تجربتي مع الرواية

في مرحلة الدراسة، كانت القراءة هي همنا الأول، وكنا نفتخر ونتفاخر بما قرأناه من كتب، نناقش كل ما قرأنا، ونطرح على الآخرين مضمون ما وجدناه في الكتاب الفلاني، ومن أشهر ما كنا نتندر به من معلومات وجدها بعضنا ولم يجدها غيره، وكان كتاب «المستطرف في كل فن مستظرف» عمدتنا، إلا أن الرواية في زمن السبعينات لم تكن تأخذ نصيبا كبيرا من اهتماماتنا، وكنا مولعين بقراءة سير الأبطال والبارزين من الشخصيات السياسية والأدبية، المتنبي وأبو فراس الحمداني، وأصحاب المعلقات، وكان الإعلام يسيطر على اتجاهاتي لكثرة استماعي، مما أثار إعجابي بكل من الملك فيصل، وعبد الناصر، وسلطان الأطرش، وأحمد بن بيلا، ويوسف بن خدة، وغيرهم، وتأثرت في هذه المرحلة بالشعراء، وصرت أنظم بعض القصائد محاكاة لهم في الوزن والقافية. ومن العجيب أنني لم أقرأ صحيفة واحدة، بينما قرأت كل المجلات العربية وأتابع أعدادها، وعلى رأسها مجلة «العربي» الكويتية.
وفي عام 1390هـ - 1970م، تحولت إلى قراءة الرواية العربية، بعد روايات الإسلام لجرجي زيدان التي قرأتها في المتوسطة، فتأثرت بالرومانسية عند محمد عبد الحليم عبد الله، وبالتاريخية عند نجيب محفوظ، وأبي حديد، وتعرفت على أدب الصديق إبراهيم الناصر، قبل أن أعرفه شخصيا، وما كنت أسأل عن جنسية الكاتب، فقرأت «أرض بلا مطر»، و«أمهاتنا والنضال»، ثم «سفينة الموتى»، وتحولت في هذه المرحلة إلى كاتب مقلد لهؤلاء الكتاب، وكانت الرومانسية تسيطر على كل ما أكتب، مما جعل الصحف السعودية لا تنشر لي شيئا، وكنت - ولا أزال - ممن ابتلي بالنقد منذ عرفت نفسي، فكنت أقف عند كل كلمة وجملة أحللها وأنقدها، وكلما كتبت قصة وتركتها مدة من الزمن، ثم عدت إليها، أجد نفسي مختبئا في جلباب أحد الكتاب، وليكن آخر من قرأته فأمزقها، فكتبت قصة بعنوان «أصدقائي الثلاثة»، وهم ثلاثة من الحيوانات الأليفة - بالطبع - تربوا على يدي، عنز وكلب وحمار، وكانت محاكاة لقصة كتبها أحد الكتاب ونشرت في مجلة «قافلة الزيت»، بعنوان «سوق الأحد»، وهذه السوق إحدى الأسواق الشعبية في مدينة القارة بالأحساء، وهي قصة تحكي وفاء هذه الحيوانات أكثر من الإنسان، وكتبت قصة بعنوان «جائع على باب غني» وهي من الرومانسيات بين الغنى والفقر، وعندما قرأت المنفلوطي في «النظرات والعبرات» وجدت ألا مكان لقصتي هذه بجانب ما كتب من قصص تحمل نفس المضمون، بعكس الشكل، وفي هذه المرحلة التي تراكمت علي مآس كثيرة، ما بين قصة حب فاشلة، وطموحات لم أستطع تحقيقها.
كتبت عددا كبيرا من المسرحيات الاجتماعية للمسرح المدرسي، ونجح الكثير منها، لكن طموحي أكبر من ذلك، وتحقق كثير مما كنت أصبو إليه عندما أوفدت ضمن البعثة التعليمية إلى اليمن التي كنت أحلم بزيارتها لكثرة ما قرأت عن حضاراتها القديمة.
كانت العقبة التي تقف في طريقي كل يوم، كتابة الرواية، ولقد كتبت كثيرا من القصص، لكنها لم تكن رواية، كان هناك شيء ضائع وحلقة مفقودة من هذه الحلقات، لكني لم أعرف ما هي، حتى عثرت على الطيب صالح، وقرأت كل أعماله فلم يرق لي منها إلا «موسم الهجرة إلى الشمال»، ومنها وجدت ضالتي قبل أن أتخصص في الرواية كأول سعودي يقوم ببحث الدكتوراه في هذا الفن المنسي، إنها روح الرواية ونيشانها، ومن دونها لا يسمى العمل رواية، إنها «العقدة»، وكتبت أول رواية رومانسية «زائر المساء» (1977)، وأبقيتها ثلاث سنوات قبل نشرها، في كل مرة أقرأها فأعدل فيها، وكتبت في هذه الأثناء رواية بعنوان «طائر بلا جناح» (1979)، استقيت مادتها من غربة الإنسان العربي وتطوافه في الأرض، وفيها شيء من التأثر بالطيب صالح، وحازت إعجاب النقاد والدارسين، وصدرت بعد «زائر المساء» بعدة أشهر 1981 عن «دار الفكر العربي» في القاهرة، وكانت مغامرة أولية في كتابة الرواية، فقد تعلمت الأسلوب الروائي، وأدركت أهمية العقدة في وجود النص الروائي، ثم انقطعت عن الكتابة باتجاهي إلى النقد الروائي في الصحافة، وأجريت دراسات قبل سفري إلى بريطانيا لدراسة الأدب والنقد الحديث، لكن صلتي بالرواية لم تنقطع، وقرأت الرواية الإنجليزية، إما من ضمن بعض المناهج الدراسية، أو قراءة حرة، وشاركت في عدد من الندوات، والدروس الصيفية التي كانت تقيمها الجامعات باسكوتلندا، وإدنبرا، وجلاسكو، وسانت أندروز، وتفتحت أمامي مناهج النقد الأدبي الحديث، وأثرت النقاشات ذهني بمعارف جديدة حول ماهية الرواية، وأنها عالم مستقل ليس من السهولة بمكان خوض غمارها إلا من وهب القدرة على كتابتها، والقدرة على توظيف العناصر، الثقافية والعلمية في مكانها الصحيح من النص، وأن النص الروائي ليس مادة جاهزة للكتابة، كما هو معروف في النص السردي التاريخي، أي سرد المعلومة السابقة، بل هو نص مستولد من الماضي والحاضر والمستقبل (الاستشرافي) بينما النص القصصي سرد الماضي في قالب حكائي، والنقطة الثانية للنص الروائي، أنه نص رأسي نحو العقدة، ثم إنه نص يقبل أن يكون مغلقا أو مفتوحا، والثالثة، إنه نص تكاملي بين البطل وشخوص الرواية لا يقوم به فرد بعينه، ويسمى عند بعض المنظرين (النص الكيميائي)، بينما تكون بقية النصوص السردية نصوصا فيزيائية، يقوم بها شخص واحد، حتى لو وجد بجانبه شخوص أخرى لا أهمية لها ولا تكتب لها الاستمرارية.
وبعد عودتي شغلت بالهم الأكاديمي والنقد، لكن الرواية معي أينما كنت، فكتبت «خطوات على جبال اليمن» (2000) وكانت بأسلوب مختلف جدا عما سبقها، وفكرة جديدة لمعالجة النص، ثم كتبت «سوق الحميدية» (2008) وكانت تختلف عن سابقتها، وهذا منهجي في كتابة الرواية، البحث عن الجديد شكلا ومضمونا.
ويمكنني أن ألخص طريقتي في الكتابة، بأنني لا أكتب موسميا، إذ تعلمت أن الروائي لا تهمه الأحداث بقدر ما تهمه النتائج.
وعادة، تبدأ الفكرة في ذهني وتبقى شهورا أو سنة أو أكثر، فتختمر وتراجع عدة مرات، حتى يبدأ التنفيذ الذي لا أستطيع أن أحدده، وبعد الشروع في الكتابة تختلف الأمور ويحل محلها أشياء لم تكن في بالي، ولدها الحدث، أو اللغة، أو الربط بين سير العمل وما يحدث.
كذلك، فأنا لا أقرأ قبل تنفيذ العمل أي رواية لعدة أشهر، خوفا من التأثر. ولا أحب التعديل في العمل إلا ما ندر. وأنفذ العمل في أقل مدة، ولا أنصرف إلى غيره حتى ينتهي. كما أنني أعيش مع الشخصيات كواحد منهم، وأنسى من أنا. وأتأكد من المعلومة من مصادرها ومن المختصين، طب، وعلم اجتماع، وتاريخ، وسياسة وغيرها. وأنا متأثر إلى حد كبير بالأسلوب السينمائي، ولذلك مثلت أعمالي بسهولة. كذلك فإنني أعرض العمل على كل الطبقات وأعتز برأي القارئ العادي قبل المختص، ولا أنظر إلى العمل قبل عدة أشهر من تنفيذه.

(*) من ورقة ألقاها الناقد الدكتور سلطان القحطاني، في نادي الشرقية الأدبي بعنوان: «تجربة في الكتابة.. رواية (سوق الحميدية) نموذجا» بداية الشهر الحالي.