اللغات الأجنبية في السودان تتراجع رغم اتساع مساحة مراكز تدريسها

كان أحمد سعيد مولعاً بالقراءة والاطلاع منذ طفولته. دفعته فتنة الكتاب إلى دخول عالم اللغات الأجنبية، ليقرأ أكثر وبلغات شتى، فك طلاسم اللغة الإنجليزية قبل أن يكمل المرحلة الإعدادية. معتمداً على ما يقع في يده من كتب، ويسمع ما تتيحه الميديا من أحاديث بتلك اللغة، وحين يلتقي إنجليزياً كان ينزع عن نفسه الخجل ويتحدث إليه كيفما اتفق، حتى أجادها تحدثاً وسماعاً كتابة وقراءة.
يقول المترجم السوداني سعيد إنه وبعد أن تعلم الإنجليزية انفتحت أمامه آفاق جديدة من المعرفة، أشعلت رغبته في تعلم المزيد من اللغات فتوجه لدراسة الفرنسية باعتبارها لغة الأدب والفن، ويضيف: «هذه المرة إضافة إلى جهدي لفك طلاسم الفرنسية، قصدت معاهد تدريس اللغة الفرنسية، وساعدتني الإنجليزية في سرعة التعلم، فأجدتها في وقت وجيز».
وينوي سعيد دراسة اللغة الألمانية بعد إجادة اللغة «الأمهرية» التي بدأ يتكلمها حديثاً، يقول: «لا أعتقد أن صعوبات كثيرة ستعترض طريقي إلى اللغة الألمانية، فهي لغة تنتمي للمجموعة اللغوية التي أجيدها، وأظن أنني بالجهد الذي بذلته جعل منطقة تعلم اللغات في دماغي تصبح مرنة».
ويوضح أنه شرع في تعلم الأمهرية منطلقاً من الروابط التاريخية والثقافية التي تربط السودان بإثيوبيا، ولرغبته في معرفة الحضارات الإثيوبية، فضلاً عن توسع الدور الإثيوبي في الإقليم والقارة، والذي يستلزم أن يحدثهم الآخر بلسانهم.
قال سعيد إن لغاته وفرت له حصيلة واسعة من المعلومات، وأتاحت له سبل تواصل مع العالم لم تكن لتتوفر له لو لم يتعلم أكثر من لغة، يضيف: «أصبحت أطلع على المعارف والثقافات والفنون من مصادرها الأصلية، وصرت أقرب للعالم والناس أكثر».
وينتقد سعيد طريقة تدريس اللغات في البلاد، ويقول إنه لو اعتمد عليها لما تمكن من لغة واحدة، يقول: «تعتمد طريقة تدريس اللغات الأجنبية على أسلوب التعليم وتفتقر للتفاعل، ما حول دارسي اللغات لكتبة وقراء، لكنهم لا يستطيعون السماع ولا التخاطب».
ويرى سعيد أن إجادة اللغات الأجنبية تفتح أبواباً واسعة للعمل وللمعرفة، وتتيح للشخص قبولاً كبيراً بين مختلف شعوب العالم، لذلك يدعو لتطوير تعليم اللغات الأجنبية في البلاد، وعلى وجه الخصوص اللغة الإنجليزية باعتبارها اللغة الرسمية الثانية، وتراجعت مستويات تدريسها وبالتالي تكلمها.
ودون أن تقول مباشرة فإن وزارة التعليم السودانية توافق ما ذهب إليه سعيد، لذلك دشنت وزيرة التربية والتعليم سعاد عبد الرازق، منهجاً جديداً لتدريس اللغة الإنجليزية في مرحلة الأساس يبدأ من الصف الثالث، بعد أن كان ابتداءً من الصف الخامس في المرحلة المكونة من ثمانية فصول.
ودشنت الوزارة الشهر المنصرم بشراكة طويلة مع المجلس الثقافي البريطاني المنهج الجديد واسمه (Smile)، بديلاً للمنهج القديم (Spine) الذي استمر تدريسه لأكثر من عشرين سنة، ويعني هذا اعترافاً بالحاجة لتطوير تدريس اللغة الإنجليزية.
ويتكون المنهج الجديد الذي ألفه خبراء وطنيون وبريطانيون من سبعة كتب وفقاً لما ذكر المجلس الثقافي البريطاني، على أن يدرس الكتاب الأول للصف الثالث للمرحلة ابتداء من العام الدراسي المقبل.
وعلى الرغم من أن مدير المجلس الثقافي البريطاني كان قد قال للصحيفة في وقت سابق، إن حكومته أوقفت ابتعاث معلمي اللغة الإنجليزية للتدريس في المدارس السودانية، لأن الإنجليزية أصبحت لغة عالمية، ولم تعد بريطانيا بحاجة لتدفع من أجل نشرها: «ومن يريد تعلمها عليه دفع ثمن ذلك»، فإن المجلس تعاقد مع الوزارة السودانية ضمن مشروع «الشراكة الدولية للتعليم ومشروع تقوية تعليم الأساس»، على تقديم خدمة استشارية لمدة عامين لدعم المركز القومي للمناهج والبحث التربوي، لتطوير جميع كتب المنهج الجديد لتدريس اللغة الإنجليزية للصفوف من الثالث إلى التاسع.
ويوضح تعديل المجلس الثقافي البريطاني لموقفه السابق بأن لغته أصبحت عالمية، أن هناك تدنياً في مستوى تدريس الإنجليزية، وهذا ما تؤكده أيضاً دراسة قدمت لجامعة الخرطوم عن تعلم اللغات الأجنبية في السودان أعدها د. بشير محمد عبد الله، بأن أهم الصعوبات التي تواجه معلمي اللغة هي إجادة التعبير الشفوي، لضيق أو عدم وجود فرص لممارسة اللغة خارج إطار التعليم.
وترجع الدراسة تراجع اللغات إلى عدم تأهيل المدرسين تأهيلاً كافياً، وعدم مواكبة مناهج التدريس للبيئة التعليمية، والبداية المتأخرة لتعلم هذه اللغات في المنهج السوداني. وهو الأمر الذي يحاول المنهج الجديد معالجته.
وتتفق الدراسة مع ما ذهب إليه سعيد بأن اعتماد تعليم اللغات في السودان يعتمد على طريقة التلقين، أثر على مستوى اللغات الأجنبية في السودان، وتدعو لتحسين أوضاع تعليم اللغات وتأهيل المعلمين، وتوفير المعينات التدريسية وتوظيف التقنيات الحديثة.
إلى جانب هذه الدراسة فإن تقارير وشهادات تؤكد تراجع مستوى تدريس اللغات الأجنبية في البلاد بشكل عام، والذي يرجعه البعض لـ(تعريب الدراسة الجامعية) في تسعينات القرن الماضي، بعد أن كانت لغة التدريس فيها هي اللغة الإنجليزية، ما يجعل الطلاب لا يهتمون كثيراً بتعلمها، فيما يرجعه البعض إلى تدهور مستوى التعليم العام في البلاد بعد ما أطلق عليها (ثورة التعليم) التي وسعت فرص التعليم الجامعي دون الاهتمام بنوعيته.
ورغم الحكم بتراجع مستوى اللغات الأجنبية، فإن هناك ملاحظة لافتة تتمثل في توجه أعداد كبيرة من الشباب السوداني لتعلم اللغات الأجنبية، ويبرز ذلك بشك ملحوظ في انتشار معاهد تدريس اللغات الأجنبية الخاصة في البلاد، والأعداد الكبيرة التي تقصدها، وإلى نشاط المراكز الثقافية الأجنبية مثل المجلس الثقافي البريطاني، والمركز الثقافي الفرنسي، ومعهد جوته، والتي تمولها حكومات هذه الدول، بالإضافة لزيادة اللغات التي تدرس في كليات الآداب بالجامعات. ويلاحظ ولع بين الشباب أسهمت التقنية وثورة المعلومات في توهجه بين الأجيال السودانية الجديدة، فاتجهت لتجويد اللغة الإنجليزية، والفرنسية والإيطالية والألمانية، بل إن بعضهم اتجه شرقاً لدراسة اللغات الصينية واليابانية. ويمكن الإشارة إلى أن لغة «الأمهرا» الإثيوبية صارت تلقى اهتماماً بسبب الدور المتعاظم للجارة إثيوبيا في الإقليم، والتقارب والتداخل الثقافي والعرقي بين البلدين، وتوافد أعداد كبيرة من اللاجئين إلى السودان، والسياحة السودانية المتعاظمة هناك، بعد أن كانت لا تجد اهتماماً يذكر.
تقول عميدة كلية اللغات في جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا في مقابلة صحافية سعيدة عمر موسى، إن ظروف تلقي العلم غير الجيدة، والأوضاع الاقتصادية، وقصر اليوم الجامعي الذي لا يمكن الدارسين من الوصول للمكتبات، وتدني أداء الأساتذة، وانشغالهم بأكثر من عمل بسبب تدني الرواتب وغلاء المعيشة تؤدي كلها لضعف تدريس اللغات.
رغم هذا الواقع المتراجع في كل شيء، فإن سودانيين كثرا اشتهروا بإجادة لغات ورطانات العالم، بل إن لقب (Black English Man) كان قد أطلق على بعضهم في السابق وإلى الآن، وأشهر من حمل هذا اللقب هو رئيس الوزراء السابق محمد أحمد المحجوب.