«العدالة والتنمية» و«النهضة».. الأولوية السياسية

يتساءل كثيرون من المراقبين والمختصين في التنظيمات الإسلامية عن خصوصية حزب «العدالة والتنمية» المغربي، و«حركة النهضة» التونسية، ومساهمتهما الحاسمة في ضمان استقرار بلديهما؛ وسط محيط إقليمي مضطرب، ينتشر فيه الإرهاب والمواجهات المسلحة عوض الاحتكام لصناديق الاقتراع ومنهج التداول السلمي للسلطة. غير أن المراجع لأدبيات وسلوك التنظيمين المغاربيين سرعان ما يفهم طبيعة سلوكهما السياسي الحالي، الذي جاء بعد ثورة بتونس جعلت من النهضة تنظيما شرعيا، وفي الوقت نفسه قائدة لحكومة ائتلافية، وطرفا مركزيا في الحكومة الحالية. أما في المغرب، حيث النظام السياسي ملكي تنفيذي، فقد أدى حراك 20 فبراير (شباط) 2011 إلى وصول «العدالة والتنمية» إلى قيادة الحكومة المغربية، بالتحالف مع ثلاثة أحزاب.
تعود أصول حزب «العدالة والتنمية» المغربي للحركة الوطنية المغربية؛ إذ أسس سنة 1967 باسم حزب «الحركة الشعبية الدستورية الديمقراطية». ويعد الدكتور عبد الكريم الخطيب، مؤسس الحزب، من أبرز قياديي المقاومة وجيش التحرير المغربي، وكانت له صلات وثيقة بالعائلة الملكية؛ وكان وراء اقتراح تنصيص الدستور المغربي على كون «الملك أميرا للمؤمنين». ولقد تمتع الرجل بعلاقة واسعة مع قادة التحرير في أفريقيا والعالم العربي. وعرف عن الخطيب توجهه الإسلامي المعتدل، ودفاعه عن المرجعية الإسلامية. ولقد اختارت حركة «التوحيد والإصلاح» الالتحاق بحزبه سنة 1996. وسرعان ما غير أعضاؤها اسم الحزب في 1999 إلى «العدالة والتنمية»، وفي عام 2004 أصبح الدكتور سعد الدين العثماني على رأس الأمانة العامة. وبعده انتخب عبد الإله بنكيران أمينا عاما جديدا، وهو يجمع حاليا بين رئاسة الحزب ذي المرجعية الإسلامية، وكونه رئيسا للحكومة بالمغرب.
وعلى عكس الاستقلالية التامة لحزب «العدالة والتنمية» وحركة «التوحيد والإصلاح». أسست حركة «الاتجاه الإسلامي» في تونس عام 1969، على منهج الإخوان المسلمين؛ إلا أن علاقتها بالتنظيم العالمي لـ«الإخوان» ظلت متوترة تاريخيا، خاصة أن كلا من عبد الفتاح مورو وراشد الغنوشي كانا يطرحان أفكارا ورؤى مختلفة عن المنظومة الفكرية لتنظيم حسن البنا. وكانت هذه الخصوصية الفكرية وراء طرد حركة «النهضة» من التنظيم العالمي (هذا ما صرح لنا به عبد الفتاح مورو في زيارته الأخيرة للمغرب عام 2014 في لقاء خاص به)، وذلك بداية تسعينات القرن العشرين (1991). ورغم أن بعض قيادات «النهضة» حضرت بعض الأنشطة التي كان وراءها التنظيم العالمي، فإن ذلك لا يعني أن «النهضة» جزء منه.
ولقد سعت حركة «النهضة» منذ عام 1987 للتحول لحزب سياسي شرعي يعمل في ظل الدستور والقانون القائم بتونس، وتقدمت مرتين لتأسيس حزب في هذا الإطار، غير أن وزارة الداخلية رفضت الطلبين معا. ولم يتم الاعتراف بالحركة بصفتها حزبا سياسيا إلا بعد الثورة حين رخصت له حكومة محمد الغنوشي الثانية يوم 1 مارس (آذار) 2011؛ وشارك في الانتخابات ليحتل المرتبة الأولى ويشكل حكومة مع حزب «المؤتمر من أجل الجمهورية»، وهو من يسار الوسط و«التكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات»، كما أنه يشارك اليوم مع حزب «نداء تونس»، الذي يعتبر من «الحرس القديم».
على خلاف «النهضة» التي تعرضت لتضييق ومواجهة شاملة قبل الثورة، استفاد حزب «العدالة والتنمية» جزئيا من بداية الانفتاح السياسي في المغرب منذ عام 1992. ففي ذلك العام طرح الملك بالمغرب دستورا ممنوحا، لكنه منح الوزير الأول بعض السلطات، وكذلك في العام نفسه صوتت حركة «الإصلاح والتجديد» (التي ستشكل عام 1996 رفقة «رابطة المستقبل الإسلامي» حركة «التوحيد والإصلاح») على هذا الدستور بنعم؛ مما اعتبر رسالة سياسية للملكية، مفادها استعداد الإسلاميين الإصلاحيين للعمل في ظل الدستور غير الديمقراطي، خاصة أن إسلاميي «العدالة والتنمية» لم يشككوا ولم ينازعوا الملكية شرعيتها. كما أن هذه الأخيرة لم تواجه الإسلاميين تاريخيا بشكل قمعي مبالغ فيه، كما هو الحال بتونس التي تبنت زمن الرئيس بن علي الذي اعتمد سياسة استئصالية للتيار الإسلامي عموما، وحركة «النهضة» خاصة.
تزامن هذا الانفتاح السياسي في المغرب مع سياسة دينية جديدة؛ إذ عمدت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية إلى تنظيم مظاهرة دينية فكرية عالمية سميت «مؤتمر الصحوة الإسلامية»، وشارك فيها زعماء إسلاميون بارزون، منهم راشد الغنوشي. وساهم هذا الانفتاح للنظام السياسي المغربي على حركة «النهضة» في تمتين العلاقات بين الإسلاميين المغاربة والتونسيين، خاصة أن قيادات القطاع الطلابي لـ«النهضة» هربت من بلادهم بداية التسعينات للمغرب، ولقيت دعما من إسلامييه بزعامة بنكيران. ومن القيادات البارزة لـ«النهضة» التي استقرت في المغرب المفكران «النهضويان» التونسيان عبد المجيد النجار وحسن بن حسن المتخصص في الفلسفة الغربية الحديثة.
وظلت العلاقات بين التنظيمين المغاربيين كبيرة، وعقدت بينهما لقاءات كثيرة ومتعددة، في الوقت الذي كان حزب «العدالة والتنمية» المغربي في المعارضة، و«النهضة» التونسية في المنفى. كذلك استمر التواصل المكثف بعد ثورة 2011، حين أصبحت الزيارات التي تقوم بها قيادات التنظيمين متعددة في السنة الواحدة. ومن أبرز ما أسفر عنه هذا التواصل في السنوات الأربع الماضية، توجه «النهضة» الجديد للفصل بين المجال الدعوي والسياسي؛ فقد ركزت اللقاءات بين التنظيمين على هذه المسألة منذ 2012، واستقبلت حركة «التوحيد والإصلاح» المغربية قيادات عدة لـ«النهضة» بقصد الاطلاع على التجربة المغربية للتمييز بين المجالين الدعوي والسياسي. فإسلاميو المغرب بدأوا هذا المسلسل منذ 1998، فيما سمي بسياسة «التمييز بين الدعوي والسياسي» التي أدرجتها حركة «التوحيد والإصلاح» في مخططها الاستراتيجي للتخصصات. ويقول مرجع سابق في الحركة، إن هذا التوجه «ترجمة عملية لرغبة الحركة في الانتقال من تنظيم جامع بديل متعدد الوظائف، إلى حركة رسالية فاعلة ومنفتحة عليه وعلى طاقاته»، وهكذا تفرع عن التنظيم فصل العمل السياسي والنقابي، والجمعوي عن الحركة الأم.
وفي هذا الإطار استدعت حركة «النهضة» عام 2015 رئيس حركة «التوحيد والإصلاح» عبد الرحيم الشيخي والأستاذ محمد يتيم، وهو من أبرز منظري «العدالة والتنمية» وحركة «التوحيد والإصلاح»، لتقديم ورقة حول الفصل بين الدعوي والسياسي أمام أعضاء مجلس شورى حركة «النهضة» في تونس العاصمة. وعلى ما يبدو فإن التلاقي الفكري بين التنظيمين لم يقرب بينهما فقط، بل جعل موقفيهما تجاه التيارات المتطرفة العنيفة متطابقا؛ فقد رفض التنظيمان استعمال العنف والتكفير الديني، ودخلا في مواجهة معه دعوية وسياسية في مرحلة المعارضة، وفي زمن المشاركة في السلطة. كذلك اتخذ التنظيمان في مناسبات متواترة مواقف وسلوكيات جريئة ضد الفكر الإرهابي، والتنظيمات العلمانية المتطرفة. الشيء الذي جر على كل من «العدالة والتنمية» وحركة «النهضة» سخط التطرف الديني واللاديني؛ إذ يعتبر الأول تبنيهما للمرجعية الإسلامية والتدين المعتدل والقبول بالديمقراطية والدستور والمؤسسات الشرعية كفرا بالشريعة. وفي المقابل، يعتبر الخصوم العَلمانيون التنظيمين وجها آخر لـ«داعش» و«القاعدة»، وأن قبولهما بالديمقراطية مجرد نفاق سياسي مرحلي.
وفي الوقت الذي يؤكد «العدالة والتنمية»، وكذلك حركة «النهضة» أنهما حزبان بمرجعية إسلامية، وأنهما تنظيمان إصلاحيان ديمقراطيان يؤمنان بالتداول والمواطنة والتشاركية في السلطة، من دون إقصاء أي تيار سياسي، جاء سلوكهما السياسي أقرب لأدبياتهما منه لمزاعم خصومهما الإيديولوجيين. فقد شكل حزب «العدالة والتنمية» الحكومة المغربية عام 2011 بالتحالف مع الحزب الشيوعي المغربي سابقا، أي حزب «التقدم والاشتراكية»، ومنحه مناصب وزارية تفوق حجمه داخل البرلمان؛ كما تحالف مع حزب الاستقلال في الحكومة الأولى، وعوّضه في التعديل الحكومي لعام 2012 بحزب التجمع الوطني للأحرار (يمين ليبرالي)، كما بقي متحالفا مع حزب الحركة الشعبية ذي الميول الأمازيغية.
أما حزب حركة «النهضة» فقد أعلن قبل الانتخابات الأولى والثانية 2014، أنه لن يترشح للانتخابات الرئاسية وأنه سيشكل حكومة مع الأحزاب التي تريد التحالف معه كيفما كان اتجاهها الإيديولوجي. وعلى عكس بعض التوقعات لم يظهر الحزبان أي نزوع للهيمنة، ولم ينجرّ «العدالة والتنمية» وحركة النهضة للمعارك الدينية الهوياتية، كما أنهما اعتبرا التدين مسألة حرية شخصية لا يحق للدولة منعها أو فرضها على المواطنين؛ وهو ما أظهر الحزبين بمظهر ليبرالي إسلامي، خصوصا، بعد التحول السريع لخطاب الحزبين وتركيزه على المسائل الاقتصادية التنموية ومعالجة المعضلات الاجتماعية مثل البطالة في صفوف الشباب.
من جانب آخر، تفادى الحزبان الإسلاميان المغربي والتونسي أي صدام مع مؤسسات ما يطلق عليه «الدولة العميقة»؛ ضمانا للسير العادي لمؤسسات الدولة. فـ«العدالة والتنمية» لم ينافس المؤسسات السياسية مثل الملكية، والأجهزة الأمنية والعسكرية في المغرب. وهو الاختيار نفسه الذي نهجته «النهضة» التونسية، حيث قررت عدم الترشح لرئاسة الجمهورية، بل ساندت منصف المرزوقي في أول انتخابات بعد الثورة، ومن ثم اختارت عدم دعم أي من المرشحين لقيادة البلاد في الانتخابات التي أفرزت فوز الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي. ومن جهة ثانية، ساندت «النهضة» بحزم الأجهزة الأمنية والجيش ضد التنظيمات الإرهابية، بل وكانت ضد قانون العزل السياسي الموجه ضد رموز نظام زين العابدين بن علي. ثم إن «النهضة» اليوم لا تعارض رجوع أي مواطن تونسي لبلده، بما فيه الرئيس السابق، وتدعو لتمكينه وأسرته من جواز السفر التونسي.
إن المتتبع للممارسة السياسية لكل من «العدالة والتنمية» المغربي وحركة «النهضة» التونسية سيلاحظ الذهنية المشتركة للفصيلين الإسلاميين، خاصة فيما يخص التعامل مع بنية الدولة العربية غير الديمقراطية، وكذلك في منهجية التعامل مع المحيط الدولي. ففي مناسبات متعددة كرّر الأمين العام لحزب «العدالة والتنمية» قوله: إنني «لم آت لأتصارع مع الملك، وإذا أراد المغاربة رئيس حكومة يتصارع على السلطة مع الملك فليبحثوا عن شخص غيري. أنا أتيت لأتعاون معه على خدمة البلد»؛ وهذه العبارات تلخص معنى شعار حزبه «الإصلاح في ظل الاستقرار»؛ وكون الملك فيه هو الحاكم الفعلي للدولة، وفقا لدستور 2011.
ورغم أن «العدالة والتنمية» وحركة «النهضة» لم يحققا الكثير على المستوى الاقتصادي والاجتماعي في المغرب وتونس، فإنهما تمسكا فعلا بمنهج الشراكة الوطنية، ونبذا احتكار السلطة، ومدا اليد لمختلف التيارات السياسية الشرعية، وتحاشيا الاصطدام مع المؤسسات الممسكة بالدولة تاريخيا، وبرز وقوفهما الحازم ضد الفكر والتنظيمات الإرهابية. كل ذلك ساهم بشكل حاسم في الحفاظ على استقرار بلدي الحزبين، كما أدى ذلك إلى توسيع هامش الحريات العامة وتعزيز حقوق الإنسان، في دولتين تبحثان عن بناء دولة ديمقراطية حديثة، وترفضان الانزلاق نحو الحروب الأهلية الدموية.
* أستاذ العلوم السياسية - جامعة محمد الخامس - الرباط