الخليج بين مطرقة إيران وسندان «داعش»

يلاحظ على العمليات الإرهابية في المملكة العربية السعودية ودول الخليج، منذ ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، أنها كانت عابرة للطوائف، سنية وشيعية على السواء. وكما ظهرت جماعات متطرفة معًا اشتركت في نموذجها ومثالها في نظام الثورة الإسلامية الإيرانية عام 1979، وهو نفس التاريخ الذي توحّدت فيه مجموعات «الجهاد المصري»، في تنظيم واحد - الجرثومة الأولى لتنظيمات التطرف في العالم - كما استلهمه فتحي الشقاقي مؤسس حركة «الجهاد الإسلامي» في فلسطين، مؤكدا على تبعيته للخميني بالخصوص الذي يراه حقق طموح إمامه السابق حسن البنا، مؤسس جماعة الإخوان المسلمين و«أبو الإسلام السياسي» في المنطقة.
نرى عمومًا تقصير بعض المراقبين والباحثين الغربيين في التنبه إلى أن التطرف، واستطرادًا، تداعياته بل انحرافاته الإرهابية - ظاهرة عابرة للطوائف أو المذاهب. والسبب هو الشهرة التي اكتسبتها الجماعات الراديكالية المنسوبة للسنّة، من القطرية إلى المعولمة، مع «القاعدة» ثم «داعش». إن فكرة «الجهاد» موجودة لدى كل الطوائف. ومن ثم تظل محمولة على جرثومة وأصل الإسلام السياسي وطموحه الحاكمي. والمؤكد أنه من الخطأ التقصير في إدراك التنوع داخل كل طائفة، إذ ليس كل خطاب متشدد هو خطاب يستحق وصف «جهادي» سنيًا كان أم شيعيًا. ولا يمثل ممثلو التطرف العنيف في الطائفتين الكبيرتين إلا نزرا يسيرا وجزءا صغيرا من مجموعهما ومجتمعاتهما التي استقرت تاريخيا واستقرت معها مرتكزاتها المعتدلة الممهدة للتعايش غير الطائفي.
إلا أن الإرهاب - العابر للطوائف والأديان - والمتوالد من رحم طموح الحاكمية السياسي والانقلاب المودودي والقطبي والخميني على التاريخ وإعادته للحظة تجليه الأولى في عهود الخلفاء أو الأئمة، ينفس القاموس التكفيري والديني، الذي يصمّ الدول والمختلف - بغض النظر كذلك عن طائفته ودينه بالردة والعمالة والخيانة. ويجعله فرصة للاستحلال دون حرمة، يقولها مرشد هنا أو أمير هناك، وتؤمن بتصوراته السلبية «عصائب وجماعات» تدعي الحق سنية وشيعية على السواء.
ليس أدل على الإرهاب الطائفي، واجتماعه رغم اختلافه، من أنه يجتمع على استهداف نفس الخصوم أحيانًا. ومن حصر عمليات الإرهاب والتطرف العنيف في منطقة الخليج، رغم تراجعه النسبي العام الحالي عن أعوام سابقة، فإنه ظل إرهابا عابرا للطوائف تقوم به جماعات وخلايا متطرفة سنية وشيعية على السواء، كما سنوضح.
* التصنيف الشامل للإرهاب
كانت دول مجلس التعاون الخليجي الأسبق عربيا في تصنيف الجماعات الإرهابية والمتشددة، وهو المسار الذي بدأته السعودية في 7 مارس (آذار) 2014 حين أعلنت تسع جماعات كجماعات إرهابية - سنية وشيعية على السواء - في المنطقة، كما أعلنت عددا من الإجراءات في مواجهة عناصره.
ثم صدرت قائمة أخرى عن دولة الإمارات العربية المتحدة في 25 نوفمبر (تشرين الثاني) 2014 تضم 86 جماعة ومنظمة عنيفة، نص قرار مجلس الوزراء أنها قابلة للنقص والزيادة. ثم أصدرت مملكة البحرين في 11 أبريل (نيسان) 2016 قائمة بـ68 منظمة وجماعة اعتبرتها إرهابية - عابرة للطوائف أيضًا -. كما صدرت قرارات تخص جماعات بعينها عن مجلس التعاون الخليجي، مثل اعتبار «حزب الله» منظمة إرهابية في 2 مارس من العام الحالي سنة 2016.
كذلك، كانت المملكة العربية السعودية ودول الخليج ومصر والأردن الأسبق في الدعوة للحرب الدولية على «داعش»، وإدراك مخاطر بقاء الأزمة السورية وتداعياتها على المنطقة كذلك، وشاركت قوات سعودية وإماراتية بعد إعلان التحالف الدولي في سبتمبر (أيلول) 2014 ضمن قواته التي بدأت عملياتها في نفس الشهر.
* مطرقة «داعش» وسندان إيران
ولقد نشطت الخلايا المنسوبة لـ«داعش» بشكل واضح خلال العام الماضي والعام الحالي في الخليج. ولم تلاحظ عمليات لتنظيم القاعدة بشكل كبير باستثناء اليمن، ولكن في الكويت باستثناء تفجير مسجد الصادق في 26 يونيو (حزيران) 2016، الذي راح ضحيته 27 قتيلا و227 جريحا، تم الحكم بالإعدام على اثنين من خلية سميت إعلاميا بـ«خلية العبدلي» المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني، في 12 يناير (كانون الثاني) 2016 بعد ضبطهما في أغسطس (آب) 2015. وتبدو البحرين نموذجًا ومثالاً واضحًا للإرهاب العابر للطوائف. إذ نجحت البحرين خلال عام 2016 في إحباط كثير من المحاولات الإرهابية، وتهريب السلاح للمجموعات الشيعية المتطرفة منذ عام 2011 حتى 16 يناير 2016 لما يقارب 12 عملية إرهابية كبيرة. وهو ما ترتب عليه قطع العلاقات الدبلوماسية بين البحرين وإيران في الأول من أكتوبر (تشرين الأول) 2015 بعد طرد البحرين للقائم بالأعمال الإيراني فيها. ولقد ذكر وزير الخارجية البحريني في حوار معه سبتمبر من العام الماضي أن «المتفجرات المرسلة من طهران كافية لمحو المنامة». وبالفعل، تقدمت مملكة البحرين رسميا في 2 أكتوبر 2015، بشكوى رسمية ضد إيران لانتهاكاتها السافرة واستمرار تدخلها المرفوض في الشأن الداخلي للمملكة. وجاء ذلك بعد يوم من قرار البحرين، سحب سفيرها لدى إيران، واعتبار القائم بأعمال سفارة إيران لدى المملكة، محمد رضا بابائي، شخصًا غير مرغوب فيه، وعليه مغادرة البلاد خلال 72 ساعة. وجاء قرار سحب السفير بعد يوم من إعلان وزارة الداخلية البحرينية، القبض على خلية إرهابية على صلة بإيران. ثم صدر بيان قمة المؤتمر الإسلامي في تركيا رغم وجود الرئيس الإيراني حسن روحاني بإدانة واضحة لإيران وتدخلاتها ودعمها للإرهاب في المنطقة. وفي المقابل، لم تشهد قطر وعُمان أي عمليات إرهابية خلال السبعة شهور الأولى من هذا العام، ولا العام الماضي لتبدوا أنهما البلدان الأكثر استقرارًا في المنطقة.
سعوديًا، بلغ عدد ضحايا الإرهاب الداعشي في المملكة العربية السعودية ما بين يناير ويونيو 2016، نحو 13 قتيلا و31 جريحا على الأقل، كما شهدت المملكة العربية السعودية فقط بين مايو (أيار) 2015 ومايو 2016 نحو ثلاثين عملية، بمعدل عملية كل اثني عشر يومًا. وشهدت منذ إصرار بن لادن و«القاعدة» لها وانطلاق عملياتهما ضدها في مارس 2003 وحتى العام الماضي فقط 2015 ما يقارب (124 عملية إرهابية) راح ضحيتها عشرات من المدنيين ورجال الأمن، وأصيب مئات آخرون، كان أولها مطلع شهر نوفمبر 2014 بحادث الدالوة. ولقد تلته تفجيرات أخرى في مسلسل عمليات «داعش» في المملكة، كما حاول بعض عناصرها تنفيذ عمليات أخرى فاشلة في البحرين والإمارات والكويت، ووجه زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي توجيها صريحا لأتباعه باستهداف المملكة العربية السعودية في 30 أبريل 2015.
وركّز «البغدادي» في كلمته التي نشرتها «مؤسسة الفرقان» الإعلامية، التابعة لتنظيم داعش، بعنوان «ولو كره الكافرون» في شهر نوفمبر 2014 بصورة لافتة على المملكة العربية السعودية، حيث وصفها في تسجيله الصوتي بأنها «رأس الأفعى ومعقل الداء» - على حد زعمه - . كما وجه في كلمته دعوة صريحة لأنصاره بشن هجمات في السعودية، إذ قال: «لا مكان للمشركين في جزيرة محمد صلى الله عليه وسلم». وحدد لهم الأولويات، فحرضهم أولا على قتل الشيعة، ثم حرض على استهداف كل من في السعودية بقوله «مزقوهم إربًا، نغصوا عليهم عيشهم، وعما قريب تصلكم طلائع الدولة الإسلامية».
ولقد شهدت السعودية عددا من العمليات والمحاولات الانتحارية خلال العامين الأخيرين، تبلغ 15 عملية تقريبا، ارتكبت معظمها خلايا تتبع «داعش»، وبعضها الآخر متطرفون شيعة. وهذا الحصر بعيدا عن الحوادث الفردية والأسرية الأخرى، التي منها ثلاثة هذا العام حتى منتصف أغسطس، و11 عملية حتى نهاية عام 2015، كان أبرزها في الرابع من يوليو (تموز) 2016 الماضي، حين وقعت تفجيرات متزامنة استهدفت المصلّين في عدد من المساجد بالقرب من مسجد النبي (صلى الله عليه وسلّم) في المدينة المنورة، وفي مساجد سنية في جدة وشيعية في منطقة القطيف.
* الكافرون بالوطن ليسوا أبناءه
رغم استقرار دول الخليج على اختلافها، ورغم رمزية السعودية الدينية والروحية عند المسلمين، بالخصوص، فإنها تبدو لذلك أول هدف لتنظيمات التطرف، وهدفًا لإيران والأنظمة الدينية في المنطقة. إذ يصار إلى «تكفيرها» من قبلهما على أساس علاقاتها مع المجتمع الدولي والغرب تاريخيا واستراتيجيا، كأهم مناطق إنتاج البترول في العالم، وكذلك لمخالفة الدول الخليجية الواضحة لأجندات وتوجهات التنظيمات المتطرفة السنية والشيعية على السواء.
وحقًا، قد شاهدنا عام 2014 عددًا من عناصر «داعش» وهم يقطعون جوازات سفرهم الصادرة عن المملكة، متنكرين لوطنهم وأصولهم ومواطنيهم، وكان في مقدمتهم عثمان آل نازح العسيري، أحد شرعيي «داعش»، الذي قتل في سوريا خلال يناير عام 2015. ولكن تبدو التوجهات السعودية السياسية المعتدلة، التي لم يدركها مَن أيدوا «جاستا»، وكذلك توجهاتها التاريخية والدينية السائدة، مثار توجس وتحفز مستمر من قبل الخلايا المتطرفة المرتبطة بتنظيم داعش، أو من تلك المرتبطة بهوية النظام الإيراني والولي الفقيه. ورغم هذه السمة الدينية المشتركة في هوية الدولة لديهم جميعًا، فإن القطع والمفاصلة بين الإرهاب والمملكة العربية السعودية دلائله بينة، تأتي دما ينهمر في أعظم الأماكن المقدسة وأشرف البقاع الإسلامية، كما تأتي كفرًا وتكفيرًا للوطن والوطنية والانتماء إليها.
يحاول «داعش» - وكذلك - بعض التنظيمات الطائفية الأخرى استغلال الوضع الطائفي في بعض بلدانه للتفجير المجتمعي والديني، مع استمرار استهدافه لرجال الشرطة والأمن والعسكريين. إذ أعلنت مجموعات وخلايا راديكالية متطرفة مسؤوليتها عن تفجيرات في البحرين خلال أغسطس العام الماضي، كما ضبطت الحكومة البحرينية يوم 10 سبتمبر 2015 متفجرات مهربة من إيران، هي التي كان من الممكن أن تفجر المنامة كما سبقت الإشارة.
* استثناء إيران
على صعيد آخر، بينما كانت السعودية العدو الأول الأكثر استهدافا في كتابات وخطب أسامة بن لادن، فإنه كان يستثني إيران ويوصي بعدم استهدافها. لقد كانت السعودية هدفه الأول زمانًا ورؤية دائمًا، منذ أسس أول فروع «القاعدة» فيها عام 2003، كما ألف كل من داعش والقاعدة عددًا من الكتب والرسائل في اعتبار المملكة «دار كفر».. من المنظر الأردني «أبو محمد المقدسي» حتى العراقي «أبو ميسرة الغريب» الذي وضع رسالة صريحة عنوانها «مكة دار كفر». وبينما كان يوصي بعدم استهداف إيران كان يؤكد ويصر على استهداف السعودية رغم عدم استعداد تنظيمه بها وخسر مؤسسه ومنظره العييري في أول عملياته في مايو 2003.
وتجئ عمليات الإرهاب ضد المملكة العربية السعودية ودول الخليج استجابة معتادة من عناصر التطرف العنيف وأدبياته العابرة للطوائف، السنية والشيعية على السواء، والتي تجعل السعودية في مرتبة «العدو الأول» من قبل منظّريه ومؤسسيه السنة والشيعة على السواء، قبل سائر دول المنطقة والعالم. وهذا، فضلا عن مواقفها وسياساتها في مواجهته وتصدير ثورته وجهودها في وأد وصدّ تصدير ثورته وتمدده العنيف. ويظل مذكورًا أن استقرارها وقوة أجهزتها الأمنية كانت الأسبق في دحر وإجبار أقوى فروع «القاعدة» على الخروج منها وإنهاء عملياته ووجوده بها عام 2005، وهذا ما تجاهله أو جهله بعض المراقبين والخبراء الغربيين. بل أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي، حين لمّحوا إلى السعودية وبعض دول المنطقة ذنب من يكفرون بجنسيتها ودولتها ويضعونها في مرتبة العدو الأول.