مسؤولية ثقافة ما بعد الحداثة في نشوء الأصوليات في الغرب

نحتاج نحن البشر جميعًا إلى بعض «أساسيات الثقة»، حتى نستطيع أن ننفتح على مراحل النضوج الطبيعي، الذي لا يخلو من الإحساس اللاإرادي بالخوف من كل ما لا نعرفه، أو من كل ما هو جديد. وعندما تغيب هذه الثقة أو تتبدد من الطبيعي أن نتشبث بتراثنا وتقاليدنا التي ألفناها إلى درجة التصلّب. وتترسخ أساسيات الثقة داخل المحيط الأسري الذي نترعرع فيه، كما ينمو شعورنا بالانتماء لجماعة إنسانية محددة لأنها تمثل حياة جماعية، حيث يشترك جميع أعضائها في القيم نفسها، ومفاهيم الحياة نفسها التي نعيشها.
كثيرًا ما تتسبب ممارسات المجتمع في تفتيت هذه الروابط الجماعية، وهذا يؤدي إلى وجود تربة مناسبة للأصوليين، دون أن يكون هذا ما يهدف إليه المجتمع بممارسته أو نظمه. لذلك، فاتجاه المجتمعات نحو الليبرالية الحديثة التي تؤيد الفردية والمنافسة هو الركيزة الأولى التي تقوم عليها آيديولوجية اليمين المتطرف، والطوائف المتشددة وغيرها من الجماعات الأصولية والتقليدية. وفي هذا الإطار يثار تساؤل جوهري هل كانت ثقافة ما بعد الحداثة تربة خصبة لنشوء وارتقاء الأصوليات حول العالم عامة وفي الغرب خاصة؟
يبدو أننا أمام عدة ركائز ومنطلقات فكرية لا بد من مناقشتها، في مقدمتها:
* الخوف من التكنولوجيا
إن استمرار الأصولية من جيل إلى جيل نابع من الشعور بالخوف المتولد في البشر من كل ما هو متغير. وفي العلم المعاصر حيث تسير التكنولوجيا بخطوات سريعة، وتعدو فيه التغيرات أسرع مما تتحمل الطبيعة البشرية، يبحث الناس عن سبل الأمان، كما نرى مثلا عند بعض الطوائف المسيحية في الولايات المتحدة التي تتشبث بمفاهيم القرن التاسع عشر.
منذ بداية تاريخ البشرية والإنسان يشكل بيديه الطبيعة، يبني ويشيد. كلمة «artificial» في اللغة الإنجليزية تعني صنع بفن. رفض الإنسان لهذا الفن الذي صنعه بيديه هو إنكار لذاته. ولكن لا يمنعنا هذا من نقد التقدم التكنولوجي الذي يجرد الإنسان من آدميته ويجعل منه آلة للإنتاج والاستهلاك. لقد أصبح الإنسان «نكرة» في نظام لا يتعرف عليه سوى بالحامض النووي، وليس باسمه وبما ينتجه في عمله وبالنمط المتبع فيما ينتجه. ومن ثم تبقى عناصر إنسانيته من مشاعر وأحاسيس وفكر دون أي اعتبار. لقد أصبحنا نقيّم كميًا وليس كيفيًا.
ولكن تشكيل الطبيعة لا يعني استئصالها من جذورها أو تشويهها. وعلى الرغم من اعتراض الأهالي بشدة على ما يحدث لغابات الأمازون البرازيلية، تستمر عمليات قطع الأشجار والنباتات لتحويل المنطقة إلى طرق سريعة ومدن سكنية رغم أن هذا تهديد مباشر لهذه الرئة الطبيعية التي يتنفس كوكب الأرض من خلالها.
هذا الإجراء الجائر على الطبيعة جعل العالم مكانًا لا يساعد على العيش، أو التماس المأوى لكثير من الناس، ولا يجب أن نستهين بالأثر السلبي الذي تمارسه حياة المدينة على سكانها من ضغوط نفسية وإحساس بالغربة. وبالتالي، لا نتعجب من لجوء كثيرين إلى جماعات شمولية باحثين عن هوية.
* هذا ما جرى عليه العُرف
الثقافة التي يترعرع فيها الإنسان هي مأمنه ومأواه، وهي الإجابة على تساؤلاته الجوهرية: إلى أين يسير؟ من أين أتى؟ ما الذي ينبغي عليه أن يفعله ويقرره... أما العادات والتقاليد فهي التي تعطي شرعية ترك السؤال الملح لماذا تحدث الأشياء؟ دون إجابة.
العادات والتقاليد هي بمثابة توفير للطاقة. من منا يستطيع أن يتحمل مشقة وضع هذه التقاليد والعادات في ضوء التساؤل إلى ما لا نهاية؟ لماذا نحتفل بهذا العيد وليس بغيره؟ لماذا نرتدي ثوبًا بعينه دون الآخر؟ وتأتي الإجابة: هذا ما جرى عليه العُرف.
ولكن ماذا سيكون عليه الحال إذا أدرك مجتمعنا الذي نعيش فيه رهبة الحقبة الزمنية التي نمر بها، وندرك أن التاريخ لا يمكن تجاهله، وأن الأشياء لم تكن دائما على ما هي عليه الآن؟ الحياة اليومية أصبحت معضلة لأننا بتنا ندرك أن هناك أنماطًا مختلفة غير التي تعودنا عليه.
ماذا نفعل إذا أصبحت ثقافتنا، وهي القاعدة الراسخة لكل ما ننتمي إليه، موضوعا للتساؤل والشك في كمالها؟
أعتقد أن الإنسان الذي يستطيع أن يمر من أزمة فترة المراهقة، سيصل حتمًا إلى مرحلة النضوج. ولكن الإنسان الذي ينغلق على نفسه لأنه يفتقر إلى الاستقرار النفسي يتنكر لمراحل الانتقال البديهية لطبيعة الأشياء، ومن ثم إلى مرحلة النضوج، فيرجع إلى مرحلة الطفولة... إلى عالم الضمانات التي يحتمي وراءها. وهكذا يصبح استخدام المنطق مع هذا الإنسان أمرًا شاقًا.
هل يستطيع الإنسان الذي يتبنى التقليدية إدراك أن التقليد الراسخ في ذهنه ينبغي أن يتكيف مع متطلبات العصر؟ لا يحدث التغيير بقصد التغيير فقط، فهذا منطق التفكير المراهق.
الحقيقة أننا لا نستطيع أن ننكر أن التقليد يخلق فلسفة التشريع. وأن الإنسان يحتاج إلى نوع من الاستقرار الحضاري، مثل القيم والعادات غيرها. وليس من الغريب أن جميع الأنماط الأخلاقية تريد أن تكون شاملة وأبدية وصالحة لكل زمان ومكان. ولكن هذا لا يعني أن تنغلق العقول، ولا تنفتح على التغيّرات اللازمة من أجل الحفاظ على روح التطوير الطموح إلى التقدم. وهنا نجد أن الأصولي، لفرط خوفه من أن تذهب عنه قيمه ومعها يذهب معنى حياته، يحتمي دون عقلانية وراء ضمانات مصطنعة.
في زمننا المعاصر، الذي يسميه كثيرون «زمن ما بعد الحداثة» نجد أن كل شيء أصبح إشكالية، وأن أي مساس بـ«المطلق» يسبب الذعر... هكذا نفهم أساس الحركات الأصولية.
* الحضارة كسبيل للتكيف مع البيئة
الحضارة هي النمط الذي من خلاله يتكيف الإنسان مع بيئته. مثلا نرى أن الحيوانات تعتمد على غرائزها من أجل البقاء، ولا يحدث التكيف مع بيئتها المحيطة إلا من خلال التحوّل الجيني لديها. وهذا التحوّل يحدث ببطء حسب تغيرات البيئة الطبيعية التي تعيش فيها هذه الحيوانات، ونرى كيف أن أنواع الحيوانات استطاعت أن تتأقلم مع هذا التغير.
في المقابل يتأقلم الإنسان على حسب أعراف يفرضها عليه المجتمع الذي يعيش فيه، ودون أن يكون عليه انتظار التحول الجيني الذي يحدث بطريقة طبيعية نتيجة للمتغيرات البيئية. وعندما تطلع الإنسان إلى ملكية أجنحة مثل الطيور... ابتكر الطائرة، وعندما تطلع إلى إمكانية اكتساب مستوى ذكاء أعلى... اخترع الكومبيوتر.
وبشكل عام يمكن أن نقول إن القناعات الثقافية في أي دولة هي النظام الأفضل لتلبية احتياجات الفرد في المجتمع، وهذا يشرح لماذا لا يجب إلغاء ثقافة شعب ما تمامًا. ذلك أن استمراريتها مع مراحل الزمن هي التي تمنح الشرعية.
مع ذلك، يجب على الشعب أن يبحث دائمًا عن سبل جديدة للحياة، وألا يترك نفسه للركود، وأن يواجه التحديات التي تأتي مع كل تطور. ويمكن أن نقول إنه يوجد طرفان في المسألة: طرف يمثل الركود والثبات من ناحية، وطرف يمثل التنكر التام لجذور الأصالة من ناحية أخرى. التطرف في الحالتين مهلك وضار بالإنسان. وعندما نستطيع أن نتغلب على مخاوفنا النابعة من كل ما هو مختلف ومتغير سوف نتوصل إلى نتيجة تجمع الطرفين معا. وبالرجوع إلى تاريخ الكنيسة الكاثوليكية في الغرب، نرى الصعوبات التي مرت بها حتى وصلت إلى التغيرات التي أعلنها المجمع الفاتيكاني الثاني، وبعض هذه الصعوبات تعود إلى زمن الحكم الديكتاتوري المطلق الذي ساد الغرب الأوروبي في معظم القرون السابقة، دون أن تعترض عليه السلطة الكنسية في حينه.
* إشكالية التعددية
السلوك الأصولي الذي نطرحه هنا هو سلوك ارتكاسي (أي رد فعل أو فاعلي) بطبيعته. وإن كنا قد طرحنا مسألة الخوف من التغيير، فالخوف من التعددية يصل إلى درجة الهلع. ويبدو أن التعددية هي المفهوم الآخر للريبة والشك. فحين يكون هناك رأي مخالف لرأيي الشخصي هو في حد ذاته تشكيك في كل قناعاتي الشخصية. بالتالي، نرى من الأفضل إذن أن نسير على نمط المثل الشعبي «الباب اللي يجي منه الريح سده واستريح»، أي أن ننغلق عن العالم الخارجي.
غير أن الإنسان الناضج هو ذلك الذي يستطيع أن يؤقلم حياته مع واقع التعدد من حوله، بينما الإنسان غير الناضج فيصير مثل الطفل التائه.
الإنسان الناضج قادر على التمييز بين ما هو سلبي وما هو إيجابي في معظم شؤون الحياة، في حين أن الطفل لا يرى سوى طرفين، الخير من ناحية والشر من ناحية أخرى، وبالتالي لا يعرف الطفل «الحل الوسط». ألا نرى سلوك الطفل عندما يشاهد فيلما حين يسأل عمن يمثل «الخير» ومن يمثل «الشر» في القصة؟ وإذا كان الفصل بينهما عسير تغدو الحبكة القصصية صعبة الفهم بالنسبة له. ولكن بالتدريج يتعلم الطفل التمييز ما بين الخير والشر. أما الأصولي فهو يقسم الواقع إلى فئات وطبقات، وهو يخشى عند مواجهة الواقع أن يفقد هويته. وفي سعيه لوضع «حدود ثابتة» لبداية الأشياء ونهايتها، نجد أنه يضع حدًا فاصلا بين «الأنا» و«اللاأنا»، بين الخير والشر، وبين ما يستحق الثناء وما يجب إزالته. وعندما يدرك الإنسان أن كل الأشياء لا تنتهي عنده، بل إن النهاية قد تكون في الوقت نفسه نقطة بداية لشيء آخر، سينفتح على الآخر. هكذا يصنع السلام. فمن أجل صنع السلام لا أستطيع أن أعتمد كلية على ذاتي. فأنا بحاجة إلى الآخر الذي يختلف عني لأن لديه ملكات ليست عندي. هذا هو نهج التفكير الذي يتبعه الإنسان الناضج والواقعي على المستويات كافة: الاجتماعي، العلمي، الوطني، الديني... إلخ.
* ... وآفة العنصرية
اليوم تضرب العنصرية كثيرًا من الدول الأوروبية. خذ على سبيل إسبانيا التي تشهد سيلا من المهاجرين المغاربة يتدفق نحوها، ومن الطبيعي أن يتخوف المواطن الإسباني من أن تتسبب هذه الهجرة في ارتفاع نسبة البطالة في بلده، ويصبح – وهو «سيد المكان» - مهددا ليس بفقدان عمله فقط، بل أيضا مهدد بتلاشي تقاليده وعاداته أمام عادات وتقاليد لا ينتمي إليها. بل ربما بفقدان هويته أيضا، خصوصا إذا ازداد عدد المهاجرين، وأضحت مطالبتهم بحقوق اجتماعية حقا مشروعًا لهم كمواطنين في البلد ذاته.
نهج الديمقراطية الذي تبنته إسبانيا يحترم اليوم مبدأ التعددية، خصوصا إذا أبدى هؤلاء المهاجرون الاستعداد للتعايش مع ثقافة مجتمع البلد المضيف. غير أن اليمينيين المتشددين الإسبان الذين يسيرون على نهج حزب الجبهة الوطنية الفرنسي، يرون في هذه الهجرة خطرًا يهدد الهوية الإسبانية. وبسبب تأييد أعضاء هذا الحزب بتنا نرى أعدادًا كبيرة منهم، ولا سيما من الفوضويين واليمينيين الحليقي الرؤوس، تعهدت بشن حملة عنيفة على هؤلاء المهاجرين، وهاجمت بشدة النظام الديمقراطي المعمول به.
في ضوء هذا الواقع يصبح السلوك المتوقع من الإنسان المتوازن نفسيًا أن يطرح السؤال التالي: «ما هي إسبانيا؟». تاريخ إسبانيا حافل بالحضارات المختلفة التي تعاقبت عليها خلال حقب كثيرة من الزمن، وأن يدّعي أحد أن إسبانيا كيان مغلق على نفسه تزييف فظيع لواقع هذا البلد.
إذن العنصرية سلوك نابع من الخوف أيضا، الخوف من أفراد يختلفون عنا في صفاتهم الطبيعية والثقافية. أما التنافس بين أقطاب الثقافات المختلفة في إسبانيا فلا يعني، بالضرورة، سلوكًا عنصريًا حتى وإن نبع من الإحساس نفسه بالخوف الذي ذكرته.
من منا لا يحب مشاهدة مباريات الدوري الأميركي لكرة السلة للمحترفين، رغم أن معظم لاعبيه من الزنوج؟ ما نريد أن نشير إليه هنا هو: لكي لا يكون هناك مكان للعنصرية في الغرب يجب عدم ربط التنوع الثقافي باختلاف لون البشرة.
ودعونا نطرح مسألة «التنافس الاقتصادي» لنتساءل لماذا لا نسمع عن هجمات عنصرية على رجال أعمال يابانيين، على الرغم من اختلاف لون البشرة؟ لماذا تشن الهجمات العنصرية على هؤلاء المغاربة ذوي البشرة الداكنة؟
واضح أن المجموعة الأولى - رجال الأعمال اليابانيون - تمثل قوة اقتصادية ومالية واستثمارية لا يستهان بها، وبهذه الإمكانات توفر فرص عمل؛ بينما المجموعة الثانية - الوافدون - تختصر عند الإسباني «الخائف» جميع المشكلات الاجتماعية التي نتجت عن الخوف الجمعي من البطالة والفقر وشتى مخاطر الحياة في المدن الكبرى.
إذا كان جوهر المشكلة هو الاختلاف الثقافي والاقتصادي فربما عفونا عن لفظ العنصرية. فمن منا يعترف أن بداخله بعض النزعات العنصرية؟ ولكن إذا شاءت الصدفة أن تلتقي بجماعة الفوضويين العنصريين وتتعامل معهم فإنك سرعان ما تنزعج من مشاعر النفور الشديد لدى هؤلاء تجاه العرق الزنجي. والخوف من الاختلاف عند هذه الجماعة تحول إلى آلية دفاعية عنيفة، فغدوا متطرفين لا يترددون في اللجوء إلى العنف. وطبعًا، للتطرف أشكال أقل حدة: فلبعض أولياء الأمور مثلاً تحفظات عن اختلاط أبنائهم وبناتهم في صداقات مع أجناس أخرى.
نحن نتحدث عن العنصرية وكأن من المسلّم به أن نصنف البشر إلى أجناس، على الرغم من أن عددا كبيرا من المتخصصين أكد أن الاختلاف الجنسي بين البشر ليس له أي أهمية في التركيبة الإنسانية.
نستطيع إذن أن نستخدم، بدلا من كلمة «العنصرية» لفظا بديلا كـ«الجماعات العرقية»، ذلك أن هذا التعريف يشمل الأعراف والتقاليد الحضارية والثقافية التي تنتمي إليها هذه الجماعات الإنسانية والتي على أسسها ترتكز حياتهم.