المقدسي.. واحتمالات التقارب بين «القاعدة» و«داعش»

واقعيًا، بينما تتقاتل «جبهة النصرة» - المرتبطة بتنظيم «القاعدة» - وبعض الفصائل الأخرى، ضد تنظيم داعش في محيط بلدة مارع قرب مدينة منبج، بريف محافظة حلب في شمال سوريا، لإصرار «داعش» على التقدم هناك، ثم خسارة «داعش» مدينة منبج يوم 6 يونيو (حزيران) الجاري، أمام ميليشيا كردية تدعمها واشنطن، ثار جدلٌ أخيرًا عن احتمالات حدوث تقارب وتنسيق بين «داعش» و«القاعدة» ممثلة بـ«جبهة النصرة» وسواهما.
ولقد تجدّد هذا الجدل حول التقارب المحتمل بعد إعلان المنظر المتشدد الراديكالي أبو محمد المقدسي في رسالة شرعية له منتصف مارس (آذار) 2016 تحفظه على قتال «داعش» من قبل التحالف الدولي، ورفضه ترحيب بعض الفصائل المسلحة به، وكذلك تعديل موقفه من وصف الدواعش بـ«الخوارج» الذين يجوز قتالهم استئصالا كقتل عاد، وتحريمه الاستعانة بغير المسلمين في حربهم.
ما قد لم ينتبه له البعض، أن التقارب النظري والتطابق المرجعي بين تنظيمي «داعش» و«القاعدة» موجود بالفعل. كما أن التقارب الميداني لم يكن مستبعدا بين كليهما، سواءً قبل فصم العلاقة بينهما في مايو (أيار) 2013 أو بعدها، بشرط قبول أحدهما الشروط المستحيلة بالنسبة للآخر، كاستجابة أبو بكر البغدادي زعيم «داعش» لأميره السابق أيمن الظواهري والالتزام بأوامره، وقبوله بإمارة الجولاني على سوريا، أو استجابة الأمير الظواهري لتابعه السابق ومبايعته أميرا وخليفة عليه، كما بايعت «القاعدة» أمير طالبان أميرا للمؤمنين. لكنه يظل محتملاً خاصة مع التحديات المشتركة المتصاعدة، وضعف وإضعاف الجماعات السنّية عمومًا في سوريا.
حسب البعض سيعدّ هذا التقارب أو التوحّد المحتمل، المستبعد حتى تاريخه، كارثة كبيرة ستواجهها الولايات المتحدة وحلفاؤها في سوريا والعراق. إلا أنه ممكن إذا استمر الصراع السوري. ولقد حدّد بروس هوفمان، من جامعة «جورجتاون» الأميركية، إمكانية تحققه عام 2021، حين يدور الزمان بعجلته وينسى القتلى ثاراتهم، للتقريب بين خصمين يتبادلان التهم بالردة والخروج. في المقابل، رأى آخرون فيما طرحه المقدسي أنه ليس أكثر من محاولة تنعيم للخطاب ضد «داعش»، وعرض للمصالحة معه، خاصة مع التقارب الآيديولوجي والمرجعي بين الطرفين من ناحية، وتلاقي الأهداف والتحديات المشتركة، كمساواة التحالف الدولي بين «داعش» و«جبهة النصرة» المرتبطة بـ«القاعدة» من جهة أخرى، وهذا رغم تأكيد أبو محمد الجولاني قائد «جبهة النصرة» في مايو العام الماضي أن أوامر قادة «القاعدة» له كانت بألا يأخذ من سوريا منطلقًا لعمليات إرهابية ضد الغرب، وكذلك التقدم الذي يحرزه نظام بشار الأسد تجاه الفصائل المسلحة منذ بدء التدخل الروسي في سوريا يوم 10 سبتمبر (أيلول) 2015.
في رسالة المقدسي الأخيرة «قتل عاد وقتال الاستئصال» في منتصف مارس الماضي 2016، يمكن القول: إنه يطلق أول محاولة تقريبية – على المستوى النظري والشرعي – للتقريب بين منظّري التشدد الراديكالي و«داعش»، وهي تمثل تكتيكًا جديدًا يمكن أن يصغي عناصر «داعش» له، مع أن أحدهم لم يعلق حتى الآن. وأتت هذه الرسالة بعد دعوة ضمنية أطلقها المقدسي في إحدى تغريداته أواخر ديسمبر (كانون الأول) 2015، من أنه قد يعدل مواقفه من «داعش» في حال عدل التنظيم المتطرف موقفه من مخالفيه وأقلع عن وصفهم بالمرتدين (!)، ويعلن انضمامه إليها ليغيظ العالم، وهو ما قد يرجح أنه إغراء لـ«داعش» وتخفيف لحدة الخلاف معه، كما قد يقرأ سخرية منه.
لكنه في رسالته الأخيرة عدّل من موقفه قليلا بالفعل، متجاوزًا ردود الفعل والنداءات الحركية الغاضبة لتأسيس موقف أكثر ضبطًا يصب في اتجاه إصلاح «داعش»، من وجهة نظره، قبل مصالحتها.. كما قرأها بعض المراقبين.
لقد أعلن المقدسي في مقدمة رسالته رفضه لاصطفاف فصائل المعارضة والمجموعات المتشددة الراديكالية مع قوات التحالف أو الجيش التركي أو غيره، ضد ««داعش»»، قائلا: «إني رأيت بعض فصائل الجيش الحر تتفاخر بغزو المعنيين – في إشارة إلى (داعش) – تحت غطاء مدفعية الجيش التركي، وأخرى ترشد طيران التحالف إلى مواقع خصومهم من المسلمين؛ وأخرى تعاتب أميركا على عدم دعمها بالسلاح لاستئصالهم! فعزمت في هذا الوقت على نشره، متوكلا على الله متبرئا من جرائم الغلاة، ومن تمييعات الجفاة؛ ومن تلبيسات علماء الطغاة». ثم يتحفظ منتقدا إسقاط وصف «الخوارج» على الدواعش قائلا: «معلوم أن خصوم التوحيد وعلماء السلاطين وأولياء نعمتهم كانوا ولا زالوا يستعملون مصطلح الخوارج البغيض عند أهل الإسلام، في قمع أهل السنة وأنصار الحق؛ فهي عادة قديمة لأهل البدع توارثوها عن بعضهم البعض»، وأردف أنه يرفض استخدام هذا الوصف لتحقيق «المآرب الخبيثة إرضاء للطواغيت وتحقيقا للرغبات الدولية والمخططات الصليبية»، على حد قوله.
كذلك يشير المقدسي إلى أن الصحابة لم يكفّروا الخوارج، وأن بعضهم كان يصلى خلف نجدة الحروري (مؤسس فرقة النجدات الخارجية المتشددة)، وبالتالي، لا يجوز الاستعانة بالكفار عليهم! فكيف بالسعي لاستئصالهم وقتلهم قتل عاد. بيد أنه يعود فيستدرك قائلا: إنه حين أطلق عليهم لفظ الخوارج في فتواه المشتركة مع أبي قتادة الفلسطيني أواخر ديسمبر (كانون الأول) 2012، إنما يقصد قادتهم ونخبتهم المتغلبّة وليس قواعدهم. وهو يتوقف بهذا الوصف عند قادتهم شأن أبو بكر البغدادي والعدناني وتركي البنعلي - وإن لم يسم الأخير الذي كان تلميذه - وغيرهم، وأنه يثق بأن هذا أيضًا كان مقصد أبو قتادة الفلسطيني دون تعميم، نسبة للجماعة لقادتها.
في رسالته أكد المقدسي على ثلاثة أمور، تبدو جديدة، حسب رسالته الأخيرة المشار إليها:
الأول: رفض استئصالهم قتالاً كقتل عاد، وفق ما دعا له الحديث النبوي الشريف من قتلهم قتل عاد، وتعهد الرسول (صلى الله عليه وسلّم) بذلك لو شهدهم، أو فتوى شيخ الإسلام ابن تيمية فيهم من جواز قتل عاد أو قتل الاستئصال في الخوارج المارقين الذين ليس لهم تأويل سائغ، كما ذكر ذلك ونص عليه شيخنا ابن تيمية.
الثاني: إمكانية إصلاحهم عبر غير المغالين في قواعدهم الرافضين لغلو وتشدد بعض قادتهم وإصلاحهم، وأنها جماعة مسلمة ذات شوكة لا يجوز الاستعانة بغير المسلمين لقتالهم كما تفعل بعض الفصائل.
الثالث: أن لـ«داعش» تأويلا سائغا عنده، ولذا فهم ليسوا خوارج، إلا إذا كان المقصود نسبتهم لقادتهم المُغالين فيهم، لكن بفكرهم ودعوتهم لإقامة دولة الشريعة وليس خروجًا عليها، كما كان الخوارج، فهم ليسوا كذلك.
إن ما أسس له المقدسي في دراسته الجديدة لا نراه جديدًا، إذ تحفظ المقدسي منذ البداية عن ضربات التحالف الدولي في سوريا منذ انطلاقها في سبتمبر2014. وأفتى بحرمة ذلك، كما كان موقف «جبهة النصرة» و«القاعدة» الرسمي رفض التعاون أو التنسيق في أي حرب ضد «داعش». ثم إن «جبهة النصرة» لم تكن الأسبق إلى قتال «داعش» بل دعته إلى التحكيم منذ البداية وهو ما رفضه الأخير، ولقد كانت تبدي مرونة معه ربما أكثر تميزًا منها مع سواه من الفصائل الأخرى.
ما نحن بصدده تجاوز مرحلي لمرحلة ردود الفعل وانفعالات الغضب التي أصابت المقدسي بعد مقتل أبو خالد السوري في مارس 2013، حين واظب على وصفهم بالخوارج، واتهامهم بالكذب بعد غدرهم بالطيار الأردني «الشهيد» معاذ الكساسبة، وبوساطته في فبراير (شباط) 2015. وكتب حينها رسالة موجهة إليهم بعنوان «اللهم إني أبرا إليك مما فعل هؤلاء». وينقل المقدسي اعتراف بعض الدواعش له «أن في صفوفهم بل في شرعييهم من هو من الخوارج، وأن هذا ما دفعه لحصره في هؤلاء دون إطلاقه عليها، وبقائه في وصف قيادتها المتغلبة ومن تابعها على ذلك». ثم يضيف في رسالته: «أعرف كما يعرف الشيخ أن في الدولة (أي داعش) من يخالف العدناني بل ويتمنى زواله هو وأمثاله من أهل الغلو».
كذلك نرى المقدسي يبطن دعوته لإصلاح «داعش»، بقوله: إن بعض من يرفضون أفعال القادة من الغلاة والخوارج يمثلون أملا لإصلاحها، وهو ما يراه واجبا يدعو إليه، خاصة مع أهمية وفعالية جماعتها، بقوله: «إصلاح فصيل ذي شوكة يدّعي تحكيم الشرع» بل ويميزهم عن غيرهم من الفصائل غير «جبهة النصرة»، وهو ما يعد تطورًا نوعيًا في خطاب المقدسي، وسمة ثابتة فيه في قلة الحرص على القطيعة مع الراديكاليين، والحرص على مكانته بينهم.
انطلاقًا من هذا الحرص اعتيد من المقدسي في انتقاداته دائمًا التطورات الجزئية دون المراجعات، أو الانقلابات الكلية لأطروحاته السابقة، سواء في شأن «داعش» أو غيرها، على طريقة كتابه القديم «وقفات مع ثمرات الجهاد» أو رسالته «مناصرة ومناصحة» اللذين كتبهما في نقد أبو مصعب الزرقاوي قبل مقتل الأخير عام 2006، ولم يرد على رده، وعليه، فالارتباك والمراوحة بين الدفاع والهجوم سمة من سمات خطاب المقدسي في نقده لسلفهم الزرقاوي ولهم.
اتساقا من منهج المراوحة والمزاوجة بين الدفع والطلب، والهجوم والانتقاد، أعقب المقدسي دراسته ببيان توضيحي قصير ينفي فيه أنه غيّر موقفه من «داعش»، نشره في الرابع من أبريل (نيسان) من العام الجاري، مؤكدا أنه «لم يتراجع عن فتواه» بخصوص «داعش» ومشددًا على أنه لم يتراجع، بل «تبرأ مما وصفها (جرائم داعش) في حق المسلمين» علنًا مرارًا وتكرارًا، ووصفهم بالغلو ونحر عقيدة الخوارج لقيادتهم التي شوهت مسمى الخلافة، وقبّحت الدولة الإسلامية في عقول الخلق». وتابع: «إنا من الناس الذين اكتووا بظلمهم وافترائهم وشتمهم وسبابهم، ومع ذلك لم أظلمهم أو أفترِ عليهم، ولم أقل فيهم إلا ما أعتقده وأدين الله به».
ورغم عدم اعتناء وتجاهل الدواعش لما يقوله المقدسي منذ فترة حتى الآن، فإن ما نشره - كما سبقت الإشارة - يبدو تكتيكًا جديدًا لاختراق نظري ناعم للتنظيم الفقير مرجعيًا ونظريًا، يؤكده بيانه التوضيحي. إلا أنه يظل أضعف عن تبديد أجواء العداء المتحكمة بينهما، فقد تزامن ما نشره مع تسجيل أخير للظواهري خصصه فقط للهجوم على «داعش» وإلصاق وصف الخوارج بهم.
وهنا نكرر التأكيد أن موقف المقدسي ليس جديدًا، ولكنه توضيحي. فموقفه من ضربات التحالف الدولي أو غيره ليس إلا تكرارا لمواقفه السابقة، وهي نفس مواقف «القاعدة» و«النصرة» وسائر المنظّرين في رفض الحرب الدولية على «داعش»، وصراعًا وجذبًا للأتباع من الجانبين. ومن ثم فهو لا يشكّل أي تعديل في وصف الخوارج، أما حصره في قادة التنظيم ومنظريه فلا يمثل شيئا غير إغراء وترطيب للأجواء بينه وبين منتقديه عبر خطاب أكثر نعومة. ولقد استعاض غيره عن استخدام وصف الخوارج بوصف «البغدادية» مثل أبو قتادة، أو «عقلية الخوارج» عند الراحل أبو يزن الشامي أبرز شرعيي «أحرار الشام» وغيره.