«داعش سرت» يكفّر منشقيه ويخوّنهم

ردَّ تنظيم «داعش ليبيا» على منشقين في صفوفه بإطلاق موجة جديدة من «فتاوى التخوين والتكفير»، ووصف الفارين من سلطته في عدة بلدات ليبية خاصة مدينة سرت بأنهم «مرتدون»، وذلك بعد أن تركت قيادات جزائرية ومالية من «داعش سرت» خطوط القتال وفرت إلى خارج ليبيا خلال الأسبوعين الماضيين.
وبينما بدأ التنظيم في تنفيذ عملية واسعة لإعادة الانتشار بين قياداته وعناصره حمَّل منظرون تابعون له مسؤولية الخلافات إلى من يروّجون لـ«الديمقراطية والقبول بحكومات لا تحكم بما أنزل الله»، على حد وصفهم. وشارك في شن هذه «الحملة الفقهية» عدد من منظّري التنظيم من بينهم خطَّاب المُهاجر ومعاذ البرقاوي. وجرى توزيع منشورات على نطاق واسع في مواقع يسيطر عليها «داعش» في وسط ليبيا وغربها.
كفّر «داعش ليبيا» وخوّن منشقين عنه، في أعقاب فرار مجموعات أغلبها من العناصر الجزائرية والمالية، من الجبهات التي كانت تتمركز فيها، خاصة في مدينة سرت التي بدأت تتعرض لحملة عسكرية من الجيش الليبي ومن قوات تابعة لمدينة مصراتة أو ما كان يعرف باسم قوات «فجر ليبيا».
وكذلك مجاميع داعشية كانت فارة من مواقع الاشتباكات مع الجيش في درنة وبنغازي، إلى العاصمة، لما وصفه التنظيم بـ«الانقلاب عليهم» من جانب «إخوة في طرابلس كنا نظن أنهم يقفون مع المجاهدين والمهاجرين».
وطافت سيارات تابعة لـ«داعش» في وسط مدينة سرت ووصلت إلى جبهات يتمركز فيها مقاتلو التنظيم، ووزعت منشورات ومطويات ورقية على المقاتلين وكوادر التنظيم، وحذرت فيها من مغبة أي تأثر بمن «تركوا الساحة وأظهروا خيانة»، بينما أفادت مصادر تعمل بالقرب من العناصر المتطرفة في ليبيا أن كبار قادة «داعش» في كل من سرت وطرابلس، أصيبوا بارتباك بعد هروب كوادر جزائرية ومالية.
وتابعت المصادر قائلة إن أحد قادة التنظيم في سرت ويدعى «أبو أنس»، أبلغ من يطلق عليه «أمير إمارة طرابلس» في «داعش»، ويلقب بـ«المدهوني»، بهروب مقاتلين من المدينة وأنهم عادوا إلى بلادهم التي كانوا قد جاءوا منها قبل عدة أشهر. ووفقا للمصادر، تأكد لدى تنظيم داعش في سرت أن عشرات من الجزائريين والماليين ممن طلبوا زيارة ذويهم في بلادهم، على أن يعودوا مرة أخرى، لم يعودوا في الموعد المقرر لهم وهو منتصف شهر مارس (آذار) الماضي.
ونفض التنظيم يده من هؤلاء باعتبارهم «فارين»، بحلول يوم التاسع من أبريل (نيسان) الماضي، وذلك حين قرر «أبو أنس» أن يستبعد فرضية حدوث تأخير من جانب من تركوا سرت لأي أسباب طارئة. وأبلغ القيادي الداعشي في سرت «أمير طرابلس» بأن الأمور في المدينة ليست على ما يرام، قائلا إن الإخوة الذين سافروا من سرت إلى الجزائر، وكان من المفترض أن يعودوا يبدو أنهم قرروا البقاء في بلادهم، ويبدو أنهم انشقوا علينا، وكذلك مجموعة الدواعش الماليين الذين سافروا لزيارة بلدهم، لم يرجعوا، وانقطع الاتصال بهم.
وبعد يوم التاسع من أبريل، وبحسب إفادات من مصادر قريبة من الجماعات المتطرفة، قرر التنظيم قطع صلته بالهاربين من سرت، ووصف «أمير إمارة طرابلس» من تركوا المدينة، بأنهم «جبناء» وأنه كان في داخلهم نوايا بالخيانة، سواء ظلوا مع التنظيم في سرت أو انشقوا عنه كما حدث. وبعد مشاورات بين قيادات «داعش» جرى التوصل إلى نظرية لامتصاص الصدمة التي خلفتها حادثة الفرار في هذه الظروف. وتقول النظرية إن «عدم بقائهم مع التنظيم أفضل من بقائهم داخله وهم يضمرون نوايا أخرى تضر الإخوة» في «داعش».
أما الردود المكتوبة على المنشقين على التنظيم، والتي جرى توزيعها على العناصر الداعشية في عدة مناطق في ليبيا، فقد ألقت باللائمة على تنظيم «القاعدة» في المنطقة، وتطرقت في الشروح والتنظير إلى أن تأثير القاعدة على عناصر «داعش»، لا يقتصر على سرت وطرابلس فقط، بل هو منتشر في مناطق أخرى منها العراق وسوريا وأفغانستان. وتطرق خطَّاب المهاجر في رسالة طويلة إلى المفاوضات الجارية بين الأطراف الليبية للوصول إلى حكومة وفاق وطني، بـأنها «إجراءات كفرية»، مهاجما في الوقت نفسه القيادات الدينية الليبية التي تدعو إلى سرعة صياغة دستور للبلاد، بدلا من الانضمام إلى دعوة التنظيم بتحكيم «شرع الله» بدلا من «دستور وضعي»، بحسب توصيفه.
وبعد انشقاقات دواعش ليبيا نقلت منشورات التنظيم الورقية خطابا تنظيريا آخر مطولا بتوقيع معاذ البرقاوي شن فيه هجومًا حادًا على الجيش الوطني الليبي بقيادة الفريق أول خليفة حفتر، وعلى قوات «فجر ليبيا». ويبدو أن هذه المنشورات، التي وزعت كميات كبيرة منها في اجتماع للدواعش في قاعة واغادوغو بمدينة سرت، أواخر الشهر الماضي، تسعى لشحذ همم باقي عناصر التنظيم في المدينة، وغالبيتهم من التونسيين والسودانيين والمصريين.
ويبدو أن معالم القلق بدأت تنتشر بين صفوف تنظيم داعش في ليبيا قبل نحو شهر من إعلان الجيش عن نيته اقتحام مدينة سرت وطرده منها. ووفقا للمصادر، جرت مشاورات بين قادة تابعين للتنظيم في طرابلس حول هذا الموضع قبل ثلاثة أسابيع، أي أثناء الانتصارات التي حققها الجيش ضد الدواعش في مدينتي درنة وبنغازي. وتطرقت هذه المشاورات إلى جدية الجيش في التحرك من بنغازي إلى سرت. وحتى أسبوعين ماضيين، لم يضع التنظيم في حسبانه أنه يمكن أن يتعرض للحصار في أهم معاقله في تلك المدينة المعروفة بأنها مسقط رأس معمر القذافي.
وقال مصدر على علاقة بالجماعات المتطرفة في العاصمة إن «أمير ولاية طرابلس»، التي تضم سرت ومناطق غرب البلاد، رفض أخذ التحذيرات التي وصلته مبكرًا بخصوص تحركات الجيش مأخذ الجد. ورد على مساعديه حينذاك بالقول إن ما يتردد حول هذا الموضوع ما هو إلا محاوله ممن سماهم «دعاة الكفر والمناهضين للإسلام» لتفريع طرابلس من عناصر التنظيم واستدراج مقاتليه في غرب البلاد إلى سرت، عن طريق تسريب أخبار عن استعداد الجيش للتوجه إلى هناك.
واتضح فيما بعد أن تقديرات «أمير طرابلس» لم تكن دقيقة لا بالنسبة للجيش ولا بالنسبة لميليشيات مصراتة التي أعلنت هي الأخرى محاربة التنظيم. وإلى جانب حركة الانشقاقات داخل «داعش» في سرت، بدا التنظيم في أسوأ أحواله سواء على مستوى القيادة أو على الأرض.
مشكلة خلافات تنظيم داعش في سرت لم تقتصر على الداخل فقط، بل امتدت إلى قيادات التنظيم في الخارج، والتي يبدو أنها اضطرت للتدخل في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، بعد واقعة هروب المقاتلين الجزائريين والماليين من صفوف «داعش» سرت. وبحسب معلومات من قيادات في ميليشيات طرابلس، تلقى «داعش ليبيا» وعودا من قيادات التنظيم في العراق، بشحن عناصر متطرفة آتية من ماليزيا ومن السودان ومن موريتانيا، من أجل تعويض نقص الكوادر في سرت، والوقوف ضد النزعات الانفصالية المتنامية بين باقي المقاتلين الذين يرابطون في المدينة منذ نحو سنة.
وعقب هذه الوعود بعدة أيام لوحظ في طرابلس الغرب أن طلائع الدواعش بدأت تصل عبر محورين: الأول الطريق البري الجنوبي، والثاني مطار معيتيقة الموجود قرب العاصمة. ومن بين القيادات التي دخلت من مطار معيتيقة مع عناصر داعشية غير ليبية، ورصدتها الجهات المختصة في طرابلس، سوداني يلقب باسم «العين». ولقد جرى توجيهه بمن معه من مقاتلين إلى سرت، بعدما أقام لفترة للاستراحة في معسكر تابع لـ«داعش» بمنطقة القربولي في العاصمة. وبحسب المصادر انطلق «العين» وعشرات من المقاتلين القادمين من الخارج، من طرابلس، عبر البحر إلى سرت.
وللتغلب على فرار العشرات من العناصر الداعشية إلى خارج ليبيا، جرى أيضا توجيه مجاميع تابعة للتنظيم كانت تتلقى التدريبات في معسكرات في غرب طرابلس، للالتحاق بسرت وتعويض النقص فيها. ويدور عدد المقاتلين في سرت حول الثلاثة آلاف عنصر غالبيتهم من العرب والأجانب والليبيين، ويبدو أن المهم بالنسبة للتنظيم هو القادة والكوادر الوسطى، وهذه الشريحة يظهر أنها تأثرت إلى حد كبير بعد فرار الجزائريين والماليين، وبعض الجنسيات الأخرى التي لم تتمكن المصادر من تعريفها على وجه الدقة.
وأصدر تنظيم داعش في «إمارة طرابلس» تعليمات مشددة لقادته في سرت بعدم الخوض في قصة المنشقين أو موضوع رحيل قادة وكوادر عن المدينة. وفي رسالة من هذا النوع شدد التنظيم على أنه محظور على القادة في سرت التحدث في العلن عن «حالة التنظيم، أو تدارس ما يحصل في صفوفه».
وتتميز العناصر الداعشية التي كانت في معسكرات تدريب معزولة في غرب طرابلس، بأنها لم تتأثر بالجدل الدائر في سرت حول جدوى الاستمرار في القتال بعد هزائم درنة وبنغازي. وقال مصدر يتعامل مع المتطرفين ويقيم في سرت إن غالبية المجاميع الداعشية التي انشقت وتركت المدينة كانوا يتبعون قياديا في سرت يدعى «الشيخ سيَّاف»، ومعظم هؤلاء جزائريون، أما المجموعة المالية التي انشقت وغادرت سرت أيضا فكانت تتبع قيادي في المدينة يدعى «أبو الليث».
وعلى أثر هذه التطورات ظهرت أسماء جديدة في سرت، بمن في ذلك أسماء جزائرية لم تكن معروفة من قبل، تختلف عن المجموعة التي كانت تتبع «الشيخ سيَّاف»، ومن بين هؤلاء قيادي جزائري كان ينشط في غرب طرابلس يدعى «عبد العظيم». وتشير المصادر إلى أن «عبد العظيم» محل ثقة لدى «داعش»، لأنه سبق وسافر إلى الجزائر وعاد عدة مرات. وهو «من المخلصين للتنظيم».
وبمجرد تمركزه في سرت، بدأ «عبد العظيم» في جمع عدد من القادة لترتيب الأوضاع ولم شمل الدواعش في المدينة، وبعد عدة أيام من دراسة الأمر طلب من قادة طرابلس إرسال شاحنات محملة بالأسلحة والمؤن الغذائية إلى سرت، وأمر أيضا بمبرّدات متحركة (محمولة على سيارات كبيرة) لحفظ الطعام والأدوية وتوفير المياه الباردة، بسبب عدم انتظام التيار الكهربائي في المدينة. وقبل عدة أيام وصلت إلى سرت بالفعل كميات كبيرة من الأسلحة والتمور والطحين.
كذلك واصل «داعش»، منذ أواخر الشهر الماضي، إرسال مجموعات جديدة غالبيتها من التونسيين والمصريين إلى سرت. منها مجموعة كانت تتدرب قرب الحدود التونسية بقيادة ليبي يسمى «أبو طلحة»، وانتقلت في زوارق بحرية من ميناء مدينة الخُمس قرب طرابلس إلى سرت. وتولى قيادي آخر يلقب بـ«كشلاف» عملية توجيه مقاتلين دواعش كانوا يتدربون في منطقة اسمها «قطيس» غرب العاصمة الليبية، إلى سرت. وتتكون هذه المجموعة من نحو أربعين مقاتلا من المصريين والتونسيين أيضا، وهم مسلحون بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة.
وبالتزامن مع حملة توزيع المنشورات، لبث الحماس و«الثبات» بين مقاتلي التنظيم، واصل «داعش» شن هجوم شديد اللهجة على من كانوا يتعاونون معه من العناصر ذات الخلفيات المرتبطة بتنظيم «القاعدة» وجماعة الإخوان. وقالت المصادر إن قيادات كثيرة ظهرت لأول مرة على السطح في سرت معظمها من الأفارقة خاصة تنظيم «بوكو حرام» الموالي لـ«داعش». ويوجد قيادي آخر أصبح له دور لافت للنظر بعد هروب كثر من الجزائريين والماليين، وهو صومالي الجنسية يدعى «أبو عبد الله»، ومعروف عنه أنه غير متعمق في العلوم الدينية، ومحترف في أجهزة الاتصال الحديثة، وسريع الغضب ولا يتقبل المزاح.
وفي كلمات حماسية وجهها البرقاوي لخصوم التنظيم وعلى رأسهم الجيش الليبي، حذر من «التورط» في قتال، وأضاف: «عليكم أن تتعلموا مما حصل لأميركا في العراق». ودعا إلى تأمل حال كل من قاتل التنظيم في العراق وسوريا وزعم أنهم أصبحوا اليوم قتلى أو أسرى أو مطاردين. ولوحظ من منشورات «داعش» أن عناصر التنظيم تأثرت باللغط الدائر عن توجهات قادته واحتمال تورطهم في علاقات خفية مع جماعات أخرى في ليبيا لا تؤمن بفكره. وقال إن من يروجون لمثل هذه الأمور «يروجون افتراءات».
رغم كل هذه المحاولات النظرية والعملية، إلا أن الخلافات داخل صفوف «داعش ليبيا» خاصة سرت، تجاوزت مرحلة الانشقاق والهروب، ووصلت إلى منعطف أخطر من كل التجارب السابقة، ألا وهو تنفيذ بعض القيادات في سرت لعمليات قتالية دون تنسيق مع زعماء التنظيم، ودون تنسيق مع باقي المجاميع الداعشية في المدينة. جرت واقعة من هذا النوع على تخوم سرت ضد بوابة كان يسيطر عليها تنظيم تابع لمدينة مصراتة، ما أدى إلى سقوط قتلى من الجانبين. وقال مصدر قريب من دواعش سرت، إن القيادات في طرابلس فوجئت بالعملية التي هاجم فيها التنظيم البوابة على تخوم مصراتة، وحين اتصل بـ«أبو عبد الله» الصومالي، الذي يتمركز بالقرب من المنطقة، لمعرفة ما حدث قال إنه لم يصدر أي أوامر وأنه لا يعرف من أعطى الإشارة بالهجوم.
وجرى تعنيف الصومالي وثلاث قيادات أخرى بينهم مصري يدعى «أبو أحمد». وقال زعيم التنظيم في «ولاية طرابلس» لقيادات سرت، وفقا لمصادر على صلة بالمتطرفين في المدينة: أنا لست ضد سحق العدو. أنا ضد عمليات غير مدروسة.. فردية، تشجع الكل على عدم طاعة ولي الأمر. هذه خيانة.