مانشستر مدينة التنوع تتحدى الإرهاب

يُعرف امتداد طريق «ويلمسو رود»، الذي يخترق ضاحية رشهولم التي تقع جنوب وسط المدينة، باسم «كاري مايل» بفضل المطاعم الهندية والباكستانية التي تحتل المنطقة منذ عقود. لكن يبدو أن هذا الاسم لم يعد يفي تلك المنطقة حقها، فالحلاقون الأكراد يجلسون إلى جوار المتاجر يبيعون عباءات الساري المتلألئة، وهناك محل لبيع الكتب الإسلامية في مواجهة سوبر ماركت جامايكي. ويحمل الجو في الحي الجنوبي عبق الجاليات العربية والإسلامية وهناك مقاه تحمل أسماء «دمشق» و«دبي»، بينما يأتي الطعام من تونس وفيتنام ومن جميع الأماكن التي تقع بينهما، فتلك البنايات الصغيرة تحوى العالم بأسرة.
ويضم جزء من هذا العالم نحو 10.000 أو أكثر من الليبيين المقيمين بمدينة مانشستر، وهي أكبر الجاليات خارج ليبيا. فقد وصل الكثيرون إلى هنا هربا من نظام العقيد معمر القذافي الدموي ومرت عقود طويلة على وجودهم هنا، مما عزز من وجودهم في المدينة وجعلهم جزءا من نسيجها.
ومؤخرا، قام مواطن بريطاني من أصول ليبية يدعي سلمان عبيدي بفعل أصاب المكان الذي نشأ فيه بألم لم تشعر به من قبل. ففي مساء الاثنين الماضي كانت هدية سلمان لمنطقة مانشستر أرينا التي ترعرع فيها قنبلة مليئة بالمسامير وبرادة الحديد وكرات الحديد الصغيرة، ليوقع 22 قتيلا ويصيب العشرات بإصابات خطيرة.
لم يهاجم سلمان حفلا موسيقيا فحسب، بل أيضا اعتدى على مدينة وعلى إحساسها بذاتها وبكونها عاصمة للكثير من الثقافات العالمية بشمال إنجلترا.
فمدينة مانشستر التي تترنح من الألم إثر اعتداء مساء الاثنين الماضي ليست هي بقايا ما بعد الحقبة الصناعية في السبعينات من القرن الماضي، ولا هي المدينة التي غزاها عقار «اكستاسي» الذي ظهر في العقد اللاحق، ولا هي عاصمة العصابات الجريمة المسلحة ببريطانيا التي عاش اسمها في مخيلة الناس مع نهاية القرن الماضي.
مانشستر ليست أيا من تلك الأوصاف، بل هي ذلك البرج الزجاجي اللامع في سبايننغ فيلد وهي حانات «الهيبيز» في الربع الشمالي، تلك الضواحي ذات الأشجار المورقة بمنطقة تشارلتون وديدزبري، وناطحات سحاب منطقة هلم، والشوارع المبنية من الطوب الأحمر بمنطقة موس سايد.
مانشستر مدينة يسكنها نحو 350.000 نسمة وسط عاصمة يبلغ تعدادها نحو 2.5 مليون نسمة، بات أهلها يتساءلون الآن ما إذا كانت هي فعلا المدينة الغريبة متعددة اللغات والألوان التي طالما آمنوا بها. فهي أصغر من لندن بالطبع، وبالتأكيد هي أقل غنى ارستقراطية وشهرة منها، لكنها ليست أقل ثقة واعتدادا بنفسها ولا بشهرتها العالمية.
وكما تصورها بعض رسوم الغرافيتي على الجدران القريبة من محطة قطارات «بيكاديلي»، ترى «مانشستر نفسها جنة الوثنيين وأصحاب المعاطف و(الهيبيز) والمحجبات واليهود، والعبرانيين المثقفين، وأيا كانت ميولك الجنسية»، فهي موطن للجميع.
كانت العقلية المنفتحة هي ما جلبت الليبيين إلى هنا في السابق بحثا عن جنة تحتضنهم، وبحسب هاشم بن غلبون، ليبي مقيم هنا منذ عام 1976 والذي استمر لعقود طويلة كأحد الرموز المنشقة التي اتخذت من مانشستر مقرا لها بعد الفرار من العقيد معمر القذافي: «يطلق الناس على مدينة مانشستر اسم عاصمة ليبيا الثانية».
عندما وصل غلبون هنا للمرة الأولى، بحسب غلبون: «لم يكن هنا سوى بضع مئات من أبناء جلدته»، مضيفا: «لو أنك ذهبت الآن للمستشفي بنهاية الطريق ستجد أطباء ليبيين ممن قدموا إلى هنا من ليبيا منذ 12 عاما وقضوا العقد الأخير في مانشستر»، «ولو أنك تناولت قدحا من بمقهى كوستا أو بمقهى نيرو، ستجد نادلا ليبيا في خدمتك. هناك أيضا الكثير من الليبيين يعملون بمطار مانشستر، وإن ذهبت إلى مكتب الهجرة، ستجد سيدة ليبية تعمل هناك أيضا».
منفذ العملية يعمل بمطعم لبناني يحمل اسم بيروت بمنطقة «كيرى ميل»، حيث لا توجد مطاعم أو حانات بالقرب من المكان ولا حتى محال ولا مراكز للجاليات هناك ولا أي علامة تدل على وجود أبناء ثقافات أجنبية.
يوجد الكثير من الليبيين هنا، لكننا لا نعيش بنفس المكان، شأن الجالية اليهودية»، وفق طارق عليش (18 سنة)، ليبي نشأ في مانشستر.
ويرى غلبون أن ما حديث يمكن تفسيره بالرجوع إلى ظروف وصول الليبيين إلى هنا. فالكثيرون جاءوا إلى مانشستر منشقين، مثلما الحال بالنسبة له، هربا من بطش القذافي.
أضاف: «فضل الليبيون هذه المنطقة لأنها أرخص من لندن، وإيقاع الحياة هنا لم يكن سريعا، لكنها كانت ترحب بالقادمين من جميع بقاع العالم»، لتصبح موطنا للنشاطات المناوئة للقذافي. وفي تلك المدينة، أسس غلبون وشقيقة محمد النقابة الدستورية الليبية، وهي مجموعة من النشطاء هدفها العمل على إزاحة القذافي وإعادة صياغة الدستوري الليبي.
وأفاد غلبون: «شملت المدينة خليطا من أنماط المنفيين الليبيين، فبالعض (كان أكثر تدينا) من البعض الآخر، وكان للبعض ميول قبلية، ولم نكن متحدين فيما بيننا»، مضيفا: «حتى أصحاب التفكير الواحد كانوا يخشون انضمام أي جدد إليهم خشية أن يندس عميل سري تابع لنظام القذافي»، ولذلك كنا نفضل أن نستمر متفرقين على أن نتحد ونزيد عددنا وينضم إلينا عميل يتسبب في فنائنا.
وقال عليليش، ليبي قدم إلى بريطانيا عام 2002، إنه بعد حدوث الفاجعة، تملك الليبيين إحساس بالخجل، «لأن أحدنا نفذ هذه الجريمة. ونحن نتفهم ما يشعر به البريطانيون. فهم يشعرون أنهم قدموا جميلا لنا، وكان الرد بجزاء سنمار».
* «نيويورك تايمز»