كتاب مغاربة يقاربون التباسات «نسيان» الشعراء الرواد وسياقات «سطوة» الرواية

* بنعيسى بوحمالة: إعادة انتشار!
يرى الناقد بنعيسى بوحمالة «أننا ونحن نتكلم عمّا يمكن حسبانه نسياناً يطال حيّزاً زمنيّا أو مدوّنة أسماء في أدب ما، أو في ثقافة ما بوجه عامّ، يلزمنا، فيما أرى، عدم مطارحته في محموله الحرفي أو الحذافيري، أعني ما قد يفيد غسيلاً ذهنيّاً تمّحى بموجبه عناصر ذاكريّة لتخلفها معطيات لاحقة بديلة. لعلّ الأدقّ هو نعت هذه الآليّة بالتّناسي بحيث لا يخرج الأمر، في هذا المساق، عن نطاق الصّمت الرمزي الذي تمارسه مرحلة إبداعية ما بإزاء سابقتها، وذلك بأثر من انكبابها على تأسيس راهنها التّصوري والكتابي والذي إما يتمّ تأسيسه تحت شعار القطيعة أو قتل الأب في مرمى تشييد إبدال شعري جذري في أدائه وجماليّته ورؤياه. بهذا المعنى فليس فقطّ رعيل الريادة، الذي شاد الصّيغة الجديدة للجملة الشعرية العربية ناقلا إيّاها من أفق البيت الشعري إلى أفق السّطر الشعري. من معماريّة الأرابيسك الخانقة إلى نوع من المرونة والانفتاح وفقاً لدواعي التعبير والدلالة والتّخييل، من مثال نازك الملائكة وبدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي وبلند الحيدري وشاذل طاقة، الخماسي العراقي الذي كان سبّاقاً، تاريخياً، إلى قصيدة التّفعيلة، وكذا الأسماء العربية اللاّحقة عليها بسنوات قليلة، من مثال صلاح عبد الصبور وأدونيس وخليل حاوي ومحمد الفيتوري ومعين بسيسو، هو من طاله النسيان، بالمفهوم المومأ إليه، وإنما كذلك سائر الأجيال الشعرية التي تلته.. جيل الستينات وجيل السبعينات وكذا جيل الثمانينات. فالمسألة بقدر ما هي من التعقيد بمكان، سيكولوجياً وتاريخياً وثقافياً، هي أيضاً جدّ نسبيّة وعلى درجة كبيرة من الالتباس. ففي مقابل النسيان، أو التّغييب الإعلامي الماحق، فهؤلاء الرّواد هم من يحضرون، وعلى نحو مهيمن، على المستوى الأكاديمي، في مقرّرات وأطاريح وندوات الجامعات العربية من المحيط إلى الخليج. بل ولعلّ نصيب الأسد هو ما تحوز عليه متونهم ونصوصهم في أقسام الدراسات العربية بالجامعات الأوربية والأميركية والآسيوية، ويكفي أن نلمح إلى عشرات الأطروحات التي حظي بها كل من بدر شاكر السياب وعبد الوهاب البياتي، على سبيل المثال، في جامعات أوروبا الشرقية في حين هناك جهل مطبق، أو يكاد، من لدن هذه الجامعات، ومعها الأوساط الاستشراقية، للموجات الشعرية اللّصيقة بشعريّة الريّادة فأحرى الموجات النّاشئة والآيلة إلى نهاية القرن العشرين ومطالع الألفيّة الثالثة. وما قلناه عن الحقل الأكاديمي يمكن قوله عن النّشاط النقدي العربي، بمواصفاته العلميّة والمعياريّة الرّصينة لا في منحاه الانطباعي، التّبسيطي، الذي تحفل به المتابعات الإعلامية السريعة لأسماء وتجارب فتيّة، إذ إن هذا النّشاط انصبّ، ولمّا يزل، على الأسماء والخبرات الشعرية المكرّسة إلاّ من مساحات ضيّقة تنتزعها، لماماً، أعمال مقنعة أسفرت عنها الفترات اللاحقة. ليس الأمر، إذن، قصور أو ما شابه، من النقد حيال شعراء الرّيادة، التي لا يمكن التهوين من قيمة دورها التّأسيسي الفارق بقدر ما هو تمفصل طبيعي، إن شئنا، في جدليّة الإنتاج والتّلقي الشعريّين يتّخذ المشهد الشعري، بمقتضاه، شكل إعادة انتشار تنزوي معها، على ما يلوح لنا ظاهريّا، المتون والنصوص الكبرى إلى الزّاوية بينما تحتلّ صدارته، لعامل القرب والرّاهنية، أسماء وتجارب مستجدّة».
وعن علاقة هذا الأمر بسطوة الرواية واستئثارها بالعناية والتّداول، يذهب بوحمالة إلى أنه «يجدر بنا أن ندرك أن هذا الملمح يكاد يكون عالميّا، والسّبب هو أن البشرية انتقلت منذ ولادة الرأسمالية والحداثة والفرديّة والمدينة، إلى مجرى حياتي وعلائقي سمته الانتثار والتّشظي والسّهولة مما يستجيب له النثر أو السرد كلغة خطّية، متتالية، سهلة المأخذ في المجمل (عكس لغة الشعر المتشابكة والمكثّفة، بله المتراقصة بتعبير فريدريش نيتشه). وإذا ما رمنا التحديد فما من شك في أن اندراج العالم العربي في مدار العولمة وقيمها الاستهلاكية والتّرفيهية لهو ما يفسّر الزخم الإعلامي الذي يغطي جنس الرواية وأيضاً سياسة الجوائز والتحفيزات مما يسيّد فكرة تشييئه وجعله لا يفرق عن أيّما منتج، كالتّلفاز والحاسوب والهاتف الذّكي وألعاب الفيديو، يكتفى غالباً، بجانبه المسلّي في حين يهمل جانبه التّثقيفي، وهو ما لا يتيحه النّص الشعري الذي يستوجب خصالاً قرائيّة مضنيّة من قبيل الأناة والاستبطان والتّأويل والمعاودة».
* محسن أخريف: آليات السوق!
من جهته، يرى الشاعر والروائي محسن أخريف أن خفوت حضور الأسماء الشعرية المهمة، التي صنعت جزءاً من تاريخ الشعرية العربية، بما أنتجته من نصوص شعرية، يعود إلى «غياب تقاليد ثقافية وأدبية سنوية للاحتفاء واسترجاع ذكرى هؤلاء، من قبيل الاحتفاء السنوي بذكرى الوفاة وذكرى الميلاد. وكذا بعشرية الميلاد أو الوفاة، إلخ، مثلما يحدث في ثقافات أخرى أوروبية وأميركية لاتينية. فغياب هذه التقاليد الثقافية، يجعل تذكر هذه الأسماء منحصراً في الدرسين المدرسي بالثانوي التأهيلي، خصوصاً، وبالدرس الجامعي، وذلك عن طريق تدريس نماذج فقط أو المشهور فقط من قصائد كلّ واحد من هؤلاء، دون استبصار واستحضار التاريخ الشخصي والبيئي الاجتماعي لكل واحد، والذي من شأنه أن يرفع هذا التذكر إلى مستوى الاحتفاء والاستحضار الإنساني، مما قد يجعل دائرة التذكر تتسع لتصل إلى مختلف الشرائح الاجتماعية والثقافية والتعليمية. إذن فحتى هذا الاستحضار النقدي المدرسي والجامعي يكون مخلاً بواجب الاحتفاء والاحترام والتقدير لهذه القامات الإبداعية المؤسٍّسَة، بل ومجحفاً وظالماً حين يتم اختصار منجزها في نماذج شعرية».
يرى أخريف أنه «لا يمكن لأي مهتم أو باحث أو قارئ للشعر العربي أن يمر مرور الزائر المتعجل على تجارب هؤلاء، باعتبارها تجارب تأسيسية لا يمكن فهم ما بعدها، بل وتذوقه، إلا بالنظر إليها والعودة إليها مدارسة وقراءة وتداولاً جماعياً وجمعوياً».
ورغم أن «سياقات تداول الأدب حاضراً قد تأثرت كثيراً بآليات الترويج والتسويق التي تلهث وراء الآني والجديد والوليد قبل لحظات، والتي تدخل كلها تحت شعار، «يحدث الآن»، «فائز في دورة هذه السنة»، يرى أخريف أن «وعياً نقدياً قرائياً لدى فئات قليلة بدأ يعي بخطورة هذه الظاهرة التي تجعل كثير التجارب والأسماء والنصوص المؤسسة تنزوي في الظل، في ظل ضوء ساطع ومؤقت ومتحرك على الدوام، يسلط على أعمال أنجزت في سنة ما، ولن تذكر في السنة الموالية؛ إنها الذاكرة القصيرة للأدب التي تريد أن تفرضها آليات السوق، والتي من شأنها أن تلغي تجارب مهمة إن لم تضطلع المؤسسات العلمية المحكمة بدورها في تثمين منجز هؤلاء وتوسيع دائرة تداوله».
ويشدد أخريف على أن «الموجة العالية للرواية الآن (وللسرد عموماً)، وما يصاحبها من تسويق جيّد لعبت الجوائز دوراً أساسياً في خلقه»، قد «ساهمت إلى حدّ كبير في حجب الشعر والشعراء، القدماء منهم والحديثين، الموتى منهم والأحياء، عن دائرة الضوء والتلقي الواسع».