ألمانيا في مرحلة إعادة صياغة علاقاتها التجارية

تبدو ألمانيا، وهي القوة الاقتصادية الأبرز في الاتحاد الأوروبي بعد انفصال بريطانيا، والشريك القوي لفرنسا في قيادة وزعامة منطقة اليورو، كما لو أنها في مرحلة إعادة صياغة لعلاقاتها الاقتصادية والتجارية خلال المرحلة القادمة. وذلك بعد صدمة انفصال بريطانيا العام الماضي، واتهامات أميركية بممارسة إجراءات تجارية غير عادلة، إضافة إلى ما تشهده خريطة القوى الاقتصادية العالمية من إعادة تشكيل، مع اتجاه العملاق الصيني إلى تفعيل مبادرة طريق الحرير، كخطوة من شأنها أن تمنح الاقتصاد الآسيوي القوي مزيدا من السيطرة على حركة التجارة حول العالم.
وظهرت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل بمظهر الزعيم القوي، في وجه الاتهامات الأميركية، وكذلك نهج الحمائية الذي يتبناه الرئيس دونالد ترمب، وذلك خلال ظهورهما معا في قمة مجموعة السبع الصناعية الكبرى في صقلية مع نهاية الأسبوع الماضي.
ولم تنتظر ميركل كثيرا حتى تضرب ضربتها الثانية، عندما صُدمت كثير من حلفائها، سواء في واشنطن أو لندن، بقولها إن أوروبا يتعين أن تمسك بمصيرها بين يديها، فيما يشير ضمنا إلى أن الولايات المتحدة في ظل رئاسة ترمب، وبريطانيا بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي لم يعد بالإمكان اعتبارهما شريكين يعتمد عليهما.
وكان ترمب والإدارة الأميركية قد انتقدوا خلال الأشهر الماضية ألمانيا، واتهموها بإضعاف اليورو عن عمد من أجل خلق منافسة غير عادلة للسلع الألمانية مقابل نظيرتها الأميركية، مستندين إلى ميل الميزان التجاري بشدة تجاه ألمانيا. كما اتهموا الشركات الألمانية العملاقة بأنها تغزو الأسواق وتغرقها، وهي الانتقادات التي دعت عددا من المسؤولين الألمان إلى القول: «حين تتمكن أميركا من صنع سيارات مثل (مرسيدس) و(بي إم دبليو) و(بورشه)، حينها فقط يمكن أن تلوم المنافسة».
* أمل إحياء اتفاقية التجارة
ومع تصاعد حدة الخطاب بين الطرفين، يبدو أن ألمانيا لم تغلق باب الأمل تماما في وجه إعادة فتح مفاوضات التجارة الحرة عبر الأطلسي بين أوروبا وأميركا. إذ ترى وزيرة الاقتصاد الألمانية بريجيته تسيبريس أنه لا يزال من الممكن إتمام اتفاقية تحرير التجارة بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي رغم معارضة ترمب.
وقالت تسيبريس أمس الاثنين، في تصريحات لإذاعة ألمانيا، إنها تلقت إشارات إيجابية خلال زيارتها للولايات المتحدة الأسبوع الماضي، مضيفة أن وزير الاقتصاد الأميركي ويلبور روس دعا خلال محادثاته معها إلى «علاقات تجارية عادلة» مع أوروبا، وقالت: «استشعرنا من ذلك انفتاحا كبيرا تجاهنا نحن الألمان».
وذكرت تسيبريس أنه لم يتضح بعد متى ستجرى مجددا مفاوضات حول الاتفاقية، وقالت: «من الواضح للغاية أن الولايات المتحدة لديها الآن أولوية لإعادة التفاوض حول اتفاقية نافتا»، وذلك في إشارة إلى اتفاقية تحرير التجارة لأميركا الشمالية بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك.
وينظر ترمب لاتفاقية تحرير التجارة مع الاتحاد الأوروبي بريبة؛ لأنه يرى أن بلاده ستتضرر منها اقتصاديا، كما أن هذه الاتفاقية مثار جدل في الاتحاد الأوروبي أيضا. وكان أول إجراء اتخذه ترمب عقب توليه مهام منصبه هو إلغاء اتفاق الشراكة الاقتصادية الاستراتيجية عبر المحيط الهادي.
لكن الإدارة الأميركية وترمب عبرا أكثر من مرة أنهم لا يعارضون اتفاقات ثنائية مع دول أخرى؛ لأنها ستتضمن شروطا أكثر وضوحا وعدالة للطرفين.
ومن ناحية أخرى، ذكرت تسيبريس أن موضوع فائض الميزان التجاري لألمانيا مع الولايات المتحدة لم يكن مثار جدل خلال زيارتها لواشنطن. ويذكر أن ترمب انتقد أكثر من مرة علانية فائض الميزان التجاري الألماني. وترى تسيبريس أنه من الممكن أن يفرض ترمب في هذا الإطار رسوما على الواردات القادمة للولايات المتحدة.
* تنافس آسيوي
وبينما تبدو الأمور غاية في الغموض والتعقيد بين برلين وواشنطن، فإن أبرز قوتين اقتصاديتين في آسيا، وهما الصين والهند، تبدوان في اهتمام بارز بتنمية العلاقات مع العملاق الألماني في الوقت الحالي، خاصة في ظل التنافس القائم بينهما بالفعل. وقال رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي قبيل زيارة تستمر يومين لألمانيا بدأت أمس، إن الهند تحرص على جذب مزيد من الشركات الألمانية للاستثمار، كما تحرص على تحسين العلاقات الثنائية.
ويزور رئيس الوزراء الصيني لي كه تشيانغ ألمانيا هذا الأسبوع كذلك، وأثار وصول زعيمي قوتين صاعدتين في آسيا في أعقاب كلمة ميركل عن أوروبا وأميركا، الحديث عن محور شرقي يضم ألمانيا التي كانت تميل بوضوح من قبل للتعاون عبر الأطلسي.
وقال مودي في مقابلة مع صحيفة «هاندلسبلات»: «الحكومتان (الألمانية والهندية) ملتزمتان تماما بتقوية العلاقات الاقتصادية». وأضاف: «أنا متفائل جدا بشأن شراكتنا المستقبلية».
وكانت تصريحات ميركل التي أدلت بها أمام حلفاء حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي الذي تتزعمه في الائتلاف الحاكم في ميونيخ صادمة للغاية، نظرا إلى أن ميركل معجبة بالولايات المتحدة منذ سنوات مراهقتها في ألمانيا الشرقية الشيوعية، وكانت دائما معروفة بإيمانها بالتعاون بين أوروبا والولايات المتحدة.
* خيبة أمل المستشارة
وقالت ميركل وسط تصفيق الحضور، فيما تظهر بوضوح خيبة أملها بسبب فشلها في الحصول على تأييد ترمب لاتفاق باريس المناخي خلال اجتماع قمة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى: «الوقت الذي كان بإمكاننا فيه الاعتماد بالكامل على آخرين انقضى فيما يبدو». وأضافت: «شهدت ذلك في الأيام القليلة الماضية. علينا نحن الأوروبيين أن نأخذ مصيرنا في أيدينا. بالطبع (مع الاحتفاظ) بصداقتنا مع الولايات المتحدة الأميركية وصداقتنا مع بريطانيا العظمى، وكجيران طيبين كلما أمكن ذلك مع دول أخرى، حتى مع روسيا».
وعلقت «هاندلسبلات»، وهي صحيفة صفوة مجتمع الأعمال في ألمانيا، قائلة، إن ميركل ترى في الصين والهند إمكانية شراكة في العمل على إبطاء التغير المناخي وتشجيع التجارة الحرة. وكتبت الصحيفة في صفحتها الأولى تقول: «بعد قمة مجموعة السبع المخيبة للآمال، تحول المستشارة الألمانية آمالها فيما يتعلق بالتجارة الحرة وحماية المناخ إلى الهند والصين».
لكن كلمات ميركل المختارة بعناية التي أشارت فيها إلى أن وقت الاعتماد على الغير انقضى «فيما يبدو» تشير إلى أن آراء المستشارة الموالية للولايات المتحدة يمكن أن تتغير.
وكتبت صحيفة «بيلد» المحافظة: «هناك شيء واضح، في المستقبل، ستظل الولايات المتحدة أهم شريك لنا في السياسات الاقتصادية والخارجية وسياسات الأمن».
وقال شتيفن زايبرت المتحدث باسم ميركل، أمس، إن ميركل مؤمنة تماما بقوة العلاقات الألمانية الأميركية، وإن تسليط الضوء على الخلافات في العلاقات مع واشنطن إنما ينبع من صراحتها في التعامل مع الولايات المتحدة.
ومضى يقول: «لأن العلاقات عبر الأطلسي مهمة للغاية بالنسبة إلى هذه المستشارة، فمن الصائب من وجهة نظرها التحدث بصراحة عن الخلافات».
وفي فيينا سئل إيوالد نووتني، عضو مجلس محافظي البنك المركزي الأوروبي، عما إذا كانت العلاقات الصعبة بين أوروبا والولايات المتحدة تتسبب في أي مخاطر على الاقتصاد العالمي، قائلا: «لا، يتعين علي القول إن هذه ميزة للبنوك المركزية بالمقارنة بالحكومات». ووصف نووتني تعاون البنك المركزي الأوروبي مع الاحتياطي الاتحادي الأميركي بأنه «جيد جدا ومكثف جدا». وقال: «لحسن الحظ فإن البنوك المركزية مستقلة ولا تعتمد على مناقشات سياسية قصيرة الأجل».