هل تعود روسيا إلى أفغانستان عبر بوابة طالبان؟

تعاني أفغانستان حربا طويلة تتوالى تبعاتها منذ أكثر من أربعين سنة، عندما دخلت قوات الاتحاد السوفياتي السابق إلى هذا البلد لدعم الحكومة الشيوعية في نهاية سبعينات القرن الماضي. منذ ذلك الحين لم تستقر أفغانستان، الدولة المسلمة المحاطة بدول لا تفوّت فرصة للتدخل في شؤونها الداخلية، تارة عبر إثارة النعرات الطائفية والمذهبية وطورا عبر محاولة إشعال فتيل حرب أهلية بين الإثنيات المختلفة التي تسكن في هذا البلد. ولا يبدو أن البلاد مرشحة لاستعادة الاستقرار، ولا سيما في أعقاب تصفية الولايات المتحدة أخيرا الملا أختر منصور، القائد الجديد لحركة طالبان، الذي خلف القائد المؤسس الراحل الملا عمر.
بعد رحيل نظام طالبان المتشدد الذي حكم أفغانستان بالحديد والنار لمدة ست سنوات، عانت فيها البلاد جميع الويلات؛ بسبب حضور تنظيم القاعدة والجماعات المسلحة الأخرى التي تدفقت إليها من كل حدب وصوب، كان يتوقّع لأفغانستان أن تستقر وتنعم بالأمن والأمان. وتعزّز هذا التوقع مع حضور أكثر من مائة وخمسين ألف عسكري تابع للجيش الأميركي وقوات حلف شمال الأطلسي «ناتو». غير أن النتيجة كانت عكس كل التوقعات؛ فالحرب لم تنته بعد، بل توسعت رقعتها، وباتت تأخذ منحى تصاعديا بعدما قويت شوكة طالبان، ودخلت على الخط جماعات مسلحة أخرى مثل تنظيم داعش، وأعاد تنظيم القاعدة صفوف مقاتليه في جبال وكهوف البلاد الوعرة، التي تعتبر أرضا خصبة لأنشطة الجماعات المتطرفة. هذا النشاط سجّل تصاعدا بعد عام 2012 عندما قررت القوات الدولية خفض قواتها المقاتلة في أفغانستان وتسليم الملف الأمني، بشكل تدريجي، إلى الجيش الأفغاني الحديث الولادة.
اليوم تحولت أفغانستان إلى «ساحة حرب بالوكالة» وأصبحت مكانا لتصفية حسابات دول لها مشاكل سياسية وأمنية بعضها مع بعض. ونجحت غالبية دول الجوار في نقل أزماتها، ولا سيما، أزماتها ومشاكلها الأمنية إلى داخل اِلأراضي الأفغانية.
إيران، الجارة الغربية لأفغانستان، التي لها حدود مترامية معها، استطاعت اللعب بجميع الأوتار من أجل إثبات حضورها السياسي والأمني داخل أفغانستان، سواءً كان ذلك عبر التدخل في شؤونها الداخلية من خلال «جماعات الضغط» التي شكلتها عبر أقلية الهزارة الشيعية (التي لا تتجاوز نسبتها 12 في المائة من سكان البلاد)، أو عبر تقديم الدعم المالي لمئات المؤسسات الاجتماعية والإعلامية الناشئة في كابل وغيرها من المدن.
ومنذ بعض الوقت أخذ الحديث يتردد في وسائل إعلام محلية، وكذلك على ألسنة مسؤولين محليين في غرب أفغانستان وشرقها بأن إيران فتحت قنوات التواصل مع حركة طالبان العدوة التقليدية لها، وذلك بعدما تأكدت من أن تنظيم داعش «في نسخته الأفغانية (ولاية خراسان)»، يسعى إلى تجنيد مئات المقاتلين في صفوفه في مناطق بالشرق والغرب الأفغانيين. أيضا، تتحدث التقارير عن أن ممثلين من حركة طالبان الأفغانية قاموا بزيارات مكوكية إلى طهران، حيث التقوا مسؤولين إيرانيين للحصول على دعمهم في مواجهة خطر «داعش» المتعاظم في أفغانستان. وعلى الرغم من أن الجهات الإيرانية الرسمية نفت زيارة وفود طالبان إليها، فإن علاقات طهران مع الجماعات المسلحة، خصوصا في جوارها، ليس أمرا مستبعدا، ولا سيما أن إيران سعت على الدوام إلى تثبيت موقعها السياسي والأمني عبر مثل هذه الجماعات. وهنا يقول غلام سخي وحدت، وهو صحافي أفغاني يغطي الأخبار والحوادث الأمنية التي تقع في غرب أفغانستان، خصوصا في ولايات مثل هرات وبادغيس وغور القريبة من أو المتاخمة للحدود الإيرانية «إن طهران سعت عبر وكلائها الأفغان على مدى السنوات الماضية لشراء ذمم قادة طالبان المحليين في هذه المناطق. وهي على اتصال مع هؤلاء، كما أن هناك تبادلا للمعلومات بين الطرفين من أجل التصدي لظاهرة (داعش) والتنسيق في الشؤون الأمنية». وتابع، إن هذا يحدث «بينما تزعم طهران أنها تدعم الحكومة الأفغانية الرسمية والشرعية في كابل، وأنها لن تجري حوارات مع جماعات خارجة على الحكومة مثل طالبان وغيرها».
ومن جانبه، يقول حضرت خان تشمن، والخبير الأمني والمحلل السياسي الأفغاني، عن هذا الجانب إن «هدف إيران من فتح باب الاتصال مع طالبان، وفي هذا الوقت بالذات، هو الإجهاز على مساعي الحوار بين الحكومة في كابل وجماعة طالبان بعد وفاة زعيمها المؤسس الملا عمر». ويضيف خان تشمن، إنه «ليس من مصلحة طهران إنهاء الحرب الجارية في أفغانستان، أو إنجاح الحوار من أجل المصالحة، بل إن ما تريده هو إطالة أمد الحرب وجعل الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها يتورطون أكثر فأكثر في المستنقع الأفغاني».
علاقات إيران بطالبان ليست غريبة إذن، ثم إن القيادة في طهران تبحث عن مصالحها الخاصة بها و«عدو الأمس» يمكن يتحول فجأة إلى «صديق اليوم»؛ وذلك من أجل التصدي لعدو مشترك هو «داعش أفغانستان». وبالنسبة لهذا التنظيم المتطرف تقول المعلومات بأن التنظيم ما زال يقوم بتجنيد مقاتلين إلى صفوفه، وأنه نجح في تأسيس مراكز قيادية له في ولايتي ننغرهار وكونر شرق البلاد، كما أنه يسعى إلى إيجاد موضع قدم له في مناطق الشمال الأفغاني المتاخم لحدود دول آسيا الوسطى حليفة روسيا الاتحادية. هذا، وتشير الأنباء إلى أن «داعش أفغانستان» يملك اليوم نحو عشرة آلاف مقاتل، غالبيتهم تنتمي إلى مسلحي الجماعات الإسلامية في دول آسيا الوسطى، وأن هذا العدد في تزايد مستمر في أعقاب حدوث شرخ في قيادة طالبان بعد وفاة مؤسسها. ولقد انضمت أعداد كبيرة من طالبان إلى صفوف «داعش»، الذي هو في وضع مالي أفضل من طالبان حاليا. وعلى الرغم من إعلان حكومة كابل الحرب على «داعش» وشن الجيش الأفغاني هجمات قوية وعنيفة ضد مراكز التنظيم المتطرف في ولاية ننغرهار، والكلام عن مقتل العشرات من مقاتلي التنظيم، فإن الظاهرة باتت مقلقة لأفغانستان ولجوارها، مثل إيران وروسيا والصين وحتى باكستان.
هذه الدول تتخوف من تعاظم نفوذ «داعش» في المنطقة والتحول إلى كارثة أمنية على غرار ما يجري في العراق وسوريا. وكل من هذه الدول تحاول مد يد العون إلى طالبان، التي هي الأخرى قلقة من تزايد نفوذ «داعش» على حسابها في كثير من المناطق.
مع هذا، المحللون السياسيون في كابل يرون أن طالبان تشعر بالعزلة وتعاني من قلة مواردها المالية. وهي الآن تبحث عن ممولين جدد، وقد تجد في إيران خير مموّل لأنشطتها العسكرية؛ نظرا للخطر المشترك الذي يجمعهما. لذلك؛ كما سبقت الإشارة، تعمل إيران على توطيد علاقاتها بطالبان من أجل التنسيق معها في الحرب ضد «داعش».
في هذه الأثناء، تتعدد الروايات حول ملابسات اغتيال زعيم طالبان، وخليفة الملا عمر، أختر منصور الذي استهدفته طائرة أميركية من دون طيار يوم 15 مايو (أيار) الماضي في منطقة أحمد وال، التابعة لمدينة كويتا الباكستانية.
الرواية الباكستانية تفيد بأن منصور قام بزيارة إلى إيران، ولقد عاش فيها لفترة تتجاوز شهرا كاملا، ووجدت تأشيرة إيرانية على جواز سفره الباكستاني، غير أن طهران نفت علاقتها بزعيم طالبان المقتول. ولكن في أي حال، كل المؤشرات تشير إلى أن إيران عززت صلاتها بالفعل مع طالبان، وفتحت قنوات التواصل مع مقاتلي الحركة من أجل التنسيق معها. وثمة معلومات عن أن إيران لعبت أيضا دور جسر التواصل بين طالبان وبين روسيا، التي أعربت عن رغبتها في التنسيق مع طالبان ومساعدتها في التصدي لظاهرة «داعش» الذي يهدد بالتمدد قرب حدود روسيا في مناطق الشمال الأفغاني على حساب طالبان. ولعل استهداف أختر منصور في منطقة قريبة من مثلث حدودي بين باكستان وإيران وأفغانستان يوحي بخطورة اللعبة التي تلعبها طهران في علاقاتها المزدوجة مع الحكومة الأفغانية من جهة ومع حركة طالبان من جهة أخرى.
على صعيد آخر، يقول حكمة الله صافي، الخبير الاستراتيجي الأفغاني، إن سياسة إيران تجاه أفغانستان «غامضة يشوبها الكثير من الشبهات وعلامات استفهام؛ فهي من جهة تقول بأنها تقف إلى جانب الحكومة في كابل وتدعم مساعيها للحوار وإنهاء الحرب، وتقدم لها الدعم المالي من أجل النهوض بمؤسساتها الحيوية. ومن جهة ثانية، نرى كيف أنها تتودد للجماعات المسلحة التي تنعتها كابل بالجماعات الإرهابية، مثل طالبان وتفتح لها مكاتب في أراضيها وتقوم بالتنسيق معها». ويتابع صافي «طهران تخرق القانون الدولي ولا تعير أي اهتمام للعلاقات السياسية القائمة عبر القنوات الدبلوماسية بين الدول»، ويستطرد قائلا: إنها «ستحاول في المرحلة المقبلة التقرب إلى طالبان أكثر فأكثر؛ لأنها تدرك جيدا بأن المنطقة مقبلة على حرب جديدة أحد أطرافها (داعش) في أفغانستان وعلى مستوى المنطقة».
أما بالنسبة لروسيا، التي تجاور أفغانستان عبر دول آسيا الوسطى، فهي الطرف الخارجي البارز الآخر الذي يسعى إلى توطيد العلاقات مع طالبان. وفي تطور جديد يكشف مدى محاولات الروس توسيع دائرة تحالفاتهم الإقليمية لمحاربة تنظيم داعش. وكما سبق، تصاعد في أفغانستان خلال الفترة الأخيرة، عندما أخذت مجموعات من طالبان تبايع «أبو بكر البغدادي» زعيم «داعش»، وهو الأمر الذي تسبب في إزعاج كبير عند قيادات الحركة.
هذا، وحسب موقع «دايلي بيست» الأميركي، فإن حركة طالبان تجري حاليا اتصالات مع الدول المجاورة لها من دول «كومنولث الدول المستقلة»، أي دول آسيا الوسطى السوفياتية سابقا، وحتى مع روسيا التي أخرجتها من أفغانستان عام 1989. ويشير الموقع إلى أن هذه الاتصالات لها علاقة بالجهود الروسية لمجابهة انتشار جماعات تتعهد بالولاء للتنظيم المتطرف. ويرجح خبراء أن تكون مخاوف روسيا هي ذات مخاوف طالبان من اتساع نفوذ «داعش»، مع التذكر أن لطالبان تاريخا في التواصل مع أعدائها لتحقيق مصالحها. ومن المفارقات، كما يرى بعض المحللين، أن الاتصالات مع روسيا تظهر في الوقت نفسه الذي رحب فيه نائب الرئيس الأفغاني عبد الرشيد دوستم بحلفائه السابقين في روسيا، وحاول تعزيز علاقاته بدول الاتحاد السوفياتي السابقة على الحدود الأفغانية. وكان الجنرال دوستم، وهو ينتمي إلى إثنية الأوزبك (التي تشكل غالبية سكان جمهورية أوزبكستان السوفياتية السابقة) قد زار موسكو وغروزني (عاصمة جمهورية الشيشان الروسية الذاتية الحكم) قبل بضعة أشهر وشن هجوما شديدا على «داعش»، قال فيه إن «دول الكومنولث» وحتى تاجيكستان وتركمانستان، كلها مستعدة للوقوف معنا ضد «داعش».
وحقا، سعت روسيا في الآونة الأخيرة إلى تعزيز إجراءات الأمن خوفا من تهديدات المتشددين، وخصوصا من منطقة شمال القوقاز المضطربة، بعد عودتهم إلى بلدانهم من الشرق الأوسط أو أفغانستان واحتمال سعيهم للانتقام من التدخل العسكري الروسي ضد الجماعات المعارضة السورية.
واليوم بات واضحا مدى اهتمام قادة دول آسيا الوسطى بخطورة تسلل «داعش» إلى أراضيهم عبر أفغانستان، خاصة أنهم اتفقوا على تشكيل «قوة مشتركة للدفاع عن الحدود» في أوقات الأزمات في ظل الاضطرابات في أفغانستان. ويقول الملا عبد السلام، القيادي السابق في طالبان والعضو في لجنتها العسكرية، إن «الاتجاه العالمي - الأميركي والتهديد الذي يمثله (داعش) باتا نقطة لقاء لمصالح روسيا والحركة الأفغانية، ولا يمكن أن نستبعد مزيدا من التعاون وفقا للسيناريوهات التي ستظهر في الشرق الأوسط». وهذا يعني أنه إذا نجحت روسيا في تدخلها بسوريا للدفاع عن بشار الأسد، فإن طالبان ستتشجع لتكثيف اتصالاتها بها، وربما التعاون علنا مع سلطات الرئيس فلاديمير بوتين. ولكن حتى الآن فإن الاتصالات مع موسكو تجري بسرية شديدة، والمكان الأساسي للمحادثات هو في جمهورية تاجيكستان، عبر الحدود مع ولاية شمال قندوز الأفغانية المحاصرة، التي ربما يكون عملاء الاستخبارات فيها مشاركين في تقديم شحنة أسلحة لطالبان. وكان ضمير كابلووف، مندوب الرئيس الروسي الخاص لشؤون أفغانستان، قد صرح بأن روسيا تجري اتصالات مع طالبان من أجل التنسيق والتشاور للقضاء على «داعش»، وأثار هذا التصريح استغراب الحكومة الأفغانية واستنكار وزارة الدفاع الأفغانية. ثم جاء السفير الروسي في كابل ألكساندر مانتستكي لينفي خبر «التنسيق» مع طالبان، مع أن ثمة معلومات بأن اتصالات الروس مع طالبان ترجع إلى بدايات عام 2013، وذلك عندما التقى مسؤولون في الاستخبارات الروسية، بالتنسيق مع الحكومة التاجيكية، بقادة طالبان على منطقة حدودية مع أفغانستان. فهل تعود روسيا التي خرجت مهزومة من أفغانستان في ثمانينات القرن الماضي إليها مجددا بحجة مواجهة «داعش».. لكن هذه المرة عبر طالبان؟