الأصولية الأوروبية... ما ورائيات المشهد الحاضر

هل باتت أوروبا على موعد مع قدر مقدور في زمن منظور يتصل بتصاعد موجة الأصولية اليمينية هناك على نحو خاص؟ وهل أسباب نشوء وارتقاء تلك الموجة منبت الصلة بالماضي الروحي والثقافي والفكري لأوروبا القرون الوسطى؟ أم أن جزءًا كبيرًا من المشهد الحالي له علاقة جذرية بالماضي، عطفًا على مستجدات ونوازل أذكت استحضار ما كان بما فيه من صور مشوهة وقراءات مغلوطة وخصوصًا في ظل حالة الديماغوجية التي يعيشها العالم في حاضرات أيامنا؟
أسئلة كثيرة أضحت تفرض ذاتها على ساحة النقاش لا سيما في ضوء تقرير منظمة العفو الدولية الصادر نهار الثلاثاء 17 يناير (كانون الثاني) الماضي، الذي قالت فيه إن مجموعة كبيرة من القوانين الجديدة لمكافحة الإرهاب في أنحاء أوروبا تنطوي على تمييز ضد المسلمين واللاجئين، مما يتسبب في نشر الخوف والشعور بالغربة. تشير جوليا هول، خبيرة مكافحة الإرهاب في «العفو الدولية»، التي كتبت التقرير، إلى أنه «في أنحاء النطاق الإقليمي للاتحاد الأوروبي نرى مساواة المسلمين والأجانب بالإرهابيين. هذه النظرة النمطية تؤثر بصورة غير متناسبة على تلك المجتمعات، بما يؤدي لدرجة عالية من الخوف والشعور بالغربة».
هنا ينبغي التساؤل بموضوعية: «هل كانت الهجمات التي أعلن تنظيم داعش المسؤولية عن أغلبها هي السبب المباشر في هذه الأعراض التي هي نتاج لمرض هو (الإسلاموفوبيا)؟ أم أن المشهد سابق لـ(داعش)، ومتقدم على موجة المهاجرين الأخيرة التي لجأت إلى أوروبا، ولا سيما بعد أحداث وسنوات (الربيع العربي) المختلف على صدق تسميته حتى الساعة؟».
* استنهاض الماضي القديم
يبدو أن الجواب يذهب في طريقين؛ التاريخي من جهة والآني من جهة ثانية. أما عن الأول بنوع خاص، فإننا نرى أنه كانت هناك رغبة قوية لدى جماعات اليمين الأوروبي في استنهاض الماضي القديم بين أوروبا القرون الوسطى والنظرة إلى الإسلام. وإليك على سبيل المثال ما فعله هاينز كريستيان شتراخه، زعيم حزب الحرية اليميني المتطرف في النمسا، أمام حشد من عدة آلاف من المناصرين له في مدينة سالزبورغ. إذ أعلن أنه «حان الوقت للتصدي لظاهرة أسلمة أوروبا»... ومضيفًا أن «حظر الرموز الدينية الإسلامية في القارة العجوز بات أمرًا ضروريًا، فضلاً عن التصدي لموجات الهجرة التي جلبت للنمسا بمفردها 600 ألف مسلم».
نبرة شتراخه وأقرانه من أصحاب الزعامات الأوروبية المتطرفة تعيد الحديث عما يسمى «الإسلام الفاشي»، وهو في زعم أصحابه الإسلام الذي يكره النساء ويعادي الليبرالية وقيم الحرية. وعند هؤلاء أنه إذا كانت حجة أوروبا هي التراجع الديموغرافي ونقص اليد العاملة، فإن أوروبا الشرقية هي المعين أو المخزون البشري الذي يمكن الاستفادة منه بدلاً من فتح غرب القارة لموجات الهجرة التي تجلب آلاف المسلمين للبلاد، بحسب أنصار زعيم حزب الحرية النمساوي.
يضيق المسطح المتاح للكتابة عن السردية الأصولية الأوروبية ومواقفها تجاه الإسلام والمسلمين. غير أن الأمر يكاد يتحول إلى كارثة حقيقية إذا قدّر لأمثال شتراخه هذا في ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وإيطاليا الوصول إلى مقاعد الحكم. وهو ما دعا صحيفة «ديلي ستار» البريطانية أخيرًا لنشر تقرير مثير يحذر من انزلاق أوروبا إلى حروب دينية خلال الأعوام المقبلة، رفضًا لتحول أوروبا إلى قارة مسلمة. وتؤكد الصحيفة أن جذور الأزمة قائمة قبل عام 2015 عندما لجأ إلى ألمانيا وحدها نحو مليون لاجئ، جلهم عن المسلمين.
تصاعد الأصوات الأصولية الأوروبية استحوذ أيضًا على اهتمام الأميركيين، رغم ما لديهم في الوقت الحاضر من قلاقل واضطرابات عرقية وفكرية، «الإسلاموفوبيا» في المنتصف، بل القلب منها. إذ تحدث «معهد واشنطن للدراسات الاستراتيجية» عن حروب أوروبية وشيكة على غرار الحروب الصليبية في القرن الحادي عشر الميلادي وحتى القرن الثالث عشر ضد الشرق الإسلامي.
ويدهش المرء من أن الأصوليات الأوروبية المعاصرة تستجلب من معين سوء الفهم والرؤى السلبية لتلك الفترة زادًا، ونحن في منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين أو تجاوزناه قليلاً. والأكثر مدعاة للدهشة هو أن الأسباب تبقى دائمًا وأبدًا، كما كانت، مزيجًا من السياسة والاقتصاد، والنزعات الشخصية، قبل أن تكون الأديان مثارًا للخلافات أو المنازعات.
المؤلفة الهندية - الأميركية ديبا كومار، أستاذة الدراسات الإعلامية ودراسات الشرق الأوسط في جامعة رتغرز الأميركية، تحدثنا في كتابها المعروف «فوبيا الإسلام والسياسة الإمبريالية» عن الصورة السائدة للإسلام والمسلمين في الغرب، وبوجه خاص في القرون الوسطى، وكيف استطاعت النخب الحاكمة في أوروبا على مر التاريخ تخليق صور معينة لـ«العدو الإسلامي» تعزيزًا لمطامحها السياسية، إذ صُور الإسلام على أنه «تهديد خطير يجب القضاء عليه». وبدأ الأمر ينسحب على الجار الأوروبي الأكبر (بلاد الأندلس)، عبر إخلائها من الدخلاء العرب والمسلمين، كما يرى الغارقون في اليمين الأوروبي في الماضي والحاضر. ولقد اقتضى الأمر تعبئة الجيوش لاستعادة «الأرض المقدسة» (فلسطين)، كما استلزم الأمر نشر أنواع من الصور الشيطانية والسلبية تمامًا للإسلام، وأضابير التاريخ مليئة بتلك السجالات. يرى أن الباحث المحقق والمدقق لتلك الفترة، كما الحال اليوم، يخلص إلى أن تاريخ «الإسلام والغرب» - كما يسمى عادة - ليس قصة نزاع ديني، بل هو بالأحرى، قصة نزاع ولد من رحم تنافسات سياسية وأجندات إمبريالية متنافسة أيضًا.
* هنتينغتون على حق؟
إننا نرى اليوم في أوروبا رجع صدى لا يتلكأ ولا يتأخر لنفس الصيحات التي حفظتها دفاتر التاريخ عن رغبة المسلمين في احتلال أوروبا وأسلمتها. ولهذا تتحول الصراعات النسبية إلى مطلقة، والمثير والغريب، وما يقودنا للقول إن صامويل هنتينغتون ربما كان على صواب، وجود أصوات غير مسيحية في النطاق الأوراسي تدعم الصيحات الأصولية الأوروبية.
فخلال أكتوبر (تشرين الأول) الماضي رأينا بنحاس غولد شميت، كبير حاخامات موسكو، يحذر الأوروبيين «من وجود الإسلام الراديكالي - حسب وصفه - على أراضيهم»، وذريعته التي ينطلق منها هي أن تلك الراديكالية تهدد الوجود اليهودي القائم على الأراضي الأوروبية.
ولم يتوقف المشهد عند غولد شميت، الذي يمكن للمرء أن يتفهمه في سياق العداء العقائدي - السياسي، بل امتد إلى واحد من غير الإبراهيميين بالمرة، ونعني به الزعيم البوذي الدالاي لاما، الذي انتقد الحكومة الألمانية الصيف الماضي لاستقبالها المهاجرين العرب والمسلمين قائلاً: «ألمانيا لا يمكن أن تتحول إلى بلد عربي».
ويحاجج الأصوليون من الأوروبيين مستخدمين الحجة التقليدية القديمة؛ احتلال العرب والمسلمين القارة، وتحويل سكانها مرة واحدة وإلى الأبد إلى الإسلام، أي إشكالية «أسلمة» القارة العجوز كما يردد غلاة اليمين المتطرف، غير أن أصواتًا أوروبية عقلانية ترى أن المشهد على هذا النحو، أي «أسلمة أوروبا» أكذوبة تتعمد الزعم أن جميع المسلمين أصوليون ومتطرفون.
وهنا يحدثنا البروفسور ميكائيل بلومه، الباحث الألماني المتخصص في العلوم الدينية والكاتب والمدون، عن حال أوروبا اليوم، وهو الذي تولى مسؤولية إدارة مشروع الحصة الخاصة باللاجئين في ولاية بادن فورتمبرغ (جنوب ألمانيا)، وشملت ألفًا ومائة امرأة وطفل. ويقول بلومه إن الحديث عن وجود إحصاءات تفيد بما سيكون عليه عدد المسلمين بعد عام 2050 أو عام 2070 هو مجرد هراء، وإن الأرقام سيكون لها معنى فقط عند اعتبار أن جميع المتأثرين ثقافيًا بالمسيحية «مسيحيون»، أو فقط اعتبار المسلمين المنتظمين في جمعيات إسلامية مسلمين.
رأي آخر صاحبه الكاتب والبروفسور بول هيدجز، الأستاذ المشارك في دراسات العلاقات بين الأديان في برنامج المجتمعات التعددية بجامعة نانيانغ التكنولوجية في سنغافورة، وفيه يورد أن عدد المسلمين في أوروبا في ازدياد الآن أكثر من أي وقت في التاريخ، وهو يرجع بدرجة ما إلى موجات جديدة من الهجرة، وهو يواكب تراجع الانتماء المسيحي في كثير من الدول الأوروبية الغربية، لذلك فإن توقع زيادة أعداد المسلمين النشطين عن عدد المسيحيين النشطين خلال القرن الـ21 في دول مثل بريطانيا وفرنسا ليس مستبعدًا، ولكن ليس من المؤكد أن يحل الإسلام محل الثقافة العلمانية السائدة أو التراث المسيحي لأوروبا.
وهناك فرضية تقول إن القيم الإسلامية تتناقض مع قيم أوروبا المسيحية. لكنها أيضًا تفتقر إلى المصداقية، إذ يدل تاريخ الفكر على أن الأفكار الرئيسية للفلسفة اليونانية والعلوم التي عززت الفكر المسيحي قرونًا كثيرة، كما دعمت عصر النهضة، وطورت العلم الحديث، إنما وصلت إلى أوروبا من خلال المجتمعات الإسلامية، والتقدم الذي أحرزه العلماء والمفكرون العرب والمسلمون.
* فوقية حضارية
هل للأصولية الأوروبية التي نراها اليوم وجه آخر إذن؟
إنه الوجه الثاني للفوقية الحضارية ذات الجذور والنزعة العنصرية، الكائنة تحت الجلد الأوروبي منذ بضع مئات من السنين. فقبل فترة ليست بعيدة قال رئيس وزراء أستراليا السابق توني أبوت: «على الغرب إعلان تفوقه على الإسلام». وجاءه رد الفعل من قلب أوروبا عبر صوت خيرت فيلدرز الرمز الهولندي والأوروبي الأكثر تعصبًا، الذي قال: «لو كان القرار في يدي لأغلقت الحدود في وجه الغزو الإسلامي».
وفي أكتوبر الماضي، صرح الرئيس التشيكي ميلوش زيمان مثيرًا مخاوف الأوروبيين: «سنخضع للشريعة الإسلامية»... فيما ذهبت مارين لوبان زعيمة حزب الجبهة الوطنية الفرنسي أبعد لتقول: «صلاة المسلمين في الشوارع احتلال شبيه بالاحتلال النازي لفرنسا». ولم تكن الولايات المتحدة لتتأخر - والحديث عنها في حاجة إلى قراءة مستقلة - ويكفي هنا أن نشير إلى قول بن كارسون، المرشح الجمهوري السابق للرئاسة الأميركية والوزير الحالي (الأفريقي الأصل) في إدارة دونالد ترمب، حيث قال: «منع الإرهابيين من اللاجئين السوريين من دخول أميركا أقرب إلى التعامل مع كلب مصاب بداء الكلب».
إنها إذن صحوة بشكل أو بآخر لما هو كامن في الذات الغربية أو - لكي نتفادى التعميم - لدى كثرة كبيرة من العوام والنخبة، وإن وجدت أصوات رافضة لتحذير الكراهية على هذا النحو، وهذا مآله قراءة أخرى.
* عوامل أخرى
على أنه بالطبع لا يمكننا إنكار وجود عوامل ثانوية أخرى أذكت نيران الأصولية الأوروبية المعاصرة، وفي المقدمة منها الأوضاع الاقتصادية المرتبكة التي أصابت أوروبا منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2007. وكان انعكاسها مولدًا لنزعات قومية وشعبوية، فالبريطانيون لا يريدون على سبيل المثال دفع فاتورة اليونانيين وإخفاقاتهم، والألمان سئموا من دعم الإسبان والإيطاليين والبرتغاليين، والفرنسيون بدورهم غاضبون من الكل.
لقد ولدت الشعبوية والقومية الحديثة من رحم الأزمات المالية، وإن شئت الدقة فقل إن تلك الأزمة دفعت مارد الأصولية والفوقية إلى الاستيقاظ، وصب الجميع جام غضبه على الاتحاد الأوروبي الآخذ في التفكك. ووجد الكل في إشكالية المهاجرين والمسلمين وظاهرة «الإسلاموفوبيا» الإسقاط الملائم للكبت التاريخي والعنصري، إن جاز التعبير.
لا يبدو المشهد الأوروبي الأصولي مطمئنًا بحال من الأحوال. وأغلب الظن أنه مرشح لمزيد من الأصوليات، وخصوصًا أن هناك عدة انتخابات حاسمة في أوروبا، أقربها انتخابات فرنسا في مايو (أيار) المقبل، ستحدثنا ولا شك عن الحال والمآل الأصولي الأوروبي، الذي يجد دعمًا وسندًا له في تجليات ما يجري داخل الولايات المتحدة.
في منتصف يناير الماضي رفضت المحكمة الدستورية العليا في ألمانيا ملتمسًا تقدم به مجلس الولايات لحظر الحزب القومي الألماني، الغطاء السياسي للنازيين الجدد، معللة ذلك بأنه رغم عقيدة الحزب النازية فإنه لا يشكل تهديدًا للديمقراطية في البلاد.
الحكم يدعو منطوقه للتأمل في أحوال أوروبا... إذ يشير إلى أن نيات الحزب مخالفة للدستور، لكنه لا يملك القدرة على الإطاحة بالديمقراطية في البلاد. ورأت المحكمة أن عقيدة الحزب ومفهومه للأمة الألمانية لا يحتم الإنسان، وعنصري التوجه وقريب من الآيديولوجية النازية، لكن ومع ذلك «لا تكفي» هذه الأسباب لحظره.
في مقابلة له مع صحيفة «إل باييس» (El Pais) اليومية الإسبانية، أشار بابا الفاتيكان فرانسيس الأول إلى كارثة الأصولية المحدقة بأوروبا، وإلى أنها يمكن أن تؤدي بها إلى النازية من جديد... قال البابا: «الأزمات تثير الخوف... في رأيي المثال الأكثر وضوحًا على الشعبوية بالمعنى الأوروبي للكلمة هو ألمانيا في عام 1933. فبعد أزمة عام 1930 انكسرت ألمانيا وكانت تحتاج إلى البحث عن هويتها. وهنا ظهرت الحاجة إلى زعيم، شخص قادر على استعادة شخصيتها، وكان هناك شاب يدعى أدولف هتلر يقول: (أنا أستطيع... أنا أستطيع)... لقد اختار الألمان هتلر، لم يغتصب السلطة بل صوت له شعبه، ثم دمر شعبه... وهذا هو الخطر، في أوقات الأزمات يفتقر إلى الحكمة».
هل ينبغي على الأوروبيين البحث في أصول إشكالاتهم الحاضرة عوضًا عن صب جام غضبهم على الإسلام والمسلمين، مما يعود بالعالم إلى عصور المجابهات والمواجهات الدينية؟
اللحظة حاسمة، والحاجة إلى مرفأ أمان هو طلب جميع شعوب الأرض. وما يعطينا الأمل في أن الغد ربما سيكون أفضل وجود أصوات أوروبية تدعو لإقامة الجسور عوضًا عن الجدران، ودعوات قلبية للوئام الإنساني وليس للخصام الشيطاني، وللاتفاق عوضًا عن الافتراق، وللحديث بقية إن شاء الله.