«ثورة حوار بيضاء» لمواجهة التطرف

من المقطوع به أن الاهتمام بـ«المقدّس» كان صفة ملازمة للحياة البشرية في الكثير من المجتمعات منذ بداية التاريخ المدوّن، وهي صفة توحي بقوة أن الروحانية أمر أساسي بالنسبة للطبيعة الإنسانية. ولقد عبّر عن هذه النقطة بوضوح المؤرّخ الديني ولفريد كانتول سميث بقوله «... هناك بُعد سامٍ في الحياة البشرية، وعلى قدر ما يستطيعه تصوري، كان ذاك موجودا دائما منذ العصر الحجري». غير أن إشكالية العقود الحديثة في واقع الحال، هي أن هناك من أراد أن يسخّر الدين لخدمة مصالحه النفعية الآيديولوجية الضيقة، عوضا عن الرحابة الروحانية التي يولدها في نفوس أتباعه.
الدين كما يعده الكثير من مؤسسي علم الاجتماع الحديث، وفي مقدمتهم إميل دوركهايم، الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي الشهير: «يلد كل ما هو أساس للمجتمع»، بما في ذلك الاجتهادات الكبرى كالعلوم. وهنا لا بد من البحث في إمكانية أن يساهم الدين في توليد العنف أم لا. هل يمكن للدين أن يولد العنف؟ وما الذي جرى إذن في نهايات القرن العشرين وبدايات القرن الحادي والعشرين وحوّل الأديان، عند البعض على الأقل، إلى أداة للعنف والقتل، والإقصاء والعزل؟
يبدو أن جواب المثقف الفرنسي الكبير آندريه مالرو قد وجد له أخيرا إجابة. لقد تساءل الرجل في ستينات القرن العشرين عن القرن الحادي والعشرين، وعما إذا سيكون قرنا دينيا أم لا؟.. والإجابة أنه بدأ قرنا مغرقا في التدين الزائف، وداعي ذلك ربما غياب المواجهة الآيديولوجية السياسية بين المعسكرين الشرقي والغربي، أو بين الرأسمالية والشيوعية، ومن هنا وجد من يتلاعب بأريحية الأديان ليعزز انتشاره ونفوذه الاستراتيجيين حول العالم.
على سبيل التذكير فقط، نعيد النظر فيما فعلته الولايات المتحدة في آسيا، ولا سيما في أفغانستان، خلال ثمانينات القرن المنصرم، من مغازلة لتيار الإسلامي السياسي، ودعمه عسكريا في مرحلة تالية، لمواجهة المد الشيوعي في تلك البقعة الجغرافية، وقطع الطريق على الاتحاد السوفياتي؛ خوفا من وصوله إلى منابع النفط في الخليج العربي.
التديّن العنفي الأميركي
ولم يقتصر المشهد على هذا فقط؛ إذ كانت أوائل الثمانينات بدورها العصر الذهبي لمولد التيار اليميني المسيحي في الولايات المتحدة إبان رئاسة رونالد ريغان، الذي آمن بـ«العنف الديني» عامة و«العنف التوراتي» بصفة خاصة. ومن ثم من حوله رجال يروجون لهذا الفكر من عينة القس بات روبرتسون والقس جيري فالويل، اللذين أسبغا عنفا دينيا غير مسبوق على المواجهة الآيديولوجية مع المعسكر الشيوعي. واتصل هذا الإرث لاحقا بالرئيس جورج بوش الابن الذي قسّم العالم غداة اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 إلى معسكرين: الأخيار والأشرار: «مَن معنا» و«مَن ضدا». وهكذا، أضحى القرن الحادي والعشرون قرن المواجهات الدينية الأصولية العنيفة، التي أفرزت «القاعدة» و«داعش» وأشباههما بصورة غير مسبوقة إلا في تاريخ الحروب الدينية منذ أكثر من ثمانية قرون. من هذا المنطلق بدأ العنف باسم الدين صرخة عصرية شرقا وغربا، وفي مقابل «حروب الرّب المقدّسة» في الغرب التي سفكت في سبيلها دماء كثيرة وارتكنت إلى نصوص جرى لَي أذرعها، و«مزامير لعن»، على حد توصيف عالم اللاهوت الكاثوليكي الشهير هانس كينغ، برزت على السطح في الشرق «داعش» ودعوتها لـ«الخلافة الإسلامية الجديدة»، مقدما مفاهيم ضيقة وجامدة للإسلام، وتبيد من على وجه الأرض «الآخر» قتلا وحرقا، في صورة أبعد ما تكون عن الإسلام الحقيقي، إسلام الرحمة للعالمين، ومبادئ التواد والإخاء والأمر بالمعروف، التي هي صلب العقيدة السمحاء.
لقاء القاهرة
ما ذكّرنا بهذه القضية في هذه الآونة من جديد يتصل باللقاء الذي عقد في العاصمة المصرية القاهرة في الفترة من 3 إلى 6 مايو (أيار) الحالي تحت عنوان «متّحدون في مواجهة العنف باسم الدين». وهو لقاء تدريبي للشباب المصري، مسلمين ومسيحيين، احتضنهم «مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات» في العاصمة النمساوية فيينا، بغرض إشراك هذه الفئة العمرية في الحوار الدائر عالميا من أجل إيجاد مناخ للعيش المشترك وتعزيز مبادئ المواطنة المشتركة بين جميع الطوائف الدينية والجماعات العرقية في العالم العربي علي نحو خاص.
مما لا شك فيه أن دور الشباب في هذا المجال غاية في الأهمية، والمسألة ليست في أن القضية هنا أكبر وأعمق من قدراتهم على اتخاذ قرارات الحرب والسلم، ولا ألا إمكانات قيادية أو ريادية عند هؤلاء الشباب لزخم عالم الحوار من أجل ترسيم ملامح عالم يملؤه السلام، في مواجهة دعوات الشر المنطلقة ذات اليمين وذات اليسار.
الحقيقة المهمة أن بعض وسائل التواصل والتكنولوجيا الجديدة، التي يمكن أن تدخل فقهيا في إطار ما يسمي بـ«فقه النوازل أو المستجدات» يمسك بعنقها شباب العصر وبامتياز. وعليه، فبقدر أو بطريقة تعاطيهم معها، يمكن للعالم أن يعرف صيفا أو شتاء. بمعنى أنه يمكن للعالم أن يكون في المستقبل أكثر أمنا، وبالقدر نفسه تبقى فرص تحويله إلى ساحات للحروب وللنار والدمار، وللمواجهات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
كان لقاء القاهرة التدريبي للشباب المصري، ولقد سبقه لقاء مماثل قبل بضعة أشهر في العاصمة الأردنية عمّان، وسيعقبه لقاء ثالث في تونس، ثم رابع في دبي، يتمحوَر حول «وسائط التواصل الاجتماعي كمساحة للحوار».
التركيز على هذه الآلية في مواجهة «عنف الأصوليات» المتصاعد شرقا وغربا أمر حيوي، ولقد كان المفترض في وسائل التواصل الاجتماعي أن تكون أداة للتقارب ووسيلة وآلية تدفع سوء الفهم المتبادل، تعزّز نقاط اللقاء وتعظمها، وتقلص محطات الافتراق وتحجمها. تحث على الفضيلة وتبعد عن الرذيلة، وتجمع شمل البشرية لا أن تفرقها باطراد أصولي متنامٍ. ولكن من الواضح أن قطاعا لا يستهان به من الشباب حول العالم عامة، وفي عالمينا العربي والإسلامي بنحو خاص، قد ذهب مذهب آخر.. إذ استخدم وسائل التواصل الاجتماعي لتكون بمثابة منصة للتطرف والكراهية وإذكاء خطاب العنف والإرهاب، كما صارت تلك الوسائل عينها تستخدم من قبل التنظيمات الإرهابية لبث دعايتها.
دعاية «داعش»
لقد شهدنا الأمر على هذا النحو بصورة خاصة، مع تنظيم داعش الذي تتابع استقطابه المقاتلين المتحدرين من شتى أنحاء العالم، وذلك على الرغم من كل الجهود التي تبذلها الحكومات والمنظمات الدولية للتصدي له. ومن الوسائل الرئيسية التي يركز عليها التنظيم في استقطابه، كما هو معروف، وبفاعلية شديدة، وسائل التواصل الاجتماعي. إذ يبرع التنظيم في استخدام موقع «تويتر»، خصوصا لبث دعايته، كما يعتمد أيضا على نشر وتوزيع مقاطع فيديو مرعبة، للتفنن بالقتل، وتدمير محتويات متاحف تاريخية، وإزالة مدن أثرية، وبث بيانات الكراهية، وإثارة الأحقاد والعصبيات الكامنة تحت الجلد لدى المستعدين فطريا، إذا جاز التعبير، للمضي في طريق التطرف. القصد ليس القول: إن وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة نقمة كلها، وأنها غدت أداة في أيدي الأصوليين والمتطرفين. بالقطع لا يمكن أن يكون ذلك كذلك؛ إذ لعبت تلك الوسائل، ولا تزال، دورا فاعلا في التفاعل مع الآخرين والتغيير الإيجابي والاستفادة من تجارب الآخرين وخبراتهم. غير أن الجانب الآخر للعملة يتمثل في التأثير السلبي الذي بدأ يظهر دوره في مواقع التواصل الاجتماعي شيئا فشيئا، ولا سيما في نشر الثقافات المنحرفة، وبث الكراهية والطائفية، والنزاعات القبلية وتكفير البشر، وازدراء الأديان المغايرة. والحقيقة المؤكدة أن قسما بالغا من تلك الوسائل، صار ساحة وأرضا خصبة في تجنيد أتباع الحركات المتطرفة الإرهابية في العالم العربي، وبالقدر نفسه في أوروبا التي عانت أخيرا من اعتداءات مفجعة نفذها بتنسيق دقيق ومحكم أعضاء تلك الحركات، ويمتد الخطر كذلك إلى الولايات المتحدة، التي تعيش بدورها هلعا من تكرار تلك الأحداث. يلفت النظر هنا أمر مهم، هو أن دور تلك الوسائل السلبي لا يتوقف عند العالم الإسلامي فحسب، بل يمتد إلى العالم المسيحي، هذا إن جاز لنا أن نضع في الحسبان مثل هذا التقسيم الوهمي؛ ذلك أنه في مقدم القرن الحادي والعشرين، الذي سقطت منه السدود وأزيلت الحدود، لم تعد هناك بقعة أو رقعة جغرافية حول الأرض مصبوغة بلون ديني أو طائفي بعينه، كما كان الحال في القرون الوسطى على سبيل المثال. وهنا نشير إلى أن بعض الجماعات الأصولية المسيحية التي بدورها أخذت وتتخذ تلك الوسائل أدوات لترويج أفكار محصورة دينيا في إطار الأصوليات العنيفة، وعلى رأسها فكرة «الحكم الألفي» و«موقعة هرمجدون»، وكلا المفهومين دموي وإقصائي إلى أبعد حد ومد، وكأن دور الأديان هنا هو استجلاب لعنات السماء على البشر، لا بسط خيمة المراحم الإلهية فوق رؤوس الجميع، لحياة إنسانية أفضل، وهذه قضية تستحق العودة بتفصيل موسع في قراءة مقبلة.
التكنولوجيا تخدم الحوار
في هذه الأجواء، جاءت دعوة «مركز الملك عبد الله بن عبد العزيز العالمي للحوار بين أتباع الأديان والثقافات» لتعزيز دور تلك الوسائل في عالم افتراضي بصفتها أداة للحوار، فلم يعد التلاقي الجسدي وجها لوجه اليوم حكما في تقرير مصائر الأمور، ولا سيما، وأن كثرة من المفاهيم الدينية، ولا نقول حقائق الأديان ذاتها، قد وقعت اليوم في مأزق بسبب ما حمله القرن الجديد من قفزات تكنولوجية هائلة.
على امتداد ثلاثة أيام تجاور وتحاور فيها شباب مصري، مسلمون ومسيحيون، وخلص الجميع إلى أنه وإن كانت هناك سلبيات لإفرازات العولمة والحداثة وتقدم وسائل الاتصال، فإن تلك الآليات ذاتها قد تكون، وهي كذلك بالفعل، أدوات جديدة علي طريق اكتشاف طرق مغايرة للإبداع والابتكار والعمل سوية لنشر ثقافة قبول الآخر، والانفتاح المجتمعي، وضمان حقوق الإنسان، وصون التعددية الدينية التي يقوم عليها الشرق والغرب معا.
يمكن القول، دون تهوين أو تهويل، إن الطريق المضاد للأصولية والتطرف، موجود اليوم في جانب كبير منه في مقدرة وسائل التواصل الاجتماعي، ولكن شريطة تفعيلها بحكمة ومهارة ودراية عالية؛ ما سيعني الإسهام إيجابيا في ترسيخ عائم لتفاهم والوئام بين أتباع الأديان والثقافات حول العالم.
لقاء القاهرة هذا كان صرخة ضد عالم الأصوليات المتقوقعة حول الذات، وفوائد الحوار حكما هي دعوات لـ«ثورات بيضاء»، ثورات تنبذ نشر ثقافة العنف وتقفز على محددات ومعايير الرفض للآخر؛ ذلك أنه لا يمكن أن يقوم حوار إلا إذا كان الشريكان فيه لديهما قناعة بحق الآخر في الوجود وفي الكرامة. وما يطلب مسبقا في أي حوار حقيقي هو الانفتاح الخلاق، والأمل في أن يتحول اللقاء لاحقا إلى تفاهم متنام، وأن يقودنا التفاهم إلى تحسين في السلوك المتبادل الذي ينعكس إيجابيا على العيش المشترك.
إن وسائط التواصل الاجتماعي في نهاية الأمر مدعوة، عبر استخدام الشباب لها، إلى خلق حالة من التعايش السلمي المضاد للأصوليات الطاردة... تعايش يشمل ويعم جميع الأديان والثقافات.