مهرجان برلين السينمائي الدولي ‪(‬6‪)‬: أفلام تحاكي قضايا اللجوء في أوروبا... وآسيا

بعد 71 دقيقة على بدايته، ينتهي فيلم سالي بورتر الجديد «الحفلة» نهاية مبتورة. قد يسميها البعض مفتوحة، لكن كلمة «مبتورة» هي الأصح لوصف مشهد تفتح فيه كرستين سكوت توماس باب الشقّة، وفي يدها مسدس تصوّبه في وجه الكاميرا حيث يكمن المشاهدون أيضًا.
كانت وجدت المسدس في برميل القمامة. ثم شاهدناها ترميه مجددًا حيث وجدته. لكن المشهد الأخير يضع المسدس في يدها… متى جلبته؟ كيف؟ لماذا؟ ثم ما هذه النهاية التي تشبه إطفاء الطبخة قبل أن تستوي؟
«الحفلة» ((The Party والكلمة مزدوجة إذ تعني أيضًا «الحزب» والفيلم يناقش الحزب في حفلة! ملهاة كوميدية مشغولة جيدًا يقوم بتمثيلها، لجانب سكوت توماس كل من سيليان مورفي وباتريشا كلاركسون وتيموثي سبول وبرونو غانز ودجون شيري. كل مشاهد الفيلم تقع في بيت (ما بين غرفة جلوس والمطبخ ورواق وحمام وجزء من باحة خارجية) يعيش فيه الزوجان سكوت توماس وسبول الواجم الجالس بلا حركة تُذكر. يصل المدعوون ويبدأ اللغط. أحدهم، مدير إحدى الشركات المصرفية، مدمن ومتوتر، وهناك امرأتان على علاقة وامرأة تريد الانفصال عن صديقها. ثم يكشف الزوج عن أن الطبيب أخبره أن حياته ستكون قصيرة. وهو لا يريد أن يذهب للقبر قبل أن يصارح زوجته (سكوت) بأنه خانها مع زوجة المصرفي (نفهم الآن سبب توتره)، وهذا يقلب العلاقات بين كل الحاضرين ويطيح ببعضها.
كما في أفلام أخرى تدور في مكان واحد (دائمًا حفلة عشاء تبدو مسالمة لكنها تكشف عن أسرار في حالة غليان) يأتي فيلم بوتر أقرب إلى شغل مسرحي منه سينمائي ولو أنه مشغول بمهارة عمومًا. وهو يمر على شؤون كثيرة مثل المواقف السياسية، المبادئ المثالية، جشع المصرفيين وثرائهم الفاحش. مرورًا عابرًا لكنه كافٍ.
* مهاجر من حلب
يقدم الفنلندي آكي كوريسماكي في المسابقة واحدًا من كوميدياته السوداء تحت عنوان لافت هو «الجانب الآخر من الأمل». بالنسبة لهذا الناقد، هذا هو أفضل فيلم تم عرضه في المسابقة الرسمية وأكثرها إنسانية. رغم ذلك، فإن نهايته لا تماثل كل ما سبقها من طروحات أو إنجازات.
معظم ما حققه هذا المخرج (نحو 30 فيلمًا) دار حول مواضيع اجتماعية و«الجانب الآخر من الأمل» ينتمي إليها. في «لا هافر» (قبل ست سنوات) عالج موضوع الهجرة غير الشرعية مصوّرًا حكاية لاجئ أفريقي حط رحاله في فنلندا بعدما تم تهريبه. في هذا الفيلم لاجئ سوري (يقوم به شروان ناجي) يصل مختبئًا في باخرة حطت في المدينة فيتسلل منها إلى عتمة الليل ثم يقصد الشرطة صباح اليوم التالي ويتقدم بطلب لجوء سياسي. في المقابلة يعرض قصّته: قذيفة أصابت منزل عائلته في حلب (يقول إنه لا يعرف إذا ما كان مطلقها النظام أو المعارضة أو الروس أو الأميركيين) فدمرته وقتلت مَن فيه باستثنائه وشقيقته الشابة. هربا عبر تركيا إلى دول أوروبية ثم تم فصلهما غصبًا، ولم يقصد أن يحط في فنلندا لكنه يريد أن يحصل على بطاقة إقامة لكي يستطيع البحث عن شقيقته وجلبها إليه.
كلامه مقنع ويثير تعاطف المحققة لكن الشرطة تأمر بإرجاعه إلى حيث أتى. يهرب من مركز اللاجئين ويلتقي برجل أعمال افتتح مطعمًا. كان الفيلم قد انتقل ذهابًا وإيابًا بين حكايتي الرجل الفنلندي والمهاجر السوري قبل أن يجمعهما.
«الجانب الآخر من الأمل» لا يحمل أملاً. المقصود به حالة الوصول إلى تحقيق أمل ما، واجتياز الجانب الأول صوب الجانب الآخر لنكتشف أن هذا الجانب لا يقل سوداوية. والفيلم يطرح رسالته في الوقت المناسب إذ تعيش ألمانيا وسواها من دول أوروبا تبعات ما يحدث في سوريا وسواها.
* شؤون مختلطة
حالة لجوء أخرى، لكنها مختلفة تمامًا، نجدها في الفيلم التايواني - الياباني «مستر لونغ»، للمخرج المكتفي باسم واحد هو «سابو» (كان هناك في الخمسينات ممثلاً هنديًا شابًا عرف بعض الشهرة العالمية والأميركية بالاسم ذاته).
هذا الفيلم عن قاتل تايواني محترف (تشن تشانغ) تم إرساله إلى اليابان لينفذ مهمّة اغتيال رئيس عصابة. المهمّة تفشل ويُلقى القبض على مستر لونغ بغية إعدامه، لكنه يهرب ويلجأ إلى منطقة من البيوت المهدَّمَة ليداوي نفسه من جروحه ويعيش متواريًا. يجده صبي ويبدأ بالعناية به، ثم عن طريقه يتعرّف مستر لونغ على أم الصبي (يتي ياو) التي تعيش أيضًا في أحد تلك البيوت. وهي مدمنة بعدما عرّفها أحد الأشرار على الحقن ثم اختفى. مستر لونغ يفرض عليها الخلاص من الإدمان، لكنه في الوقت ذاته يبدأ من حيث لا يدري مهنة جديدة وهي الطبخ. اليابانيون القريبون من المكان هم زبائنه، والطعام الذي يطبخه يستهويهم ويبدأ بجمع المال للعودة إلى اليابان. هذا قبل أن يكشف ذلك الشرير أمره ويأتي بالعصابة التي لا تزال تبحث عنه.
خلاصة القول إن مستر لونغ يبيد أفراد العصابة ورئيسها بسكينه وحركاته التي تحميه من سكاكين الغير. الأم تموت. الصبي يلحق به إلى اليابان والقاتل الذي تحوّل إلى طباخ يصبح أبًا.
كل هذه الشؤون تتوالد مختلطة البنى. بعض الأفلام فردي الهدف لا ينوي نشر رأيه على أي وضع كان في أي مكان من العالم، والبعض الآخر، الغالب، يريد طرح ما يمكن للناس أن تتحدث به بعد العرض بحثًا في أمور معاشة. لكن فيلم «البار» (El Bar) للإسباني أليس دي لا إغليسيا له شأن مغاير.
إغليسيا هو المخرج الذي سبق له وقدّم، على نحو أفضل، فيلم «السيرك الأخير» (2010) الذي دائمًا ما أوحى بأنه فنان كبير الشأن سواء اعتبرناه كذلك أم لم نعتبره. هو بالتأكيد لديه موهبة لافتة في معالجة مواضيعه الغريبة بما يناسبها من غرابة مماثلة، لكن هذا لا يكفي، أحيانا، لجعلها أعمالاً متفوقة.
«البار» هو في هذا الوضع تمامًا. من ناحية أخرى، هو من بين الأفلام التي تكتفي بمكان واحد. هنا لا يوجد دار بمطبخ وحمام وغرفة جلوس، كما في «الحفل». يبدأ الفيلم بمشهد في شارع مزدحم. شخصيات تعبر أمامنا وتمضي ثم نراها من جديد وتلك الفتاة الشابة إيلينا (بلانكا سواريز) تتحدث في الهاتف ويلاحقها الفيلم حتى دخولها البار. في الداخل عدد من الزبائن ينضم إليهم السكير المتشرد إزرائيل (خايمي أوردونوز). حال مغادرة أحدهم الحانة يصاب بطلق من قناص ويسقط صريعًا عند باب الحانة. من يحاول معرفة ما إذا كان لا يزال حيًا أم لا، يصاب بطلق آخر ويموت بالقرب منه. رواد الحانة وصاحبته (تييريل بافيز) والعامل ساتور (سيكون دي لا روزا) يصابون بالهلع ويصبحون سجناء المكان غير قادرين على الخروج منه.
هذا كله قبل أن يشتد الصراع بين الموجودين على عقاقير من شأنها إبقاء من يتناولها حيًا. لكن هذه العقاقير أقل عددًا من الأشخاص الموجودين. تحت تهديد سلاح رجل أمن سابق كان من بين الزبائن الذي يفرض على خمسة أشخاص الهبوط إلى غرفة تحت الأرض ومنها إلى «المجارير الوسخة» بغية الهرب، لكن العنف يمتد بينهم طوال الوقت، ولا يبقى من بينهم في النهاية سوى الفتاة الجميلة ذاتها.
ليست هناك نظام عروض يوفر الصورة والصوت والرائحة أيضًا، وإلا لما بقي هناك مشاهد واحد لهذا الفيلم.