انتفاضة القوميات واستنهاض التراثيات

في كتابه «الديمقراطية هي الحل لمخاطر العولمة» يلفت الدكتور بطرس بطرس غالي، الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة، إلى إشكالية كبيرة أفرزتها العولمة وكانت سببا فيها، وهي تزايد درجات المد الأصولي، واشتعال أوار الهويات وإثارة نعرة القوميات، وجميعها مولد خصب للأصولية بمعناها ومبناها شرقًا وغربا.
موضوعية طرح الدكتور غالي - رحمه الله - توضح لنا أن الظاهرة تنسحب على الغرب الأوروبي والأميركي، وليست قصرًا أو حصرًا على العرب والمسلمين، كما أراد البعض من أمثال برنارد لويس تصوير الأمر في غير حقيقة علمية. فغالي يرى أن المواطن المتعولم «وعند لحظة ما من عدم مقدرته على التعاطي مع السماوات التي انفتحت، والحدود التي أزيلت، والسدود التي تلاشت يرتد بحثا عن جدار حماية، قد يتمثل في هوية أو تراث، وغالبا ما يكون الدين والمذهب هما وسيلة الحماية الدوغمائية، على أعلى سلم الهويات والقوميات». هذا هو ديالكتيك «القمر الصناعي والمئذنة» في العالم العربي، وهو عينه ديالكتيك «القمر الصناعي وبرج الكنيسة في العالم الغربي».
لم يكن برنارد لويس: «بطريرك الاستشراق» أمينا في اتهامه للعرب والمسلمين بأن أصوليتهم ناجمة عن عجزهم عن التلاقي والتفاعل مع الواقع المعاصر، لذا انتكصوا رجوعا إلى عالم التشدد المحافظ والراديكالي كراهية للواقع الحالي الذي لم يضح فيه لهم موطئ قدم. ذلك أن ما يجري في أوروبا اليوم من تفكيك يكاد يقترب من التفتيت، إن سارت الأمور على هذا النحو، يؤكد وبما لا يدع مجالا للشك أن «فيروس» العولمة بدوره، بات يولد أصولية أوروبية، ذات مسحة هوياتية دينية وقومية، ونركز على الدينية انطلاقا من تعبير أديب آيرلندا الكبير جورج برنارد شو «عند العاصفة يلجأ المرء إلى أقرب مرفأ»، وليس أقرب من الدين الذي هو ثوابت لا تتغير ولا تتبدل من ميناء عند الاضطراب.
كانت علامة الاستفهام المولدة لهذا الطرح، ولا شك، تتصل بالاستفتاء الذي جرت به المقادير خلال الأيام القليلة الماضية داخل بريطانيا، والذي أسفر عن رغبة في الانسلاخ من حضن الجماعة الأوروبية، وهل كان السبب الرئيس وراءه النزعات الأصولية واليمينية البريطانية التي ولدتها العولمة، وخوفا على الهوية البريطانية، وهو الأمر المرشح للتكرار في الكثير من العواصم والعوالم الأوروبية؟
قبل الجواب ربما يلزمنا الإشارة إلى أن مصطلح «الأصولية» وارد الغرب قبل أن يكون شرقيا، ومن أوروبا تحديدا كما يشير إلى ذلك المفكر السوري البروفسور صادق جلال العظم في كتابه عن الأصولية، كما يحدد الراحل الدكتور نصر حامد أبو زيد في كتابه «نقد الخطاب الديني» أصل الكلمة وارتباطها بحركة الاحتجاج الديني في أوروبا القرون الوسطى، المعروفة بـ«البروتستانتية» التي دعت إلى العودة إلى الأصول التوراتية وتقديسها. أما على الجانبين العربي والإسلامي، فلقد كان تعبير «السلفية» هو الموازي تقريبا، بمعنى السير في نهج السلف الصالح وإجلالهم، والالتزام بالنص. ومن ثم، نخلص من الفكرة السابقة إلى القول: إن الأصولية كانت كامنة في الجسد الأوروبي منذ أربعة قرون على الأقل، غير أن البعض خيل إليه حديثا أن حزازات الصدور الأوروبية قد زالت بقيام الاتحاد الأوروبي، وعلى ذلك فلم يعد للدوغمائيات مكان، وبالتبعية ما عاد للأصولية في أوروبا موقع أو موضع.
غير أن واقع الحال يغني عن السؤال؛ إذ إنه وبعد نحو عقدين من قيام الاتحاد الأوروبي في صورته النهائية رأينا التيارات اليمينية الأوروبية، ذات الاتجاهات العنصرية، عرقا ودينا، ثقافة وفكرا، تضرب القارة الأوروبية، في تضاد واضح لفكرة ذوبان الهويات في سياقات العولمة...
لم يقدر لعلماء الاجتماع والسياسة والاقتصاد مجتمعين وضع تعريف واضح ومحدد للعولمة، لكن تبقى طبيعتها تكشف عن مضمونها. فهي في كل الأحوال عملية اجتماعية تتوارى فيها القيود والحواجز الجغرافية والأوضاع الثقافية والاجتماعية كما قال مارتن والتر، المفكر الأميركي ذات مرة في ثمانينات القرن الماضي. ولعل التعبير المتقدم يعني شيئا واحدًا وهو جدلية العلاقة بين العولمة والهوية، التي شبهها البعض بأنها «كر وفر». وذلك أنه إن كانت العولمة تسعى في طريق هدم الحواجز والحدود بين الثقافات والأمم في اتجاه تعزيز مجتمع إنساني أرحب، فإنها في الوقت ذاته تضعف الهويات القومية، بل تكاد تدمرها.
إنها تحيي الهويات الصغرى بداية، ثم تحتويها لتفنيها، عبر ممارسات فوقية من قوانين ونظم ورؤى وسياسات تستلب الموروث الإنساني لكل جماعة.
ربما يكون ذلك بدرجة أو بأخرى ما جرى في أوروبا، والاتحاد الأوروبي بشكل ما يعطي انطباعا عن التحولات العولمية المضادة للهوية الوطنية، التي هي مسألة أساسية للمشروع الحضاري المستقبلي لأي دولة. والشاهد، أنه في مثل هذه الحالات، وحينما تخشى الدول والمجتمعات من تعرض هويتها للانكسار أو التشويه أو الغيبوبة، فإنها تهبّ لبلورة مدركات أفرادها عن الذات، وأول هذه المدركات الإمساك بتجربتها المشتركة وبذاكرتها التراثية التي تنتقل من جيل إلى جيل. وتتوارث لتكتسب بعدا أصوليا محافظا، ينطلق في لحظات الخوف على الماضي وتراثه، وعلى المستقبل واحتمالاته وآفاقه.
ويمكن للمرء أن يدلل على صدقية هذا الحديث بمسارين تعيشهما أوروبا متأخرا: الأول يتصل بتركيا وما يجري من شأن عضويتها في الاتحاد الأوروبي، والآخر عميق العلاقة بأوروبا الأصولية في مواجهة بعض تبعات العولمة، بل وانتكاساتها، ويتمثل في المهاجرين واللاجئين، سواء أكانوا من شمال أفريقيا وعمقها، أم من ضحايا «الربيع العربي المشئوم».
تكتسب مسألة انضمام تركيا أو رفض ضمها إلى الاتحاد الأوروبي أبعادا عدة، وليس بعدا واحدا، وفي جميعها يظهر التضاد واضحا بين روح العولمة، وعالم الاندماج، وبين صحوة «الهويات القاتلة» التي تشعل لدى الأوروبيين مشاعر الهوية الأصولية التراثية القديمة، وللمرء أن يسميها كما يشاء.
إذ بقيت تركيا في الخلفية التاريخية صنوا للعثمانيين المسلمين أعداء أوروبا المسيحية التاريخيين، ومترادفا للإسلاموفوبيا. ورغم علمانية تركيا كدولة، فإن الأوروبيين الذين يعتبرون أوروبا «ناديا مسيحيا»، لا يوفرون القول: إن تركيا «وإن كانت دولة علمانية الهوية فهي دينية الهوى، بل مغرقة فيه»، وعلى هذا فهي تشكل خطرا على الهوية الأوروبية. كما أن هناك من يربط ربطا جذريا بين تعداد سكان تركيا الذي يقترب من السبعين مليون، وبين التأثير والتغير الديموغرافي الذي يمكن لهؤلاء الملايين من المسلمين أن يمارسونه في داخل الإطار الأوروبي التاريخي.
والحقيقة، أنه لم تعدم أوروبا صيحات أصولية يمينية غربية متطرفة، لعبت وتلعب حتى الساعة على أوتار ما يعرف بـ«أورابيا»، أي حالة الخوف الأوروبية من إفرازات العولمة، والوحدة والتلاقي مع «الآخر»، ومنذ نهاية عمر الاتحاد السوفياتي، أضحى «الآخر» هو المسلم. وخذ إليك ما كتبه الأميركي دانيال بايبس، القطب اليميني الصهيوني المغرق في كراهيته للإسلام والمسلمين، بتاريخ 29 أغسطس (آب) 2006 عبر صحيفة «نيويورك صن» الأميركية؛ إذ يقول: «وفيما أزعم أن مستقبل أوروبا ـ سواء استمرت بهويتها المسيحية أو أصبحت ملحقا لشمال أفريقيا المسلمة ـ ما زال سؤالا مفتوحا، يوحي سلوك الجمهور البريطاني، تلك الحلقة الأضعف في سلسلة أوروبا الغربية، بأنه ملتبس ومشوش لدرجة عجزه عن مقاومة مصيره اللندستاني». وهنا لا يغيب عن ناظري القارئ اللبيب، فكرة المقاربة بين تعبير «اللندستاني» و«الأفغانستاني»، وكأني به يدفع القارئ البريطاني بكتاباته دفعا في طريق تعميق الأصولية الدينية خاصة، والتراثية ذات الهوية البريطانية بشكل عام، وقد جاء مقاله وقتها تحت عنوان صادم «على ظهر مطية الإرهاب في بريطانيا».
ومرة أخرى، كان برنارد لويس يعمّق المخاوف من زمن العولمة وتبعاتها التي تتمثل في انتقالات البشر من دولة لأخرى بطريقة أكثر سهولة ويسر عما كانت في منتصف القرن الماضي. إذ كتب بشأن أوروبا، وهو اليهودي البريطاني الأصل، بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) يقارن بين ما يدعيه من يقين معتقدات بريطانيا عام 1940، وعدم اليقين الذي يسودها وبقية الغرب في القرن الحادي والعشرين... قائلا: «في عام 1940 كنا نعرف من نحن، ونعرف العدو. كنا نعرف الأخطار والنتائج.. أما اليوم فاختلف الأمر. لا نعرف من نحن، ولا نعرف القضايا ولا التبعات. ولا نعرف طبيعة العدو». وحقا، جعل لويس تنبؤاته واضحة في تصريحاته من منطلق سلطته بصفته خبيرا في تاريخ الإسلام بأن المسلمين سيستولون على أوروبا التي قد تصبح بدورها جزءا من الغرب العربي، أي دول المغرب».
ويتصل البعد الثاني من أبعاد الخوف العولمي المتولد في نفوس الأوروبيين من ظاهرة الهجرة واللاجئين معًا، تلك التي كشفت عن مكنونات الواقع الاجتماعي الأوروبي المعاصر، ما بين أوروبا أصولية وأخرى علمانية.
منذ بضعة أيام اختير روبرت فيكو، رئيس وزراء سلوفاكيا السابق، رئيسا لمجلس الاتحاد الأوروبي لستة أشهر مقبلة. وفيكو هذا يمثل نزعة الأصولية الأوروبية في أسوأ صورها، فهو صاحب العبارة السيئة السمعة «لا للإسلام في بلادي». ومن قبله تحدث فيكتور أوروبان، رئيس وزراء المجر اليميني المتطرف، قائلا: «الإسلام لا ينتمي روحيا إلى أوروبا، فهو مجموعة نصوص تحدد نظما من عالم آخر»، وجاء هذا التصريح في سياقات رفض أوروبان توجهات الاتحاد الأوروبي بشأن استقبال لاجئين جلهم من العرب والأفارقة، ومن المسلمين تحديدًا. ما يعني أن الرؤية العولمية للوحدة والاتحاد الأوروبي، تكاد أن تتحطم على صخرة الهويات التقليدية والموروث الديني العتيد.
ولن يقتصر المشهد – كما يرجح البعض – على بريطانيا؛ فالزلزال قد يضرب عما قريب بقية دول أوروبا، وسيمتد إلى بعض من قطاعات روسيا، وهو حادث بالفعل في الولايات المتحدة الأميركية. غير أن أوروبا تمثل التجلي المثير للتأمل والتحليل في العلاقة بين «عوالم العولمة وعواصم الأصوليات»، إن جاز نحت هذا المصطلح، والقول بعواصم للأصوليات ربما ينقلنا إلى ألمانيا، عمود الخيمة الرئيس في أوروبا اليوم.
في أوائل يونيو (حزيران) الماضي، كانت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل تشارك في نقاش مفتوح نظمته جامعة برن في سويسرا، وقد سألتها إحدى الطالبات: «ماذا نفعل في مواجهة خطر أسلمة أوروبا من جراء المهاجرين الجدد؟» والمعروف أن ميركل لها موقف إنساني وجيد من قضية الهجرة والمهاجرين، وربما هذا أفقدها جزءا من شعبيتها مؤخرا. غير أن رد ميركل، وإن كان بلا شك إيجابيا وخلاقا، فإنه في الوقت ذاته يلفت إلى فكرة العودة إلى الجذور والأصول للاحتماء بها والاختباء خلفها من عواصف العولمة التي جلبت سياساتها الآثمة مشاهد اللاجئين المروعة؛ إذ ذهبت ميركل إلى القول بضرورة إظهار المحبة لكل الناس وبشكل خاص لهؤلاء اللاجئين البؤساء، وفي الوقت ذاته أكدت أن ذلك لن يحدث إلا من خلال المشاركة في الليتورجيات الإيمانية «القداس» وبالغوص بعمق أكبر في الإنجيل، أي ـ على حد تعبيرها ـ تحلي المسيحيين بالشجاعة في إعلان مسيحيتهم والعودة إلى الجذور... وأضافت: «نحتاج من أجل الحوار والتحدث عن ذواتنا إلى معرفة وفهم بعضنا بعضا».
والثابت، أنه ما من أحد ينكر على ميركل حقها في حرية الإيمان والاعتقاد وصواب رأيها. فهي في كل الأحوال ابنة قس، غير أن ما يلفت الانتباه هو صخرة الحماية، أي حديث الأصول والجذور، وكيف أنها لم تتحدث عن وحدة الاتحاد الأوروبي ولا سياساته، أو عن التحالف مع الأميركيين أو مواجهة الروس، بل ذهبت مع برنارد شو إلى «المرفأ الأكثر أمانا»، أي الأصول الدينية الأوروبية، وهذه حقيقة باتت تتجاوز حدود بريطانيا.