عقيدة طرابلس اللبنانية

ارتبطت مدينة طرابلس اللبنانية خلال السنوات الأخيرة بالحركات الإسلامية المحافظة والمتشددة، مع تفكيك كثير من خلاياها في «عاصمة الشمال» والمناطق المحيطة بها مثل الضنّية وعكّار، مع الإشارة إلى أن الشمال تعتبر اليوم من أكثر مناطق لبنان تهميشًا. ولقد تأثر مشهد التشدد الإسلامي في تاريخ المدينة المعقّد بالسياسة المحلية كما بالعداء لنظام الأسد السوري، الذي ترجم في زيادة عدد الهجمات الإرهابية ضد ميليشيا ما يسمى «حزب الله» التي تقاتل إلى جانب قوات نظام بشار الأسد في سوريا.
يشرح الدكتور عبد الغني عماد، الخبير في شؤون الحركات الإسلامية اللبنانية، لمحات من الحركات الإسلامية المحافظة والمشددة في لبنان فيقول: «إن الشيخ سالم الشهال أسس أول مجموعة تنتمي إلى هذه التوجهات هي (شباب محمد في لبنان) خلال عقد الأربعينات، وكانت حركته دعوية، من أهدافها تصحيح الممارسات الخاطئة للمسلمين. أما على الصعيد السياسي فلم يكن للشيخ الشهال أطروحة سياسية واضحة، مع العلم أنه ترشح للنيابة عام 1972 غير أنه انسحب لصالح (الجماعة الإسلامية).. وفي هذا دليل واضح على انفتاحه».
ويتابع الدكتور عماد شرحه قائلا: «مع بدء الحرب اللبنانية أدى غياب الشيخ سالم الشهال عن الساحة الأمنية إلى صعود شخصيات جديدة من تلاميذه. وهذه النزعة تزايدت بعد وفاته، غير أن الانقسام الطاغي على الساحة السلفية ناتج عن طبيعة الحركة التي هي دعوية وليست حزبية».
وللعلم، نشأت في طرابلس مدارس صغيرة أخرى مثل تلك التابعة لسراج منير البخاري وحركة صفوان الزعبي والشيخ سالم الرافعي، الذي كان من أوائل من دعا إلى «الجهاد» في سوريا، فضلاً عن شخصيات أخرى مثل الشيخ بلال دقماق والشيخ نبيل رحيم أو الشيخ محمد خضر، ناهيك بحركات إسلامية راديكالية أخرى مثل «حركة التوحيد» التي أسّسها الشيع سعيد شعبان.
ومع بدء الشعور بالخطر من سياسات ما يسمى «حزب الله» ومواقفه طرأ تسييس واضح المعالم على المشهد الإسلامي في طرابلس ومحيطها، وظهر حراك محافظ ومتشدد ملحوظ. وازداد شعور التيار المتشدد مع أحداث 2008 واجتياح ما يسمى «حزب الله» بيروت ومحاولته غزو الجبل. وحاليًا تعتمد الفصائل الإسلامية المحافظة والمتشددة في طرابلس على شبكة من المساجد والمنظمات غير الحكومية والمدارس، وتتلقى التمويل من مختلف الدول العربية. وحسب الدكتور عماد يوجد اليوم في المدينة ومحيطها نوعان من هذه الفصائل: النوع الأول توجّه إلى حمل السلاح، وارتبط عدد من الخلايا بمنظمات إرهابية. أما النوع الثاني فهو الذي رفض حمل السلاح، ومع ذلك فقد تعرض للتوقيفات الأمنية - مثل الأول - إثر الأحداث الطائفية بين منطقة باب التبانة السنّيّة وجبل محسن العلوية في طرابلس بعد بدء حرب سوريا.
ووفقًا لمصدر - اختار التكتم على هويته نظرًا لحساسية الموضوع - يحصل كثيرون من ناشطي الفصائل المحافظة والمتشددة، كما أن معظم هذه الفصائل في طرابلس لديها اتصالات منتظمة مع هيئات مثل الشرطة والجيش أو الاستخبارات، وحتى وقت قريب كان يتم تأمين الأسلحة لها من قبل السياسيين المحليين. وفي هذا السياق يقول الشيخ بلال دقماق إن انقسام بعض هذه الفصائل يؤدي إلى ضعفهم، في حين يستطيعون أن يكونوا أقوياء.
والواقع أن المشهد الإسلامي المحافظ في لبنان عمومًا، يبقى مثل بقية الأنسجة السياسية والاجتماعية المعقدة في لبنان، منقسمًا بعمق. كما أن الفصائل الإسلامية في طرابلس لا تتعرّض للتلاعب بها فقط من قبل القوى الخارجية، بل أيضًا تقع رهينة في يد السياسيين المحليين الذين يستخدمونها في اللعبة السياسية. فخلال الفترة بين عامي 2012 و2015، شهدت طرابلس اشتباكات بين المسلحين المتشددين وأفراد من الأقلية العلوية الموالية لنظام الأسد في سوريا وكذلك ضد الجيش اللبناني. وانتهت المعركة أواخر العام الماضي بعد اعتقال قادة الميليشيات وتفكيك الخلايا الإرهابية. وفي مايو (أيار) 2015، اعتقل الجيش اللبناني إبراهيم بركات، الموصوف تارة بأمير «داعش» في شمال لبنان، وتارة بـ«القاضي الشرعي» للتنظيم الإرهابي، وذلك بتهمة العمل على تجنيد الشباب لصالح التنظيم.
من جهة أخرى، لفترة طويلة بدا أن معظم المحافظين المتشدّدين في الشارع الإسلامي الطرابلسي يؤيدون قوى «14 آذار»، وعلى رأسها تيار «المستقبل» - ذو الغالبية السنّية - برئاسة رئيس الوزراء الأسبق سعد الحريري، في حين فضلت الفصائل السنية الراديكالية الأخرى مثل «حركة التوحيد» التي تلقى رعاية قوية ومباشرة من نظام سوريا وإيران، أن تدين بولائها لقوى «8 آذار» بقيادة ما يسمى «حزب الله».
إنما يبدو أن هذا المشهد الإسلامي قد تغير، بما في ذلك مكوناته المتشددة والحركية التي تعكس الديناميات المحلية في طرابلس. إذ صبّت أصواتها خلال الانتخابات البلدية الأخيرة التي أجريت في مايو (أيار) الماضي لصالح اللائحة المدعومة من قبل وزير العدل السابق اللواء أشرف ريفي، وهو من «14 آذار» الذي تميّز بتشدده ضد ما يسمى «حزب الله» ومناهضته لسوريا ورفضه مهادنة مناصري النظام السوري داخل طرابلس، في حين فضل غيره من أعضاء «14 آذار» اتخاذ مواقف أقل تشددًا. وكما هو معروف، فازت القائمة المدعومة من ريفي ضد ما وصفت بـ«قائمة المليارات» الائتلافية التي شكلتها الشخصيات السياسية والاقتصادية السنّية، وفي مقدمتهم الرئيس الحريري ورئيس الوزراء السابق نجيب ميقاتي والوزيران محمد الصفدي وفيصل كرامي، بالتحالف مع «الجماعة الإسلامية» و«جمعية المشاريع الإسلامية» (الأحباش).
وفي حين لم يشارك المحافظون المتشددون عمومًا في العملية الديمقراطية، فقد صوت كثيرون، منهم في طرابلس، ضد القائمة الائتلافية (الحريري - ميقاتي - الصفدي - كرامي)، لمصلحة القائمة المدعومة من ريفي. ووفق الشيخ محمد إبراهيم، وهو رجل دين من حي المنكوبين، المنطقة التي أسهم سكانها إلى حد كبير في معارك سوريا: «بقاء اللواء ريفي على مواقفه الحازمة، يفسر الدعم الواسع الذي حظي به» في الانتخابات. وفي المقابل سجل ابتعاد للناخبين عن «الأحباش» و«الجماعة الإسلامية» المشاركين في اللائحة المناوئة للائحة المدعومة من ريفي.
يشرح بعض المحافظين المتشددين كيف أنهم ينظرون بشكل سلبي إلى قبول تحالف «الجماعة الإسلامية» مع «الأحباش» الذين يشكلون أعداء طبيعيين لهم لأسباب سياسية ودينية على حد سواء. ويقول أحدهم: «الأحباش كانوا من داعمي النظام السوري إبان احتلاله للمدينة»، وفي عام 1986، نفذ الجيش السوري حملة عنيفة على سكان المدينة أدت إلى اختطاف وقتل المئات من الناس.
مع هذا، وعلى الرغم من هذا الماضي المليء بالأحداث، فإن المشهد الطائفي التعددي في لبنان، والتحالفات السنّيّة القديمة مع الدولة عنصران حالا دون نجاح تنظيمات إرهابية متطرفة مثل «القاعدة» بإحكام طابعها المؤسسي في لبنان رغم بذلها محاولات كثيرة. لكن الحرب السورية غيرت هذا الواقع. وكما يقول الشيخ إبراهيم: «الحرب في سوريا والانتهاكات ضد الثورة والشارع السني أغضب السكان في طرابلس. كذلك أدى تدخل (حزب الله) إلى صب الزيت على النار، وساهم في توجه كثيرين إلى سوريا، حتى وصل عددهم إلى 1000 شخص». مع العلم أن مصادر الاستخبارات العسكرية في لبنان تقول إن عددهم لا يتجاوز الـ250.
أمر آخر لافت، هو أنه بينما يتعاطف «الجيل القديم» من المحافظين المتشدّدين مع «جبهة النصرة»، فإن «الجيل الأصغر سنًا» يؤيد «داعش». وخلال الأسابيع الأخيرة، ألقي القبض على عدة خلايا لعلاقاتها بالتنظيم المتطرف. و«على الرغم من الإجراءات الكثيرة التي اتخذت لوقف نشاط (داعش)، فإن كثيرا من الأشخاص الذين يدعمون آيديولوجيا التنظيم ما زالوا موجودين. ومن غير المتوقّع حصول هجمات إرهابية كبيرة خلال شهر رمضان كون أتباع (داعش) في لبنان لا يملكون إمكانيات لإجراء أعمال بهذا الحجم»، وفق مصدر في الجيش اللبناني: «لكن قد يكون من السهل وقوع عمليات صغيرة لا تتطلّب جهدًا تقنيًا أو تدريبًا على غرار ما شهدناه في باريس».
في المقابل، تعتبر مصادر متشددة في طرابلس أن الخطر الجديد قد ينشأ من الشباب الذين سبق أن اعتقلوا بطريقة عشوائية، للاشتباه في علاقاتهم مع المنظمات الإرهابية، والذين أطلق سراحهم بعد تبرئتهم. وهنا يقول الشيخ إبراهيم: «ألقي القبض على كثير من الشباب لدعمهم الآيديولوجي للنصرة أو و(داعش)، وسجنوا لشهور عدة.. ومن ثم أطلق سراحهم في النهاية لعدم وجود أي إثباتات ضدهم»، متابعًا أن «هؤلاء الشباب الممتعضين من اعتقالهم غير القانوني والمعاملة السيئة يشكلون قنابل موقوتة، وبالأخص، أنه سبق وضعهم في السجن مع المتطرّفين المتشدّدين من جبهة النصرة و(داعش)».
هذا، وعلى الرغم من الإنجازات الكثيرة التي حققتها القوى الأمنية اللبنانية بالقبض على الخلايا الإرهابية وتفكيكها، فإن السلطات اللبنانية لا تزال عاجزة عن وضع حد لمزيد من تطرف الشباب، بحيث تبدو عاجزة عن تأمين فرص جديدة لهم أو التفكير ببديل عن زجهم في السجون بالقرب من الإرهابيين المتطرفين.