«الحافلات الخضر»... من رمز للتحديث إلى وسيلة للتهجير

الحافلات ذات اللون الأخضر الليموني، التي كانت تنقل السوريين ذات يوم إلى المدرسة، والعمل، ومقاهي دمشق، تتوقف الآن عند لحظات الهزيمة، حيث يتخلى مقاتلو المعارضة والمدنيون، الذين فُرض عليهم الحصار، وتعرضوا للقصف الجوي، عن أراضيهم للقوات التابعة للنظام، ويستقلون الحافلات متجهين نحو مستقبل مجهول يخيم عليه الغموض.
صور الحافلات في كل مكان؛ حيث تظهر في التقارير، التي تذاع على التلفزيون الرسمي والمواقع الإلكترونية التابعة للنظام، احتفاء بعمليات الجلاء، وكذلك في المقاطع المصورة للمعارضة التي تنتحب على ما يطلقون عليه «عمليات تهجير». ينظر النساء والأطفال، أو المقاتلون الذين يحملون سلاحا، من النوافذ، وهم يبكون، أو يهتفون بتحد، أو يحملقون في الفراغ وهم يغادرون المناطق، التي ظلت لفترة طويلة تمثل الثورة ضد الرئيس بشار الأسد، مثل ضاحية داريا في دمشق التي تم إخلاؤها مؤخرًا.
عادة ما يتم منح الركاب حرية اختيار الذهاب إلى وجهة من بين وجهتين، لكن في ظل الحرب الأهلية التي تتسم بالفوضى والدموية، يعد كلا الخيارين بائسا؛ حيث يمكنهم استقلال الحافلات الخضراء المتجهة إلى الأراضي التي يسيطر عليها النظام، حيث يخشى الكثيرون الاعتقال والتجنيد، أو إلى منطقة أخرى تسيطر عليها المعارضة، حيث يواجهون خطر الهجمات الجوية المستمرة من جانب النظام، مثل تلك التي أصابت مدرسة في محافظة إدلب في شهر أكتوبر (تشرين الأول) الماضي ما أسفر عن مقتل 22 طفلا.
قال جلال التلاوي، فني كومبيوتر يبلغ من العمر 36 عاما: «اللعنة على الحافلات الخضراء. إنني أراها في أحلامي». وكان جيران التلاوي في حي الوعر الواقع على أطراف مدينة حمص قد تجادلوا مؤخرًا بشأن استقلال الحافلات خلال آخر عملية من عمليات الجلاء التي تم عرضها عليهم. وكان التلاوي يشعر بحالة تشبه حالة التكرار؛ فمنذ عامين استقل حافلة خضراء مع مقاتلين متجهة إلى خارج البلدة القديمة في حمص في إطار اتفاق مع النظام، ليجد نفسه في مواجهة حصار آخر في الوعر. وأوضح قائلا: «لقد أصبنا بالرهاب من شكل الحافلة. لقد باتت تمثل في أذهاننا عملية النزوح».
وصلت الحافلات المصنوعة في الصين إلى المدن السورية للمرة الأولى وسط أجواء من الاحتفالات عام 2009؛ ففي ذلك الوقت، كانت ترمز إلى التحديث الذي وعد به الأسد. وتم طلاؤها في مرحلة ما باللون الأحمر، وتم وضع شعار شركة هواتف جوالة كان يمتلكها ابن عم الرئيس، وحلّت محل حافلات المدارس المتهالكة، وعُززت الشاحنات البيضاء الصغيرة التي تعرف باسم الـ«سيرفيس»، لتوفير وسائل مواصلات عامة متطورة ذات تكلفة معقولة للطلبة والعمال.
ويتحدث أسامة محمد علي، وهو ناشط معارض للنظام، ومحاصر حاليًا في حي الوعر، بحزن عن أيام ركوب الحافلة إلى كلية الحقوق في حمص خلال الأيام الممطرة مع ناس من مختلف المشارب والطوائف. وقال: «لقد كان السائق معتادًا على تشغيل أغاني المطربة اللبنانية فيروز، وكان الاحترام يسود فيما بيننا. عندما كنت أرى رجلاً عجوزًا يقف في الحافلة، كنت أنهض وأعرض عليه الجلوس». مع ذلك عند اندلاع المظاهرات المطالبة بالإصلاح السياسي عام 2011، تم استخدام الحافلات لنقل ضباط أمن الدولة، الذين كانوا يرتدون زيًا مموهًا، أو مقاتلي الجماعات المسلحة الذي يحملون السلاح، في أنحاء دمشق لضرب المتظاهرين، والقبض عليهم.
ومع تحول الانتفاضة إلى صراع مسلح، أسفرت الاشتباكات عن حافلات محترقة صدئة تملا الشوارع. وكان يتم استخدام تلك الجثث المعدنية أحيانًا كحواجز فاصلة بين الأراضي التي يسيطر عليها النظام، والأراضي الأخرى التي يسيطر عليها المتمردون.
وأدانت الأمم المتحدة عمليات الجلاء، ووصفتها بالـ«تهجير القسري» للمدنيين، ودعت إلى السماح للمقيمين بالـ«عودة طوعًا في أمان وبكرامة». ومع استمرار جيش النظام في طرد المدنيين من المناطق، التي يصعب السيطرة عليها، تخاطر الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات، التي تعمل في البلاد، بالتورط في «سابقة خطيرة» بحسب ما كتب مؤخرًا أرون لوند، محلل في مركز «كارنيغي» لـ«الشرق الأوسط».
كان أبو عدنان، البالغ من العمر 50 عاما أحد سائقي تلك الحافلات؛ ونقل 20 مقاتلا وأسرهم إلى محافظة إدلب، التي لم يذهب إليها الكثير منهم من قبل. وبكوا عندما عبروا نقطة التفتيش بينما يغادرون مدينة داريا. وقال أبو عدنان، الذي طلب ذكر لقبه فقط تفاديا لعواقب تعبيره عن تعاطفه، في مقابلة: «حتى أنا بدأت أبكي؛ فبكاء الرجال أمر صعب. لقد رأيت رجلا مسلحا يضع بعض تراب أرض داريا في حقيبة بلاستيكية، ويشمه وكأنه تراب من الجنة».
وقال إن الرحلة، بلغ طولها 200 ميل، واستغرقت 30 ساعة، مع احتساب مدة التوقف في نقاط التفتيش الكثيرة. في بعض الحالات، هدد الركاب من المعارضة بإطلاق النار إذا صعدت قوات الأمن على متن الحافلة؛ وفي حالات أخرى، كان هناك رجال أمن يهتفون للأسد، بينما كان يهتف الركاب لداريا والثورة.
ولدى سكان شرق حلب الكثير ليهربوا منه: الهجمات الجوية، التي يشنها النظام بالتعاون مع روسيا، على المستشفيات، والمباني السكنية، والمدارس، وتناقص المواد الغذائية. من الصعب معرفة عدد سكان المدينة المتبقين، وغيرها من البقاع المضطربة الأخرى، الذين سيغادرون إذا حصلوا على ضمانات تؤكد سلامتهم. ويقول الكثيرون، بما فيهم السكان كبار السن، إنهم يريدون فقط البقاء في ديارهم.
يتذكر التلاوي، الذي استقل الحافلة الخضراء مغادرًا حمص عام 2014، لكنه رفض ركوبها مرة أخرى في الوعر خلال العام الحالي، أنه عندما استقل أحد أصدقائه الحافلة، أخرج تذكرة قديمة ووضعها في الماكينة التي تختمها، وكأنه في رحلة عادية، واحتفظ بها. وقال التلاوي: «لقد قال إنه سيستخدمها مرة أخرى في طريق عودته».

* خدمة «نيويورك تايمز»