إندونيسيا تسعى لتصدير خطاب معتدل يتصدى لفكر {داعش} و{القاعدة}

تعد اللوحة الفاخرة، التي يبلغ طولها ست أقدام، رمزا قويا للتاريخ الإندونيسي: الأب المؤسس للبلاد، سوكارنو، وهو يهدهد أحد المتمردين الشعبيين حافي القدمين الذي قتلته قوات الاستعمار الهولندية وسط حقول الأرز والبراكين المشتعلة في جزيرة جاوة أواخر الأربعينات من القرن الماضي.
ويلفت الانتباه في اللوحة القميص الملطخ بالدماء للمقاتل - إلى جانب القلادة المتدلية من رقبته: الصليب المسيحي، الذي يرتديه شهيد حرب الاستقلال في تلك الدولة ذات أكبر أغلبية من السكان المسلمين في العالم.
صارت اللوحة التي خرجت إلى الوجود في عام 2006 رمزا لمبادرة عالمية من جناح الشباب الإندونيسي في منظمة نهضة العلماء، وهي أكبر منظمة جماهيرية في العالم، والتي تسعى إلى إعادة تفسير الشريعة التي يعود تاريخها إلى العصور الوسطى بعيدا عن الفكر المنغلق والتشدد، وبأساليب تتفق مع معايير القرن الحادي والعشرين.
ومن بين أمور أخرى، تدعو تلك المنظمة إلى إعادة النظر فيها عناصر من الشريعة التي تحدد العلاقات بين المسلمين وغير المسلمين، وهيكل الحكومة في ظل الشريعة، وغير ذلك من الأهداف السليمة، وأعمال الحرب.
ويقول قادة جناح الشباب في منظمة نهضة العلماء، المعروفون باسم «أنسور»، إن عناصر الشريعة، التي يعتبرها المسلمون من القوانين الإلهية، خضعت لكثير من التلاعب على أيدي جماعات مثل تنظيم داعش الإرهابي وتنظيم «القاعدة» من أجل تبرير الهجمات الإرهابية في مختلف أنحاء العالم، وتم طرحها على المجال العام بغية حشد وتجنيد المقاتلين للقتال في حروب منطقة الشرق الأوسط وفي غيرها من الأماكن، وتعمدت الحركات الأخرى تشويه صورتها، والتي تسعى إلى تحويل الإسلام إلى سلاح سياسي.
يقول ياقوت تشوليل قوماس، رئيس لجنة «أنسور» في المنظمة خلال مقابلة شخصية أجريت معه إن «المنظور الكلاسيكي تهيمن عليه آراء تعتبر غير المسلمين من معسكر الأعداء، أو على أحسن تقدير، من الشخصيات المشبوهة التي لا تستحق الثقة».
وأضاف السيد ياقوت يقول إن «الفقه، أو الكيان المسؤول عن تطبيقات الشريعة في الحياة اليومية، يرفض وبكل وضوح احتمال تمتع غير المسلمين بالحقوق المتساوية مع المسلمين في المجال العام، بما في ذلك حق شغل بعض المناصب المعينة. ولا يزال هذا المنظور الكلاسيكي يحتل قوة مؤثرة للغاية في أعين أغلب المسلمين، وهو يعتبر الدين الأصولي».
وتقول بعض تفسيرات القانون الإسلامي الكلاسيكي إنه على المسلمين واجب شرعي بالسعي إلى محاربة المسيحيين واليهود وأتباع الديانة الزرادشتية حتى اعتناقهم للدين الإسلامي أو خضوعهم إلى حكمه ودفع الجزية.
ويعتبر تنظيم داعش الإرهابي من أكثر الجماعات إيمانا واعتمادا لهذه التفسيرات وبكل حماس.
كذلك، تمنع بعض تفسيرات القانون الإسلامي الكلاسيكي، وبعض الآيات من القرآن الكريم، على المسلمين وجود زعماء سياسيين من غير المسلمين. وكان الفقه الإسلامي في العصور الوسطى، والذي لا يزال يعتبر صالحا من منظور البعض، يُستخدم في تبرير العبودية والرق وإعدام الأسرى والسجناء.
وبعض من الدول التي يغلب عليها الطابع المتشدد كان تتحرك على طريق إعادة تفسير أحكام الشريعة الإسلامية داخل حدودها الوطنية، وأرسلت بعض هذه الدول الوفود إلى المؤتمر الدولي للعلماء، والزعماء الدينيين، ورجال الدين، والمنعقد في المغرب في عام 2016 بشأن حماية الحقوق القانونية للأقليات الدينية التي تعيش بينهم. غير أن المبادرة الإندونيسية تهدف، برغم ذلك، إلى التقارب المباشر مع مختلف الحكومات حول العالم، ذات الأغلبية المسلمة وغير ذلك، فضلا عن منظمة الأمم المتحدة، بغية التوصل إلى إجماع عالمي للآراء حول إصلاح ما يُعتبر التفسيرات العتيقة للإسلام.
يقول السيد ياقوت إن «التحدي الذي نواجهه غير مقتصر على الآراء الدينية التي نشأت عبر العمليات الفكرية التي تمت قبل ألف سنة مضت. ولكننا نواجه أيضا السلطات الدينية والسياسية التي تتشابك مؤسساتها وترتبط ارتباطا وثيقا مع هذه الآراء العتيقة، وبالتالي فهي مستمرة في غرس وترسيخ مثل هذه التعاليم بين كل جيل جديد ينشأ من المسلمين». وعلى الرغم من ذلك، يلاحظ بعض العلماء والخبراء المسلمين أنه نظرا لوجود كثير من التفسيرات المتباينة للشريعة الإسلامية وللقرآن الكريم، فسوف يكون من الصعب الوصول إلى توافق دولي في الآراء حول مثل تلك الإصلاحات.
يقول رود بيترز، الأستاذ الفخري للقانون الإسلامي في جامعة أمستردام: «هناك مكتبة كاملة خاصة بتفسيرات متطرفة - تتعلق بوجوب مقاتلة المسلمين لغير المسلمين من أجل فتح المزيد من الأراضي، على سبيل المثال، ولكن منذ القرن التاسع عشر، كانت هناك تفسيرات يؤمن بها كثير من المسلمين وتقضي بالدفاع فقط ضد الهجمات من قبل الدول غير المسلمة على بلاد الإسلام».
ومن المشاكل الأخرى في هذا المقام، كما يقول العلماء والخبراء، تتعلق بالاختلافات الثقافية بين البلدان ذات الأغلبية المسلمة حيال تفسيرات الشريعة الإسلامية. وإندونيسيا الواقعة في جنوب شرقي آسيا، على سبيل المثال، تمارس أحد أكثر الأنماط تحررا من الإسلام في العالم، في ظل وجود حكومة ودستور علماني، هناك حقوق كاملة للمسيحيين والهندوس والبوذيين وغيرهم من الأقليات الدينية التي تعيش في إندونيسيا.
يقول عبد الرحمن الحاج، بروفسور العلوم الاجتماعية في جامعة أنقرة في تركيا: «إذا ما أردنا وجود تفسير عالمي واحد للشريعة، فعلينا معالجة الاختلافات الثقافية، وإيجاد سلطة مركزية دولية. وهذا من المحال تماما». وأضاف أنه بالنسبة للنوايا الطيبة التي أعرب عنها الزعماء الإسلاميون في إندونيسيا، إلا أن التغيرات الجوهرية لن تشهد النجاح ما لم تظهر من قلب العالم العربي.
وتعتبر مبادرة لجنة «أنسور» كخطوة أخرى من جانب الشباب المسلم في إندونيسيا، فضلا عن العلماء المسلمين وغير ذلك من المنظمات الإسلامية في أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط، لمواجهة التفسيرات المتطرفة، والمحافظة، والرجعية من الإسلام.
يقول رافائيل ليفيفر، عالم الإسلام السياسي غير المقيم في مركز كارنيغي لـ«الشرق الأوسط» إن «الانطباع العام الذي نشعر به في بعض الأحيان في الغرب حول الإسلام هو الوجه الراديكالي، في حين أن الاتجاه المساوي، إن لم يكن الأكثر أهمية، يكمن في المحاولات المستمرة من جانب علماء المسلمين في إعادة تعريف الشريعة وما تقوله حول المجتمع والسياسة بطرق تعتبر أكثر توافقا مع الحياة الحديثة».
*خدمة «نيويورك تايمز»