«الشرق الأوسط» في مهرجان كان (3): خلفيات العودة إلى «توين بيكس» لديفيد لينش

بعد 16 سنة على عرض آخر فيلم له في مهرجان كان، سنة 2001. يعود المخرج الأميركي ديفيد لينش إلى قصر المهرجانات مواكباً فيلمه الجديد «توين بيكس».
إنه ليس فيلماً جديداً بالكامل، هو فيلم جديد من حيث أن مادته المصوّرة جديدة أُنجزت في مطلع هذا العام، لكنه استمرار لمسلسل تلفزيوني قام لينش بإخراجه وبث على الشاشات التلفزيونية الأميركية في عامي 1990 و1991.
آنذاك، لاقى المسلسل التشويقي الذي لفّـه غموض الحكاية ودوافع شخصياتها كما الحال في معظم أفلام المخرج السينمائية، نجاحاً كبيراً. هذا لأنه لم يكن مألوفاً أن يتوجه مخرجون يحملون على أكتافهم عبء الفن ومعروفون بانتمائهم إلى السينما المؤلّـفة فنياً، للعمل في التلفزيون، ولا ديفيد لينش عمد إلى ذلك إلا من بعد أن تأكد أنه لديه الكلمة الأولى والأخيرة في هذا المسلسل الذي أدى بطولته عدد كبير من الممثلين (نحو مائة ممثل رئيسي ومساند) من بينهم كاميل ماكلاغلن في الدور الأول ودانا أشبروك وجيمس مارشال والراحل حديثاً مايكل باركس.
كان يمكن للمسلسل أن يستمر لموسم ثالث لكن البعض يرى أن حرب الخليج الأولى، سنة 1991، دفعت الناس بعيداً عن متابعة جنوحه الخيالي. هناك فريق آخر يجد أن السبب يكمن في تفرعات الحبكة الرئيسة إذ تم الخروج منها بحبكات مساندة ثم من تلك الحبكات بأخرى مثل شجرة نمت في كل اتجاه.
* التأثير الكبير
لكن المسلسل كان يحمل في كيانه جانبين فقط: الأحداث التي تقع في داخله، وتلك التي تقع بسبب وجوده. الأول كناية عن حكايات متشعبة من محور أساسي عماده اكتشاف امرأة مقتولة في بلدة صغيرة اسمها توين بيكس. الجانب الثاني هو كيف كوّن لينش ومحطة ABC التي عرضته عادة غير مألوفة لدى ملايين المشاهدين تقترح لوناً جديداً من المسلسلات والبرامج. لون لا يعرف البدايات التمهيدية ولا النهايات السعيدة. لا يعترف بتوزيع العواطف ولا يخلو منها في الوقت ذاته.
تعمد لينش آنذاك البحث عميقاً في كيانات تلك الشخصيات حيث كل شيء يحمل تفسيراً سرعان ما يليه تفسير آخر. كما لم يكن إخفاءه هوية القاتل الدفع الوحيد للمتابعة بل - عملياً - كل ما كان يدور بما في ذلك اعتقاد ذلك التحري الآتي من المدينة (الجيد ماكلاغلن) بأنه يعيش حلماً يرى منه ما يتبلور في الحقيقة، لكنه سطوة الحلم تكاد توهمنا (أو ربما فعلت لبعضنا) أن الحكاية كلها هي حلم داخل حلم.
من بعده، الكثير من المسلسلات البوليسية استعارت من عالمه. هذا يشمل «ملفات X» و«ذ سوبرانوز» و«انهيار كلي» (Breaking Bad). ليس هذا فقط، بل أخذت المسلسلات التشويقية عموماً منهجاً مختلفاً عن تلك التي سادت من قبل خلال الخمسينات وما بعد. يكفي أن يقارن المشاهد بين «توايلايت زون»، وهو مسلسل خيالي علمي من الستينات وبين «ملفات إكس»، وبين مسلسلات «مانيكس» و«ملفات روكفورد» و«بيري ماسون» البوليسية - التشويقية وبين «سوبرانوز» أو NCIS. ثم يمكن المقارنة بينها جميعاً وبين تلك الشحنة من الشغل على الدراما وأسلوب السرد في «توين بيكس»
* ما وراء العودة
عودة لينش إلى «كان» مشفوعة بأننا جميعاً نريد مشاهدة عمل له من بعد طول غياب. سابقاً ما عرض لينش خمسة من أفلامه في المهرجان الفرنسي بدأت بـ«مخمل أزرق» (1986) وشملت «متهور في القلب» (ًWild At Heart) سنة 1990 ونسخة سينمائية مسحوبة من مسلسل «توين بيكس» عنوانها «أيها النار امشي معي» (1992) و«طريق مفقود» (Lost Highway) سنة 1999 و«قصة سترايت» (1999) وصولا إلى «مولهولاند درايف» (2001).
الأمر المذهل هنا هو أن المشهد الختامي من «توين بيكس» الذي بٌـثّ في شهر سبتمبر (أيلول) 1991، عبارة تطلقا لورا بالمر (أو شبحها بالأحرى وأدتها سابقاً كما الآن شيريل لي) توجهها إلى التحري كوبر (مكلاغلن) إذ تقول له: «سأراك ثانية بعد 25 سنة». بعد خمس وعشرين سنة بدأ ديفيد لينش التصوير. طبعاً لم يكن لينش (71 سنة) واثقا من أنه سيبقى على قيد الحياة لكي ينجز تكملة يصوّر فيها عودة بالمر أو أن شيريل لي (50 سنة) ستواصل العمل في التمثيل أو أن مكلاغلن (58) لا يزال نشطاً أو حتى راغباً في العودة إلى تلك الحلقات.
لكن لينش جمع العدة بأسرها فيما يبدو سابقة من نوعها حيث يتم إنجاز فيلم بعد 25 سنة تعود فيه بطلته التي تنبأت بأنها ستعود في الفترة ذاتها.
لكن أفلام وأعمال لينش (لديه 51 عملاً بما فيها أفلام تجريبية قصيرة) دائماً ما حملت ما هو مذهل أو غريب في ثناياها وفرضته على هواة السينما، وأحياناً مشاهديها العاديين بنجاح. ذلك بدأ منذ فيلمه الساحر رغم ما فيه من دكانة وخشية: «إيرازورهَـد» (Erasorhead) سنة 1977، كان حول شاب اسمه هنري (جاك نانس الذي توفي بعد 30 فيلم قبل 11 سنة) يعيش في بيئة صناعية ملوّثة ويحب فتاة (شارلوت ستيوارت) التي تعيش مع أمها المتذمّـرة ولديها طفل مشوّه بفعل التلوّث لا يكف عن الصراخ. ليس فيلماً للعموم، لكنه عمل ناضج من مخرج لم يكن أحد سمع به من قبل.
بعد ثلاث سنوات وقف وراء الكاميرا في فيلم أكبر حجماً (ويدور حول شخصية مشوهة) نال قدراً أعلى من النجاح وهو «الرجل الفيل» ومنه قام سنة 1984 بتنفيذ فيلم هوليوودي عنوانه «كثبان» (Dune) بلغت ميزانيته 40 مليون دولار هي أعلى ميزانية توفرت له حتى ذلك الحين وبعده.
‫على إثره عاد لينش إلى تلك الحكايات الخاصّـة وإن بقدر أقل من السوداوية فأنجز على التوالي «مخمل أزرق» و«متهور في القلب» و«الطريق المفقود» و«مولهولاند درايف» وفي جميعها لم يتوقف عن حياكة عمله بنسيج من الغموض والإيحاءات. أفلام محشوة بالأسرار كما شخصياتها. الفيلم الوحيد البسيط الذي اختلف عنها من دون أن يهبط مستواه كان «حكاية سترايت» (اسم الشخصية لكن سترايت Straight تعني «مباشر» ما يجعل للعنوان معنى مزدوجاً). حكاية رجل عجوز (رتشارد فارنسوورث) يقود «التراكتور» الزراعي الصغير عبر ولايتين من ولايات الوسط الأميركي ليزور شقيقه المسن (هاري دين ستانتون) في بيته الريفي البعيد. ‬
إذا ما كان لينش ترك تأثيراً على سواه (وقد فعل) فإن بعض سماته المتمثلة في شخصيات ترتدي أقنعة لا نراها وتبدي لاحقاً قدراً من إزدواجيتها وانفصامها هو حياكة متأثرة بفيلم «فرتيغو» لألفرد هيتشكوك (1958) وطريقة المعلّـم الكبير في تقديم شخصيات تكتشف مداراتها بالتدريج.