عصر ترامب

لا جدال في أن الانتخابات الرئاسية الأميركية كانت من أهم الأحداث التي جذبت انتباه الشعب الأميركي واهتمامه، ومن وراء الشعب الأميركي شعوب العالم.
مئات الملايين تابعوا أشواط السباق الانتخابي الذي شهد صراعًا وتنافسًا وخلافًا ومعارك وفضائح، وكل أشكال المشهيات السياسية. إذ يمكن القول إنه لم يخل يوم خلال العام المنصرم من الإثارة والسخونة في مختلف المحطات التي مرت بها حملة الانتخابات وكل المناظرات التلفزيونية، وتطايرت التصريحات المسيئة والغريبة والمثيرة للجدل في كل مكان.
وشهد الفصل الأخير من الانتخابات وومضات الحظ والمصادفة وحلاوة النصر ومرارة الهزيمة... فوز المرشح الجمهوري دونالد ترامب. ولقد أثار هذا الفوز بالأصوات الانتخابية - لا الشعبية - تساؤلات حرجة حول دقة أو صدقية تقارير ودراسات مراكز الأبحاث ونتائج استطلاعات الرأي التي توقعت كلها تقريبًا فوز منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون، وأسباب إخفاقها في التنبؤ باتجاهات الناخبين بشكل دقيق، مع العلم بأن كلينتون تقدمت على منافسها في حساب الأصوات الشعبية بأكثر من مليونين و700 ألف صوت.

مفاجآت بالجملة
جميع المحللين يؤكدون أن الانتخابات الرئاسية الأميركية لعام 2016 كانت غير مسبوقة في أحداثها ومفاجآتها ونتيجتها. ومنذ إعلان نتيجة الانتخابات الرئاسية في الساعات الأولى من صباح التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) الفائت لم تتوقف محاولات التحليل حول أسباب فوز ترامب هزيمة كلينتون، وبالتوازي معها محاولات التشكيك وحالات رفض التصديق والغضب.
وتقول مجلة «بوليتيكو» إن خبرة ترامب التجارية ونجاحه الاقتصادي وحبه الظهور وتمرّسه في برامج «تلفزيون الواقع» غطت على جهله وافتقاره للرؤية والآيديولوجية. ثم إن جرأته سمحت له بالاستفادة من كل خطأ ارتكبه كل معارض ومنافس واجهه. وقرر منذ اليوم الأول في السباق أن يفرض شروط اللعب ونجح في جذب الشبكات الإعلامية لتغطية أخباره ومنحه دعاية مجانية، واستغل تويتر في التواصل مباشرة مع وسائل الإعلام والناخبين».
قرار ملياردير العقارات ترامب خوض الانتخابات الرئاسية أعلنه في 16 يونيو (حزيران) 2015. وربما فاجأ به يومذاك راصدي الأوساط السياسية وقادة الحزب الجمهوري الذين اعتقدوا أن خوضه السباق الرئاسي «أضحوكة»، وأنه لن يقوى على البقاء والمنافسة. أما قرار وزيرة الخارجية السابقة هيلاري كلينتون بخوض السباق الرئاسي فلم يكن مفاجئًا البتة، بل كانت تتوقعه الدوائر السياسية والحزبية ويعرفه المقربون من كلينتون. وبالفعل، أعلنت كلينتون رسميًا قرارها خوض السباق الرئاسي في 12 أبريل (نيسان) 2015، مع أنها بدأت الإعداد لخوض السباق منذ منتصف عام 2013.

إيميلات هيلاري كلينتون
وتكشف إيميلات كلينتون إلى جون بوديستا - رئيس حملتها في ما بعد - بحثها عن أفضل عناصر وخبراء استراتيجيين لتشكيل فريقها الانتخابي. ولقد استعانت في ذلك الوقت بديفيد بلوف مدير حملة أوباما عام 2008، الذي نجح في هندسة حملة انتخابية أوصلت أوباما إلى البيت الأبيض. وقدم بلوف لكلينتون تفاصيل خططه الاستراتيجية التي حققت لأوباما النجاح، ونصحها بالتركيز على معاقل مجتمعات السود الديمقراطية والناخبين الشباب والمتعلمين، وتوجيه رسائل تصب في مسار جذب المجمع الانتخابي الديمقراطي. لكنه بلوف أغفل في نصيحته الطبقة المتوسطة البيضاء.
ولاحقًا تعدلت الخطة مع حاجة كلينتون لجذب البيض المتعلمين وذوي الأصول الإسبانية لتعويض فقدان الناخبين السود والشباب الذين كسبهم أوباما بسهولة. وأشار معظم الديمقراطيين إلى أن بلوف بنى استراتيجية رئاسية متينة يمكن أن تخدم أي مرشح، غير أن المخطط الاستراتيجي أدرك بعد ذلك أن الأمر يعتمد على الشخصية أكثر من الاستراتيجية، فكتب بعد الانتخابات مقالاً في صحيفة «نيويورك تايمز» قال فيه إن كلا من رونالد ريغان وأوباما والآن ترامب استطاعوا خلق استراتيجية شخصية فريدة لهم.

نهاية مشوار عائلة
وفي 16 ديسمبر (كانون الأول) 2014 أعلن جيب بوش، حاكم ولاية فلوريدا السابق وابن وشقيق الرئيسين جورج بوش الأب وجورج بوش الابن، قراره بخوض سباق الترشح للرئاسة.
واستطاع جيب بوش جمع الملايين من التبرعات لحملته، وظل حتى يونيو 2015 متصدرًا للسباق داخل الحزب الجمهوري، وهنا تقول مجلة «بوليتيكو» إنه لولا وجود جيب بوش في السباق لما فاز دونالد ترامب. ذلك أن محاولة بوش أن يكون ثالث أبناء الأسرة احتلالاً للبيت الأبيض زاد من نقمة الناخبين الجمهوريين الغاضبين على «مؤسسة» حزبهم، وأيضًا الناخبين الغاضبين من دور الرئيس جورج بوش الابن في غزو العراق، والأموال الضخمة التي أنفقت في تلك الحرب. وبالتالي، كان هناك نوع من الرفض داخل صفوف الناخبين الجمهوريين العاديين لفكرة وجود رئيس ثالث من عائلة بوش في البيت الأبيض.
وهنا يقول مستشار ترامب السابق مايك كابوتو: «جيب بوش كان يمثل كل شيء يقف ضده ترامب، ولم يكن هناك خصم أكثر ملاءمة مثل جيب بوش لشن الهجوم عليه». وحقًا، وجد ترامب ضالته المنشودة لمهاجمته بأسلوبه الجريء والمضحك، وسخريته من افتقار جيب بوش للحيوية، في مقابل جيب بوش المهذب الذي انخفضت أسهمه بشكل كبير مع نهاية عام 2015 وبداية عام 2016. والحقيقة أن جيب بوش كافح ضد محاولات ترامب المتكررة لاصطياده، لكنه أدرك بعد المناظرة الثامنة للحزب الجمهوري في ولاية نيو هامبشير في السادس من فبراير (شباط) 2016 أنه عاجز عن تحقيق الاختراق السياسي اللازم. وعندما فاز ترامب بالانتخابات الترشيحية في ولاية ساوث كارولينا أعلن جيب بوش في غضون ساعات قليلة من إعلان النتيجة انسحابه رسميًا من السباق.

كوكبة الجمهوريين الطامحين
وبحلول شهر مايو (أيار) 2015 كان الكثير من المتسابقين والطامحين قد أعلنوا بشكل رسمي ترشحهم للسباق. وشهد الحزب الجمهوري تدفقا كبيرا في عدد المرشحين بينهم كارلي فيورينا سيدة الأعمال المديرة التنفيذية السابقة لشركة كومبيوتر هيوليت باكارد، وبن كارسون طبيب الأعصاب المتقاعد، ومايك هاكابي حاكم ولاية أركنساس السابق، والسيناتور ريك سانتورم من ولاية بنسلفانيا، وحاكم ولاية نيويورك السابق جورج باتاكي.
وفي يونيو 2015 توالت أسماء المرشحين الآخرين مثل السيناتور ليندسي غراهام من ساوث كارولينا، وحاكم ولاية تكساس ريك بيري، وحاكم ولاية فلوريدا السابق جيب بوش، والملياردير دونالد ترامب، وحاكم ولاية لويزيانا بوبي جيندال، وحاكم ولاية نيوجيرسي كريس كريستي، وحاكم ولاية أوهايو جوش كايسيك، إضافة إلى السيناتور ماركو روبيو من فلوريدا، والسيناتور تيد كروز من تكساس، والسيناتور راند بول من كنتاكي.
وفي أول مناظرة تلفزيونية في 6 أغسطس (آب) استضافتها مدينة كليفلاند بولاية أوهايو 2015 بلغ عدد المرشحين للحزب الجمهوري 17 مرشحًا، واضطرت الشبكات التلفزيونية المستضيفة للمناظرة الحزبية تقسيم المناظرة إلى جزأين ليظهر المرشحون العشرة الأوفر حظًا في استطلاعات الرأي في جزء، والسبعة الآخرون الأقل حظًا في جزء آخر. وقبل إجراء المناظرة الثانية للمرشحين الديمقراطيين في 16 سبتمبر (أيلول) 2015 كان حاكم تكساس السابق بيري قد أعلن انسحابه من السباق. وشهد يوم 13 أكتوبر (تشرين الأول) 2015 المناظرة الأولى لمرشحي الحزب الديمقراطي التي استضافتها مدينة لاس فيغاس في ولاية نيفادا، وشملت خمسة مرشحين منهم هيلاري كلينتون، والبروفسور لورانس ليسنغ بجامعة هارفارد، والسيناتور جيم ويب من ولاية فيرجينيا، وحاكم ولاية ماريلاند السابق مارتن أومالي، والسيناتور بيرني ساندرز من ولاية فيرمونت. وسرعان ما انسحب ثلاثة مرشحين وبقي كل من كلينتون وساندرز بالسباق. وبعد خمس مناظرات تمهيدية داخل الحزب الجمهوري وقبل بداية عام 2016 كان السيناتور غراهام قد أعلن انسحابه من السباق، وبعده انسحب الحاكم باتاكي.

العد التنازلي للمعركة
وفي 17 يناير (كانون الثاني) 2016 عقد الحزب الديمقراطي مناظرته الرابعة في ولاية نورث كارولينا، وفي 28 يناير 2016 عقد الحزب الجمهوري مناظرته السابعة في ولاية آيوا، ومع بداية فبراير 2016 أعلن السيناتور بول انسحابه، وانسحب أيضا السيناتور سانتورم.
وفي فبراير حقق ترامب ثلاثة انتصارات لافتة في أربعة انتخابات وتجمعات انتخابية أجريت في ولايات آيوا ونيوهامبشير وساوث كارولينا ونيفادا في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري. وفي ساوث كارولينا بالذات حقق ترامب أكبر حجم تصويت يحصل عليه أي جمهوري في انتخابات تمهيدية في أي ولاية، وهو ما دفع جيب بوش للانسحاب. وتمثلت المفاجأة هنا، في أن ساوث كارولينا تعد معقلاً تقليديًا لليمين المحافظ، ولذا تذهب أصوات جمهورييها إلى المرشحين المحافظين بينما لا يعد ترامب ممثلا للتيار المحافظ - على الأقل دينيًا واجتماعيًا - كما أنه مرشح شمالي وليس من ولايات الجنوب. ومن ثم، بعد هذه المحطة احتدم التنافس عند الجمهوريين بين ترامب والسيناتور روبيو والسيناتور كروز والطبيب كارسون وحاكم أوهايو جون كايسيك. أما في المعسكر الديمقراطي فقد حققت كلينتون فوزًا مريحًا على منافسها اليساري بيرني ساندرز في الانتخابات الديمقراطية التمهيدية بولاية نيفادا، لكن أصوات ذوي الأصول اللاتينية ذهبت بشكل أكبر لصالح ساندرز الذي وعد بإصلاحات في الهجرة.

«الثلاثاء الكبير»
وفي انتخابات يوم «الثلاثاء الكبير» في شهر مارس (آذار) 2016 التي أجريت قبل انعقاد المؤتمرين الحزبيين الكبيران - انعقدا في يوليو (تموز) - في مدينة كليفلاند بولاية أوهايو للحزب الجمهوري، وفي مدينة فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا للحزب الديمقراطي - بدا واضحًا تقدم ترامب عند الجمهوريين وكلينتون عند الديمقراطيين في المؤشرات الأولية، حيث فاز ترامب بسبع ولايات بينما فاز منافسه كروز بثلاث ولايات، وحقق روبيو انتصارا وحيدا في ولاية مينيسوتا. وفي المعسكر الديمقراطي فازت كلينتون بتصويت سبع ولايات بفارق كبير عن منافسها اليساري ساندرز.
وبعدها، أثرت الهجمات الإرهابية في العاصمة البلجيكية بروكسل على خطابات المتسابقين الرئاسيين الذين ركزوا على مكافحة الإرهاب وتقديم مقترحات متشددة ضد المسلمين. وفي أبريل حقق تيد كروز نصرًا على ترامب في ولاية ويسكونسن، كما فاز ساندرز على كلينتون في الولاية نفسها (التي عادت وخسرتها في الانتخابات الرئاسية أمام ترامب). لكن الأمر لم يستمر على حاله طويلاً، إذ فاز ترامب لاحقًا في خمس ولايات على الساحل الشرقي للولايات المتحدة، وفازت كلينتون أيضا بأربع ولايات.
ومع بداية شهر مايو بعد فوز ترامب بولاية إنديانا (التي اختار لاحقًا حاكمها مايك بنس ليكون نائبًا له) أعلن كروز انسحابه من السباق، تلاه حاكم كايسيك ولاية أوهايو المتاخمة لإنديانا، كما انسحب كارسون وهو ما مهد الطريق ليصبح حصول ترامب على ترشيح الحزب الجمهوري مضمونًا وسهلاً. ويجري من ثم الإعلان رسميًا اختيار ترامب ممثلاً للحزب الجمهوري في الانتخابات، وبالنسبة للديمقراطيين حسم اختيار هيلاري كلينتون لتغدو أول امرأة تمثل الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية.

ترامب والمرأة
بعد ذلك واجه ترامب مفاجأة وفضيحة كبيرة بتسريب شريط فيديو يعود إلى عام 2005 يتكلم فيه ترامب بطريقة مهينة وشائنة عن النساء، وكانت هذه فضيحة خلّفت دويًا كبيرًا، ودفعت الكثير من الجمهوريين إلى الهجوم عليه. ورغم اعتذار المرشح الملياردير عن الفيديو، خرجت تقارير واستطلاعات رأي تشير إلى تراجع حظوظ ترامب واتجاه الجمهوريين لمناقشة بدائل عنه.
وعلى امتداد ثلاث مناظرات أجريت بين كلينتون وترامب حققت المرشحة الديمقراطية نجاحًا كبيرًا في المواجهة، وبدت مستعدة في الإجابة على الأسئلة وتحويل المسار إلى هجمات متتالية على منافسها. وخرجت الاستطلاعات تشير إلى تقدم كلينتون بفارق بسيط على منافسها.
وبعدها، استدعت كلينتون كل ما يمكن أن يحقق لها دعما في السباق، وأقبل على دعمها نجوم الغناء والسينما الأميركية، وكذلك الرئيس باراك أوباما وزوجته ونائبه جو بايدن في الكثير من المؤتمرات الانتخابية لحشد الناخبين لصالحها، وخصوصا في الولايات المتأرجحة ما بين تأييد مرشح الحزب الجمهوري ومرشحة الحزب الديمقراطي.

ضربة الـ«إف بي آي»
وفجأة، جاء إعلان مكتب التحقيقات الاتحادي (إف بي آي) قراره إعادة فتح التحقيق بشأن إيميلات كلينتون لهز حملة المرشحة الديمقراطية، وما يعتقد اليوم أنه أسهم إسهامًا كبيرًا في خسارتها. وعلى الرغم من إعلان «إف بي آي» بعد بضعة أيام عدم وجود أي جديد في قضية الإيميلات والامتناع عن توجيه أي اتهامات لكلينتون، فإن هذه الخطوة أخرجت قطار حملتها عن سكته وزرعت الشك في نفوس كثرة من الناخبين المترددين.

ليلة الانتخاب
وفي الثامن من نوفمبر تدفق ملايين الأميركيين للتصويت في الانتخابات الأميركية لاختيار الرئيس الرقم 45 للولايات المتحدة.
ووقف الأميركيون والعالم يتابع نتائج فرز الأصوات في الولايات المتخلفة. وأخذت النتائج غير الرسمية تظهر تباعًا، وأدى تقدم ترامب في ثلاث ولايات شمالية كان من المفترض أن تذهب للديمقراطيين هي بنسلفانيا وميشيغان وويسكونسن - كانت قد صوتت لأوباما عامي 2008 و2012 - إلى قلب التوقعات، وترجيح فوز المرشح الجمهوري. وفعلاً خلال فترة قصيرة كان ترامب ضمن تجاوز حاجز الـ270 صوتًا اللازمة للفوز بالانتخابات، وبحلول الساعات الأولى من صباح التاسع من نوفمبر كانت النتيجة قد وضحت بفوز ترامب بالانتخابات الأميركية. واستقبل الرئيس أوباما الرئيس المنتخب دونالد ترامب في البيت الأبيض في لقاء تاريخي. كما استقبل الكونغرس ورئيس مجلس النواب بول رايان الرئيس المنتخب وزوجته ونائبه. وحاليًا يعد الكونغرس لحفل تنصيب الرئيس في العشرين من يناير المقبل بحلة جديدة بعد عدة سنوات من الإصلاح والتجديد في مباني الكونغرس.