مليون طن من الزجاج بهدف تدويره، أو إعادة استخدامه في صناعات مختلفة.
والاستفادة من المعادن الثمينة من الكثير من الأجهزة أصبح استراتيجية يعتمدها قطاع الصناعات، بالأخص الأجهزة الإلكترونية والكهربائية، مثل أجهزة الكومبيوتر المحمولة والهواتف المحمولة والألعاب الإلكترونية. ويبلغ حجم النفايات منها سنويا مليوني طن.
وتحتوي الهواتف المحمولة على سبيل المثال على أكثر من 30 نوعا من المعادن، واستطاعت ألمانيا عام 2012 فقط الحصول على نحو 300 ألف طن من الألمنيوم والنحاس ومعادن أخرى، إلى جانب ذرات من الذهب والفضة، عبر إعادة تدوير هذه الأجهزة التي كانت ترمى سابقا وتلوث البيئة.
ويصل حجم إنفاق ألمانيا في صناعة مستلزمات بلاستيكية من أكياس النايلون والتعليب ومنتجات ومستحضرات التجميل وألياف النسيج والمفروشات والاحتياجات المنزلية، وحتى الملابس والأحذية، إلى ما يقرب من 60 مليار يورو. حيث يجمع قرابة 90 في المائة من هذه النفايات، فيتم تدوير نحو 50 في المائة منها وتستخدم لصناعة السلع نفسها التي دورت، وما تبقى لحرقها مواد بديلة عن الوقود، أو استخدامها في توليد الطاقة الكهربائية أو التدفئة.
وعلى هذا الأساس، أصبح للنفايات والمخلفات قيمة كبيرة بعد أن تحولت إلى عنصر يدخل في صناعات كثيرة، فحتى الأحذية القديمة؛ تصنع منها اليوم حقائب أنيقة، وملابس رياضية، وأحذية باهظة الثمن.