جدل حول تعليم العربية في فرنسا منذ الصغر

قررت وزيرة التربية الوطنية الفرنسية، نجاة فالو بلقاسم، إدراج تعليم اللغة العربية منذ الصف التمهيدي في المدارس الفرنسية، لمن يرغب أهاليهم بتسجيلهم في تلك الدروس. وأثار خيار الوزيرة امتعاض بعض الأوساط، حتى ضمن الحزب الاشتراكي المنتمية إليه، بينما عارضه آخرون علناً. ومن بين المعارضين، فتيحة بوجهلات، الأمينة العامة لشؤون التربية في حزب «إم آر سي».
إقرار تدريس اللغة العربية للتلاميذ الصغار من أصول عربية في فرنسا، والمولودين غالبيتهم على أراضيها، هل يشكل أمراً إيجابياً بالنسبة إليهم، أم يسهم في تعميق الهوة الاجتماعية ومفاقمة العزل والتقوقع؟
تميل الباحثة التربوية فتيحة بوجهلات إلى تبني الفرضية الأخيرة، رغم كونها من أصول عربية مغاربية، مثل وزيرة التربية نفسها، مغربية الأصل، نجاة فالو بلقاسم. ويندرج موقف بوجهلات في إطار معارضتها بشكل عام لتوجه الوزيرة فالو بلقاسم نحو تشجيع تعليم اللغات الأجنبية الحية للصغار جداً، منذ الصف التمهيدي، وليس فقط العربية. فتوصيات الوزيرة تخص أيضاً اللغات الإنجليزية والألمانية والإيطالية والإسبانية والبرتغالية والتركية، وغيرها.
وطبعاً، يظل التسجيل في تلك الدروس اختيارياً، يستجيب لرغبات أهالي التلامذة الصغار، كل على حدة، بينما يصبح إجبارياً في فترة لاحقة، في صفوف متقدمة في نهاية المرحلة الابتدائية. آنذاك، يتعين على كل تلميذ اختيار لغة أجنبية حية ومتابعتها وخوض امتحانات فيها كباقي المواد.
أما تلقين لغات حية منذ أول سنة دراسية من المرحلة الابتدائية، أي الصف التمهيدي، فهذا توجه جديد قديم، مثلما سنرى، في تاريخ التربية الوطنية في فرنسا، يُسجل ضمن إنجازات الوزيرة نجاة فالو بلقاسم. وهو التوجه نفسه الذي تعترض عليه فتيحة بوجهلات، وتشكك في سِداده وفاعليته. لكنها، في الوقت نفسه، تؤكد أنها لا تشك في حسن نية الوزيرة «سوى أن بعض خياراتها تتسم بالخطأ وتفتقر إلى دراسات وافية وتفكير عميق».
وتعتلي بوجهلات منصب الأمينة العامة لحزب «الحركة الجمهورية والمواطنية» لشؤون التربية والتعليم. وهو ليس من أحزاب اليمين المتطرف العنصرية المتشنجة، إنما تيار سياسي «يساري ديغولي»، بحسب تعريفه لنفسه. ويضم أمينين عامين آخرين من أصول عربية ومغاربية.
وتقول إن اللغة «ليست وسيلة تخاطب وتواصل فحسب، وإنما تحمل مغزى سياسيا، وهي أداة للتعبير عن التمسك بهوية عِرقية»، مضيفة أن من الأفضل تعويد الصغار على إتقان لغة بلدهم الحالي، ليس لاعتبارات لغوية ومعرفية وحسب، وإنما أيضاً بغية تذويب الفوارق ومكافحة التكتل على أسس عِرقية أو دينية أو قومية، ما يسهم في مضاعفة الشرخ الاجتماعي والتعصب والتحزب».
وعن تدريس اللغة العربية، تذكر بوجهلات بأن «الجالية التي تتوجه تلك الدروس إلى أطفالها تعاني أصلاً الكثير من مظاهر التمييز والعزل والنظر إليها بعين الريبة، فكيف إذا ما تمّ تعويد الأطفال، منذ نعومة أظافرهم، على تقبل تلك العزلة، والتعايش معها وعدّها أمراً طبيعياً؟». وتتساءل أيضاً: «فأي طفل في الصف التمهيدي سيختار والداه تسجيله في دروس العربية أو التركية؟ ليس إلا أولاد المهاجرين العرب أو الأتراك، أو أحفادهم».
هكذا، فإن «الوزيرة تشجع، من دون قصد، التقوقع والانكماش والانعزال لجاليات هي أصلاً تواجه صعوبة الاندماج؛ جراء ميلها إلى التكتل فيما بين أفرادها، ما يرفع ريبة باقي شرائح المجتمع الفرنسي تجاهها، ويؤمن تبريرات للأفكار العنصرية البغيضة».
وفي رأي الباحثة التربوية: «ينبغي ألا يفوت الأولاد الصغار، وهم في سن البراءة والعفوية، فرصة الانضواء تحت راية هوية موحدة، تتواصل بلغة موحدة، لغة فرنسا التي باتت بلدهم، وألا يقعوا منذ تلك السن المبكرة جداً في فخ الانزواء والتمايز». تضيف: «تعلم لغة أجنبية شيء ممتاز فكرياً وثقافياً، ونافع مهنياً، ويعين على مواجهة الحياة، لكنه عندما يندرج فقط في إطار التشبث بهوية جالية معينة، يتحول إلى عائق وأداة لتكريس الانغلاق». وتؤكد أيضاً أن «لغات المهاجرين الأصلية تصنع جاليات منفصلة، بينما تصنع اللغة الفرنسية أمة متماسكة».
كما تفند بوجهلات الحجة الإدارية التي استندت إليها الوزيرة لتفسير قرارها؛ إذ أكدت فالو بلقاسم أن توصياتها نابعة من روح مرسوم وزاري قديم، يعود لنهاية سنوات 1970، ويقضي ذلك المرسوم، المسمى «إيلكو» (اختصاراً لمصطلح «تعليم اللغات والثقافات الأصلية»)، بتلقين أبناء المهاجرين لغات آبائهم وثقافاتهم، وذلك في هدف «تسهيل اندماجهم في مجتمعاتهم الأصلية إثر عودتهم المرتقبة إليها، وتيسير مواصلة الدراسة هناك».
وانبثق المرسوم، بدوره، من توصيات أصدرها عام 1977 المجلس الأوروبي، إحدى مؤسسات المجموعة الأوروبية المشتركة، حض فيها الدول الأعضاء على تبني تلقين أبناء المهاجرين فيها لغات أهاليهم وثقافاتهم لغرض التحضير الممنهج لعودتهم إلى أوطانهم الأصلية.
لكن، في رأي الخبيرة، فإن «تلك التدابير وضعت في فترة ماضية، كان المسؤولون خلالها يعولون على عودة المهاجرين إلى بلدانهم الأصلية، بينما تشير الإحصاءات إلى أن عدد المشمولين متدنٍّ للغاية». فإلى اليوم اليوم، بحسب دراسات مجلس الاندماج الأعلى، لم يتلقَّ تلك الدروس غير نحو 92 ألف تلميذ، من بينهم زهاء 87 ألفا من المرحلة الابتدائية.
وفي جميع الأحوال، لم يعد أغلبهم إلى بلدان عائلاتهم الأصلية. ولاحقاً، تم فتح باب التسجيل في تلك الدروس للجميع، أياً كانت أصولهم، في إطار تشجيع تعلم اللغات الأجنبية الحية من منظور فكري وثقافي، وليس في إطار التشديد على الانتماء إلى هويات وطنية.
وبحسب الخبيرة التربوية بوجهلات: «لم تعد أهداف مرسوم (إيلكو) موائمة لروح العصر، بما أن أولئك الأولاد ولدوا في فرنسا، ويتربّون في ظل القوانين الجمهورية، ويترعرعون في كنف بلد أصبح هو موطنهم الأصلي، وليس في نيتهم، ولا في نوايا أهاليهم، مغادرته. فلماذا إذن نقحم في أذهانهم منذ الصغر فكرة أنهم مختلفون، وكأن وجودهم هنا مؤقت؟ ألا يؤدي هذا التمييز المبكر إلى تنفيرهم من فكرة الانتماء إلى الأمة، وبالتالي ربما التنصل من واجباتهم تجاهها، والتخلي عن حقوقهم عليها، وتنمية فكرة عدم الانتماء إليها؟».
وتذكّر الخبيرة بأن «دور الصف التمهيدي، في أي بلد، يتمحور حول إرساء أسس متينة لتعلم لغة ذلك البلد، لكونها ركيزة العلوم والمواد الأخرى كلها، ما ينعكس على حياة التلميذ الدراسية برمتها، وبالتالي مستقبله كإنسان وكمواطن، وحظوظه في النجاح مهنياً». وتضيف أن نسبة 30 في المائة فقط من تلاميذ الصف التمهيدي، بحسب الدراسات التربوية، يتمكنون من بلوغ الأهداف ومطابقة المعايير الموضوعة من قبل وزارة التربية فيما يخص الغايات المعرفية من تلك السنة الدراسية، التي تشكل في رأيها «الدعامة الأساسية لمجمل المسار الدراسي».
كما تشدد على عدم كفاية مستوى تعليم الكتابة بالفرنسية في الصف التمهيدي، ما يأتي بآثار سيئة لاحقاً في مستويات التلاميذ، تلاحقهم حتى الجامعة. وتخلص إلى القول إن «من غير المعقول إثقال كاهل هؤلاء الصغار بلغة أجنبية، أياً كانت، وتشتيت أفكارهم وجهودهم، في وقت نجد فيه نقصاً واضحاً في استيعابهم لغتهم الأولى، فلنشدد قبل كل شيء على تلقينهم إياها بشكل وافٍ، ثم إضافة لغة أجنبية أو أكثر في الصفوف المتقدمة من مرحلة الابتدائية».