مدرسة الإدارة... مصنع زعماء وأعلام الدولة الفرنسية

تشكل المدرسة الوطنية للإدارة «قمة القمم» في باب الدراسات العليا رفيعة المستوى في فرنسا. إن مجرد التوصل إلى اجتياز مسابقة الدخول إلى هذا الصرح التعليمي الذي يُرمز له بالحروف الأولى ENA، يعدّ مدعاة للفخر، ونيل شهادتها مرادفاً للفوز بمنصب مرموق في أركان الدولة والمؤسسات الحكومية وحتى الخاصة، بدرجة مدير عام... فما فوق.
وبحسب السجلات والأرقام، فإن أي مؤسسة تربوية في فرنسا، وربما في أنحاء العالم، لا يمكنها أن تتباهى بتهيئة عدد معتبر من كبار مسؤولي الدولة بقدر ما تزهو به المدرسة الوطنية للإدارة. وعلى الرغم من حداثة سنها نسبياً، حيث تأسست في عام 1945، فإنها «أنجبت» أربعة رؤساء: فاليري جيسكار ديستان (امتدت ولايته بين عامي 1974 و1981)، وجاك شيراك (1995 إلى 2007)، والرئيس السابق فرنسوا هولاند (منذ ربيع 2012 إلى يوم أمس) والرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون الذي تسلم الحكم رسميا يوم أمس.
كما تخرج منها سبعة رؤساء للحكومة الفرنسية: جاك شيراك ولوران فابيوس وميشال روكار وإدوار بالادور وألان جوبيه وليونيل جوسبان ودومينيك دو فيلبان. أما عن الآخرين، فحدِّث ولا حرج. أي أنك تحتاج لآلة حاسبة لتعداد من درس فيها من الوزراء والمديرين وباقي المسؤولين من كبار موظفي الدولة ورؤوس أهم مؤسساتها الإدارية والصناعية والثقافية والعلمية والجامعية، عدا عن البرلمانيين وأقطاب السلطات التشريعية والقضائية والإقليمية والمحلية، وممثلي الدولة في المحافظات، ومستشاري الرئاسة المقربين، وأعضاء السلك الدبلوماسي والهيئات الدولية. إنهم بالمئات، ناهيك عن الخريجين ممن قدِّر لهم تسنم زمام أمور مصارف شهيرة، بمن فيهم محافظو البنك المركزي، أو ترؤس شركات كبرى من القطاعين الخاص والمختلط.
وقد يتساءل القارئ، لماذا يطلقون على هذا المعهد تسمية «مدرسة» في حين أنه يندرج في إطار الدراسات العليا، بل العليا جداً؟ والجواب هو أن كلمة مدرسة école في النظام التعليمي الفرنسي تشير إلى المدرسة الابتدائية الاعتيادية، مثلما هي الحال عندنا، لكن أيضاً إلى المدارس العليا écoles supérieures.
كما يتطلب الدخول إليها الحصول مسبقاً على شهادة جامعية، من جهة، ومن جهة أخرى خوض امتحانات قبول عسيرة، يسمونها «مسابقات»، ولا يكفي النجاح فيها إنما ينبغي إحراز أعلى العلامات لكي يكون الطالب ضمن العدد القليل، المحدد سلفاً، من المتسابقين المقبولين.
باختصار، تعدّ تلك المدارس العليا، بما فيها المدرسة الوطنية للإدارة، مؤسسات نخبوية بجدارة. وإذ تشكل تلك النزعة «التصفوية» المفرطة أولى نقاط قوتها، فإنها أيضاً مما يُعاب عليها. إذ يشدد مفكرون وباحثون اجتماعيون وتربويون كثيرون على أن تلك النخبوية، في نهاية المطاف، تفضي إلى تكريس امتيازات تتمتع بها فئات معينة، وتغلّب أفكاراً نمطية تتسم بالانكماش ولا تتقبل التجديد والانفتاح. كما يشيرون إلى أن الإحصاءات، منذ عقود، تبين بشكل متكرر أن طلبة تلك المدارس العليا ينتمون، في غالبيتهم العظمى، إلى طبقات ثرية وعائلات ميسورة، وأن الأبواب غالباً ما توصد في وجه أبناء العمال والمزارعين والكسبة والناس البسطاء، عدا عن بعض الاستثناءات.
ومن المفارقات أن موريس توريز، أبرز مؤسسي هذه المدرسة، كان وقتها الأمين العام للحزب الشيوعي الفرنسي. فغداة الحرب العالمية الثانية، في عام 1945، خصص الجنرال شارل ديغول بضعة مناصب مهمة لأعضاء الحزب مكافأة لدورهم القوي في المقاومة ضد الاحتلال النازي. وبما أن ديغول وجد الإدارات الحكومية في وضع مزرٍ، جراء سنوات الحرب والاحتلال، عمد إلى تكليف توريز بإنشاء مؤسسة تعليمية رفيعة المستوى، تعنى بتهيئة كبار موظفي الدولة لمواكبة إعادة الإعمار ومواجهة التحديات الجديدة. وذلك ما أتمّه المسؤول الشيوعي على أحسن وجه، تحت إشراف ميشال دوبريه، رئيس مجلس الوزراء. وتمّ الافتتاح في ذلك العام نفسه في باريس، حيث استقرت المؤسسة التربوية، إلى أن تقرر في عام 1991 نقل مقرها الرئيسي إلى ستراسبرغ (عاصمة مقاطعة الألزاس، شرقي فرنسا)، مع الإبقاء على الفرع الباريسي الذي تخصص في تنظيم عدد من الدورات الإدارية القصيرة.
في الفترة الأخيرة، جرى تحديد عدد المقبولين سنوياً بنحو 90 طالباً فرنسياً و30 أجنبياً، وهذا فيما يخص الدراسة التقليدية التامة الممتدة على سنتين كاملتين. لكن المدرسة، بمبناها الرئيسي في سترسبرغ وفرعها الباريسي، تستقبل سنوياً عدداً أكبر من ذلك بكثير من متدربين يسجلون في دورات متخصصة، أكثرهم من فرنسا، لكن أيضاً من بلدان أخرى في نطاق اتفاقيات ثقافية. ومن المصادفات أن آخر بلدين أبرما اتفاقيات ثقافية معها، هما بلدان بغالبية مسلمة: إندونيسيا وكوسوفو. وخلال عام 2015، مثلاً، جلس على مقاعد المدرسة المرموقة ما مجموعه 1630 متدرباً، عدا عن 120 طالباً دائمياً.
وجرت العادة أن تمنح المدرسة الوطنية للإدارة تسمية لكل دفعة (أو وجبة)، تيمناً بشخصية من شخصيات التاريخ في حقول الأدب أو العلم أو السياسة أو الفن. وهي رموز من التراث الفرنسي في العموم. لكن يحدث، أحياناً، أن تطلق أسماء أجنبية على بعض الدفعات. فمثلاً، إلى جانب دفعات جان جاك روسو وماري كوري وأميل زولا وفكتور هوغو ودني ديدرو وأندريه مالرو، وغيرهم من ألمع الشخصيات الفرنسية، هناك وجبات حملت أسماء ليوبولد سيدار سنغور (الرئيس السنغالي الراحل)، وويلي برانت (المستشار الألماني الراحل)، وونستون تشرشل (رئيس وزراء بريطانيا الراحل)، ونيلسون مانديلا (الزعيم الجنوب أفريقي الراحل)، وكوبرنيكوس (العالم البولندي)، وليوناردو دافنشي (الفنان الإيطالي). ويحق للعرب أن يفخروا بإطلاق اسم الفيلسوف ابن رشد على دفعة 1998 - 2000. رغم أنه الاسم العربي الوحيد في القائمة. ومن أطرف الأسماء، دفعة «سيرانو دو بيرجراك»، الشخصية الخيالية التي استنبطها الكاتب أدمون روستان. أو أسماء أخرى غير ذات علاقة بأشخاص حقيقيين إنما بمفاهيم عامة، منها مثلاً، دفعات «الجمهورية» و«حقوق الإنسان» و«48» (الوجبة 1948 - 1950، ببساطة) و«حرية، مساواة، إخاء»، شعار الجمهورية الفرنسية.
ومن بين كل الدفعات، تحظى دفعة فولتير التي تخرجت عام 1980، بشهرة استثنائية. والسبب أنها تضم رئيساً للجمهورية هو فرنسوا هولاند، و«شبه رئيسة» هي سيغولين روايال، رفيقته السابقة وأم أولادهما، وأيضاً رئيس وزراء أسبق هو دومينيك دو فيلبان. ويتندرون بالقول إن أحد طلاب الدفعة اقترح تسميتها «حفرة سوق الخضار»، تهكماً من ورشة عمل عملاقة، دامت آنذاك سنوات في قلب باريس وأحدثت حفرة كبيرة إثر هدم سوق قديمة لتشييد مركز تجاري حديث محلها. والطالب المذكور ليس سوى هنري دو كاستري، رئيس مجموعة شركات التأمين العملاقة «أكسا».