الغنوشي لـ «الشرق الأوسط»: نحن البديل عن «داعش» و«القاعدة»

أعلن رئيس حزب «النهضة» التونسي في حديث شامل مع «الشرق الأوسط» أن حركته مقبلة على تغييرات شاملة في قياداتها المركزية، خلال الصيف، تتضمن فصلا كاملا بين المؤسسات السياسية للحزب وكل الجمعيات الخيرية والمجتمعية والدعوية والدينية.
واعتبر زعيم حزب النهضة التونسي أن حزبه والأحزاب المعتدلة في المنطقة - مثل حزب عبد الإله ابن كيران في المغرب - هي البديل الحقيقي عن «داعش» و«القاعدة» وغيرها من التنظيمات المتورطة في العنف والإرهاب باسم مرجعيات دينية. وأعلن الغنوشي عن دعم حركته وحزب نداء تونس والائتلاف الحزبي الحكومي الحالي لتجديد الثقة في حكومة الحبيب الصيد رغم الصعوبات التي تمر بها.
* يصف البعض مؤتمركم الوطني العاشر بـ«المؤتمر التأسيسي الجديد» لحزب مدني له مرجعيات إسلامية.. ماذا بعد المؤتمر؟ ما أولوياتكم الجديدة بعد أعوام من المشاركة في الحكم جاءت بعد عقود من القمع والصدامات مع السلطات؟
- بعد عقود من القمع والمضايقات عقدنا خلالها مؤتمرات سرية انعقد مؤتمرنا التاسع في 2012 ونحن نرأس الحكومة الانتقالية. وجاء هذا المؤتمر العاشر في ظل مشاركة جزئية في الحكم ليسمح بالقيام بنقد ذاتي واستشراف المستقبل. بعد هذا المؤتمر الوطني الناجح فإن أولويتنا هي تنفيذ مقرراته السياسية والتنظيمية بدءا بتشكيل الهيئات القيادية الجديدة للحركة.
فقد انتخب المؤتمر رئيس الحركة وثلثي أعضاء مجلس الشورى الوطني الجديد - أعلى سلطة بين مؤتمرين - الذين سينتخبون الثلث المتبقي. وسوف يعرض رئيس الحركة على المجلس بكل أعضائه قائمة أعضاء المكتب التنفيذي الجديد للتزكية والمصادقة.
وسيكون الصيف المقبل موعدا لتجديد كل هياكل الحركة جهويا، عبر انتخابات جهوية سوف تؤدي لأول مرة إلى انتخاب أمناء العامين الجهويين واستحداث مجالس شورى جهوية منتخبة.
وهذه الهياكل المنتخبة سيقع استحداثها ضمن استراتيجية الإصلاح والتغيير التي تبناها المؤتمر والحزب بعد أن تطور إلى حزب وطني مدني وسطي جامع لكل التونسيين والتونسيات.
* كيف تفسرون الاهتمام الدولي الكبير بمؤتمر حزب النهضة الإسلامي التونسي وحضور مئات الدبلوماسيين والإعلاميين والضيوف العرب والأجانب لافتتاحه إلى جانب حضور رئيس تونس وزعيم «التيار البورقيبي العلماني» الباجي قائد السبسي ومئات العلمانيين والليبيراليين واليساريين التونسيين؟ هل هو بحث عن «مشروع إسلامي معتدل» في مرحلة تزايد فيها تأثير الغلاة والمتشددين وبينهم من ينتسب إلى المرجعيات الدينية مثل عناصر «القاعدة في المغرب الإسلامي» و«داعش»؟
- حضور رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي للمؤتمر الوطني لحركة النهضة ذات المرجعيات الإسلامية يؤكد الصبغة الاستراتيجية للشراكة والتعاون بين الوطنيين التونسيين من رموز التيارين الدستوري والإسلامي. ومشاركة رئيس الدولة في افتتاح مؤتمر حركة النهضة تؤكد ما جاء على لسانه من كون حركتنا تطورت فعلا من حركة إسلامية شمولية إلى حزب مدني وطني متصالح مع الدولة والمجتمع اللذين تبنيا في دستور 2014 بوضوح أن الإسلام دين الدولة والغالبية الساحقة من شعب تونس.
قائد السبسي دعم أولويات التوافق والمصالحة الوطنية والتنمية ونحن ندعم نفس الأولويات.
نحن نعتقد أن المصالحة بين الدولة وحركة النهضة ثم التجاوب الكبير مع حركتنا ومع مؤتمرها وطنيا وعربيا وإسلاميا ودوليا تأكيد على كوننا فعلا البديل عن الغلو وعن «داعش» و«القاعدة» وغيرهما من التنظيمات التي ستثبت الأيام أن دورها سينتهي قريبا.
لقد انتشرت الشموليات الشيوعية واليمينية والوطنية والدينية في العالم أجمع بعد الحرب العالمية الأولى واستفحلت بسبب سياسات القمع والاستبداد والإقصاء. وكان بينها شموليات إسلامية جاءت رد فعل على انهيار الخلافة ثم على التضييق على الحق في التدين والتعبد والصلاة وارتداء الحجاب..إلخ.
واليوم تطورت حركة النهضة التونسية وفصائل من الحركات الإسلامية بفضل مناخ الحريات في المنطقة في اتجاه العمل الحزبي المدني. ونعتقد أن الترحيب الرسمي والشعبي في تونس وخارجها بهذا المسار رسالة إيجابية تؤكد أن «البديل عن داعش» وعن غيرها من الجماعات الشمولية المتورطة في العنف.. هي الأحزاب الديمقراطية المدنية المتصالحة مع المرجعيات الوطنية العربية الإسلامية لغالبية أبناء شعبها خاصة في البلدان المغاربية (من بينها النهضة) حيث الأغلبية الساحقة مسلمون مالكية لا تشقهم تناقضات عقائدية أو مذهبية أو طائفية خلافا لبعض دول المشرق.
وقد أعاد رئيس الدولة في الكلمة التي توجه بها من مؤتمر حركتنا إلى مناضلينا وإلى الشعب التونسي ودولته وإلى الضيوف والمراقبين الأجانب على كونه لا تناقض بين الإسلام والديمقراطية ولا بين المرجعيات الإسلامية والأحزاب الحداثية المدنية الوطنية التي تتفرغ لخدمة المشاغل التنموية للشعب.
* تراوحت ردود الفعل وطنيا وعربيا ودوليا على نتائج مؤتمر حزب النهضة بين مرحب ومنتقد. وبرز الخلاف خاصة حول قرارات لوائح المؤتمر الخاصة بالفصل بين «الدعوي الديني» و«العمل الحزبي السياسي»؟ فهل يتعلق الأمر فعلا بتوجه نحو «العلمانية» والفصل بين الديني والسياسي نهائيا؟
- لوائح مؤتمرنا أكدت على التخصص الحزبي بالنسبة للذين يختارون العمل الحزبي والتخصص في العمل الخيري والثقافي والاجتماعي والدعوي بالنسبة للذين يختارون التخلي عن المسؤوليات الحزبية السياسية والتفرغ لخدمة المجتمع ضمن منظمات المجتمع المدني والهيئات غير الحزبية التي انتشرت وتضاعف دورها بعد أن انتصرت الديمقراطية وتراجعت هيمنة الدولة والحزب الحاكم السابق عليها.
لوائح مؤتمرنا أقرت المصالحة مع قوانين البلاد ودستورها الجديد فيما يتعلق بوقف تداخل عمل قيادات الأحزاب مع عمل منظمات المجتمع المدني. لقد تسبب القمع سابقا في لجوء المعارضات الشمولية وبينها الأطراف اليسارية والإسلامية إلى توظيف النقابات والجمعيات والمنظمات الطلابية ضمن خطتها الحزبية. كما وظف الإسلاميون في مرحلة من المراحل الجوامع.
أما اليوم وقد فرض الشعب حرية العمل السياسي والحزبي العلني وبعد أن انتصرت الديمقراطية والتعددية السياسية والحزبية فالتخصص ضروري ومحمود. وهو ليس مجرد تقاسم للأدوار بل خيار مبدئي.
ولا ينبغي أن يغيب عن الجميع أن العالم الإسلامي لم يكن يعرف مثل هذا الخلط قبل الحرب العالمية الأولى. لكن التخوفات على مستقبل الأمة الإسلامية بعد سقوط الخلافة العثمانية أفرزت جماعات إسلامية تبنت «الشمولية» ردا على شموليات انتصرت بين الحربين العالميتين من بينها الشيوعية والستالينية والفاشية والقوميات.. الخ.
* أليس مثل هذا التوجه انتصارا للتوجه العلماني على حساب المدارس الدينية القديمة؟
- نحن لم نقل أبدأ إننا انتقلنا من حزب إسلامي إلى حزب علماني ولم تتحدث لوائح مؤتمرنا عن التخلي عن المرجعية الإسلامية رغم تبنيها تطوير هوية الحزب السياسي إلى حزب مدني وطني وسطي مفتوح لكل التونسيات والتونسيات.
بل لا يكاد يوجد في تونس اليوم زعيم أو حزب سياسي مهم يصف نفسه بالعلمانية ويتبرأ من الهوية الإسلامية للبلاد وللشعب بما في ذلك رئيس الدولة والزعيم المؤسس لحزب نداء تونس الباجي قائد السبسي وأعضاؤه. تونس دولة لها هوية عربية إسلامية والدستور الجديد ينص على ذلك بوضوح. لكننا ننتقل من الشمولية إلى التخصص السياسي والحزبي.
* هل كنتم حركة شمولية؟ وكيف تفسرون إذن تصالحكم مع رموز حزبي بورقيبة وبن علي الذين حضر مئات منهم افتتاح مؤتمركم مثل الهادي البكوش وعبد الرحيم الزواري وأحمد فريعة وعبد الحفيظ الهرقام؟
- حركتنا نشأت مثل بقية الحركات السياسة والإسلامية القديمة في المنطقة حركة شمولية. وقد يكون الأمر بالنسبة لتونس مرتبطا بكون الحزب الحاكم نفسه - في عهد بورقيبة وبن علي - كان حزبا شموليا يهيمن على الحياة السياسية والمجتمع المدني وما كان يسمى بـ«المنظمات القومية» التي كان بعض قادتها أعضاء في القيادة العليا للحزب مثل الديوان السياسي أو اللجنة المركزية.
وبعد أن سقطت الدولة الشمولية والحزب الشمولي الحاكم أعتقد أنه انتهى دور كل «الأحزاب الشمولية» سواء كانت شيوعية أو قومية أو إسلامية.
نحن ننتمي اليوم إلى جيل جديد يمنع فيه قانون الأحزاب والجمعيات والدستور وكذلك قانون المساجد الخلط بين السياسي والديني وبين المسؤوليات الحزبية والمسؤوليات على رأس منظمات المجتمع المدني.
الواقع تطور من حولنا بعد سقوط الديكتاتورية والاعتراف بالإسلام والعروبة هوية للدولة وأصبح التخصص صفة من صفة الدولة والمجتمع الحديثين. فما هو إذن مبرر تسييس المساجد أو توظيفها حزبيا بينما يسمح المجال بممارسة الأنشطة الحزبية والسياسية في مقرات الأحزاب والفضاءات العامة؟
نحن مع التمايز بين وظائف الإصلاح: الدولة راعية للدين.. والمجتمع المدني المستقل مسؤول عن الإصلاح الاجتماعي والثقافي والعمل الخيري بينما الأحزاب مسؤولة عن الإصلاح السياسي. وأعتقد أن هذا التمايز مفيد للدين وللصحوة الدينية من جهة وللإصلاح السياسي من جهة ثانية. ولطالما تأثرت الصحوة الدينية والإيمانية سلبا بالاضطرابات السياسية كلما ساءت علاقة السلطات بالأطراف السياسية الإسلامية.
بل لقد تسببت الخلافات السياسية والحزبية مرارا بين السلطات والأحزاب الإسلامية في صعوبة ممارسة عموم المتدينين لشعائرهم الدينية ووقع الخلط بين المصلين والمتحزبين. كما مُنع الحجاب ومورست مضايقات على المصلين بسبب المعارك السياسية. السياسة متقلبة وساحة تدافع ومعارك فلماذا تتضرر مجالات الدعوة والصحوة الإيمانية وجمعيات الإصلاح الثقافي والاجتماعي والدعوي كلما اصطدمت السياسة بالسلطة؟ لا نريد للدين أن يبقى مصيره رهين تقلبات السياسية ولا أن توظف السياسة الدين. السياسة متقلبة والدين من خصوصياته الثبات.
وفي هذا السياق نرحب بمصالحة رموز التيارات الدستورية والوطنية ورموز الدولة في العقود الماضية مع مشروعنا السياسي ومع دعواتنا للتوافق والمصالحة الوطنية.
* هل هناك تجارب إسلامية اعتمدت من قبل مثل هذا التخصص والتمايز بين الديني والسياسي؟
- فكرة الحزب الشمولي تنتمي لجيل تخوف على مستقبل الأمة فتبنى خيارات التيارات الشمولية القومية واليسارية والإسلامية. كان الخوف كبيرا على كل ثوابت الأمة فبرزت كتابات - بينها كتابات سيد قطب رحمه الله - التي دعت إلى إعادة بناء كل شيء و«الدعوة إلى لا إله إلا الله مجددا» و«الدعوة إلى كلمة التوحيد». في تلك المرحلة كانت النظرة إلى دور الحزب الإسلامي أو الحركة الإسلامية على أنها «دعوة جديدة للإسلام من الأساس» و«الجماعة الناجية من النار».
هذه المرحلة - مرحلة الآيديولوجيات الشمولية بأنواعها - تجاوزناها في تونس وفي العالم. ونحن اليوم في مرحلة التخصص بأدق ما يكون.
هناك تجارب إسلامية مهمة في هذا الاتجاه. ولعل أقرب تجربة إلينا في هذا السياق تجربة المغرب الشقيق، حيث تمايز الحزب السياسي - حزب العدالة والتنمية بزعامة عبد الإله ابن كيران رئيس الحكومة - عن دور جمعيات الدعوة والإصلاح. وفي تركيا هناك استقلال كامل للسياسي والحزبي عن المناشط الدينية والاجتماعية والأوقاف والتعليم. وهناك تجارب أخرى ناجحة.
تجربتنا في تونس تسعى إلى أن تتميز باستقلال تام للعمل السياسي الحزبي عن دور منظمات المجتمع المدني. وهو خيار يفرضه القانون وتفرضه المصلحة.
* أليس في ذلك مخاطر انقسام بالنسبة لحركتكم؟ وهل يمكن أن يستفيد المتشددون والمحسوبون على التيارات المتطرفة وبينها «داعش» و«القاعدة» من هذا التطور الجديد في خيارات حزب النهضة التونسي؟
- أولا نحن البديل الحقيقي عن الجماعات المتشددة وبينها «القاعدة» و«داعش» والمجموعات التي برزت مؤقتا في شكل ردود فعل عنيفة على ظواهر سياسية مؤقتة مثل قمع المتدينين أو اضطهاد السنة في العراق أو مخاوف «العزل السياسي». ثانيا نحن لم نطلب من أحد أن ينسحب من الحزب السياسي وأن يتفرغ لأنشطته الفكرية والثقافية والدينية والاجتماعية. لكن أعضاء بارزين في قياداتنا السابقة لم يترشحوا مجددا للمسؤوليات ولا لأي مسؤولية حزبية واختاروا العمل الجمعياتي على العمل الحزبي. وبعض الشخصيات الذين وقع انتخابهم في المؤتمر لعضوية مجلس الشورى الوطني قرروا أن يستقيلوا وأن يتفرغوا للعمل المجتمعي وبينهم الأخ الحبيب اللوز.
* كثرت الانتقادات لحكومة الحبيب الصيد وتزايدت المطالبات بتغييره.. هل ستطالبون بإسقاطها أم سوف تتابعون مع رئيس الجمهورية وحزب النداء دعمها؟
- تمر حكومة السيد الحبيب الصيد بصعوبات. لكننا لا نعتقد أن من مصلحة البلاد ولا مؤسسات الدولة اليوم تغيير رئيس الحكومة الحبيب الصيد. ولا نعتقد أنه يوجد أي بديل عنه حاليا. الأستاذ الحبيب الصيد يعمل بجد مع فريقه الحكومي. ونحن في حركة النهضة وكذلك حزب النداء وشركاؤه في الحكم ندعمه ونعتبر أن أولويات المرحلة القادمة اقتصادية اجتماعية تنموية وليست سياسية. الشباب والمهمشون والشعب في انتظار حلول تنموية والبلد يستعد للانتخابات البلدية والجهوية العامة ومن مصلحة الجميع دعم حكومة التوافق الحالية.
* كيف تنظرون إلى مستقبل جارتكم ليبيا سياسيا وأمنيا خاصة أنها كانت قبل 2011 الشريك الاقتصادي الأول لتونس بعد الاتحاد الأوروبي؟
- الشقيقة ليبيا ستنتصر على الإرهاب نهائيا ولو بعد حين. كما سوف ينتصر فيها خيار التسوية السياسية على خيار الحرب والعنف رغم بعض التعثر الذي يسجل هنا وهناك. وسيثبت الشعبان في تونس وليبيا مجددا أنهما فعلا أقوى من الإرهابيين وأن ظاهرة العنف والإرهاب لن تنتصر في كامل البلدان المغاربية بفضل عوامل كثيرة من بينها وجود نوع من الإجماع على رفض إقحام المنطقة في صراعات حزبية وطائفية ومذهبية غريبة عن هوية المجتمعات المغاربية المتصالحة مع عروبتها وإسلامها وخصوصياتها الثقافية.