لوك تويمانز في معرضه «التعصب».. فن التشخيص خارج المألوف

ميزة الفنان البلجيكي لوك تويمانز، البالغ من العمر اليوم ثمانية وخمسين عاما، أنه بارع إلى حد الإدهاش في الفن التشخيصي.. لحظة يعد الآخرون أن هذا الفن استنفد طاقاته وأفقده قدرته على التجديد. لوحته الغالية على قلبه التي رسم فيها وجه كوندوليزا رايس، تعكس شخصية تلك المرأة الصارمة الحازمة التي كانت على رأس وزارة الخارجية الأميركية، في خضم حروب ماحقة في الشرق الأوسط، بنظرتها الحادة، وحاجبيها الرفيعين المقوسين، وسنيها الأماميتين بالفلجة بينهما، وهما يظهران من شفتين مفترتين، تجعلنا نظن أننا أمام صورة فوتوغرافية. لوحته، التي يقول إنها تمثل وجه الرجل العربي، لم تكن بحاجة إلى عينين سوداوين وشعر أشعث، لتنطق بانتمائها. هذه الصورة الكلاسيكية الممجوجة خرج منها كليا تويمانز، لنرى ملامح بعينين خضراوين، وشارب مع لحية صغيرة، واستعاض عن كل الـ«ستيريوتيب» الغربي الممجوج، بأنف كبير في وسط الوجه، ليعطي هذا البورتريه المعبر عنوانًا مختصرًا هو: «أنف»، وهذا وحده يكفي. براعة هذا الفنان الذي يعرف باسم «لوك» نظرًا لصعوبة اسم عائلته، في رسم التشخيصات والبورتريهات، لا تقف عند حد، فهو مسحور بالتكنولوجيا وانعكاساتها، وعام 2006 رسم وجهًا ثلاثي الأبعاد لعالم اللاهوت اليسوعي الذي طوب قديسًا عام 1622 أغناطيوس دي لوبولا، من الصعب أن تمر به دون أن تستوقفك المتغيرات التي تلحظها في اللوحة تبعًا للزاوية التي تقف فيها، وكأنك أمام رأس تراه بتقنية «3دي»: التجاعيد، منحنيات الجبين، استدارة الخدين، يخيل إليك أنك أمام منحوتة، وليس مجرد بورتريه، أنجزت بيد رسام. إعمال الريشة بروح تكنولوجية أمر استفاد منه لوك بالتأكيد في السنوات الأخيرة. لوحته التي تحمل اسم «آيفون» ضبابية لا تميز ما خلف غباشها، غير أنك أمام مخلوق كأنه غير آدمي، بسبب ملامحه الغريبة. صورة تشبه «نيجاتيفا» لصورة فوتوغرافية مشوهة الألوان. لا يخفي لوك أن هذه اللوحة رسمها من وحي «سيلفي» التقطه لنفسه. هذه الأعمال معروضة الآن ولغاية 30 يناير (كانون الثاني) المقبل في غاليري «متاحف قطر الرواق» في الدوحة. للمرة الأولى لوك في منطقة الخليج العربي من خلال معرض استعادي كبير لمساره الفني، وإن كانت غالبية الأعمال تمثل سنواته الأخيرة، فإن بعضها استعير من متاحف عالمية، ومنها قديم جدًا مثل تلك التي تحمل عنوان «العنكبوت»، وثمة أعمال لم تكن استعارتها ممكنة، فأعاد رسمها على حائط إحدى صالات غاليري «رواق». نحو 150 عملاً تسمح لزائر المعرض بالتعرف إلى اهتماماته السياسية، وميوله الدينية. واحد من البورتريهات، يمثل وجهين لطيارين أسقطت طائرتهما في حرب الخليج الأولى وتحولا إلى أسيرين. اللوحة التي تحمل اسم «مصر» هي من وحي اجتماع حدث عام 2003 في السنة الأولى للحرب الأميركية على العراق، تظهر فيها يد الرئيس المصري حينها حسني مبارك من جهة، ويد وزير خارجية أميركا كولن باول من جهة أخرى، وهي من الأعمال التي يعدها الفنان تسجيلاً للحظة ذات أهمية تاريخية استثنائية، وهو فخور بالتقاط الفكرة وتجسيدها من دون الوجوه، فاليدان والطاولة الزجاجية بينهما تكفي لتقول الكثير. حساسية لوك في تصوير الأشياء هي التي تعطي أعماله تفردها.
وحين يسأل عن تلك النزعة السياسية لديه، وهو الآتي من بلد لا تشغله حروب، يقول باستغراب: «والدي فلمنكي وأمي هولندية، والعائلتان فقدتا أقرباء لهما في الحرب العالمية الثانية. الحرب كانت حاضرة دائمًا في حياتنا، في قصص أهلي التي يروونها لنا، وحتى حين لا يتكلمان كانت الحرب موجودة في صمتهما، ثم إنني بلجيكي ومن بلد له مشكلاته أيضًا». لا يعد لوك أن أوروبا بمنأى عن النزاعات بعد الحرب الثانية، فبعدها جاءت الحرب الباردة، ثم تهديدات «القاعدة»، والحرب ضد صدام حسين في العراق.. كلها حاضرة في أحاديثه.
من ظريف تعليقات لوك على استضافته في قطر، في معرض استعادي سيستمر حتى يناير المقبل، قوله إن «قطر على ما يبدو تنزع لاستقبال الفنانين الأحياء، فيما رأت أبوظبي في فناني متحف اللوفر الراحلين غايتها»، لذلك تأثر ورآها فرصة حين دعي إلى قطر، بالإضافة إلى أن المنطقة العربية هي منطقة نزاعات بالنسبة إليه، ولديه فضول كبير لاكتشاف ما يحدث فيها، وهو المشغول أبدًا بالحروب وعنفها والنزاعات الإنسانية.
تحت عنوان «التعصب» يعرض لوك لوحاته التي ملأت صالات غاليري «رواق» التي تحتاج إلى عين متمعنة لاستكناه جمالياتها، بعضها مغمس بالسياسة، وكثير منها مستلهم من عنف شهدته المنطقة العربية أو أوروبا حتى شرق آسيا. ولوك تويمانز، المولود عام 1958، أحد أهم الأسماء التي أعادت إلى التشخيص ألقه في تسعينات القرن الماضي، لحظة بدا كأن الفنون الجديدة، من تجهيزية وتفاعلية، اكتسحت الساحة بصيغتها الحداثية.
عرضت أعماله في متاحف عالمية مختلفة، منها «معهد الفن» في شيكاغو، و«مركز جورج بومبيدو» في باريس، و«متحف الفن» في لوس أنجليس، و«متحف الفن الحديث» في نيويورك، و«متحف بياكوتيك موديرن» في ميونيخ، و«متحف تيت» في لندن.
ثمة أعمال لافتة جدا، لبساطة موضوعها وبراعة تصويرها، منها لوحة «أصابع»، التي نرى فيها رأسًا لأصبع واحد، بظفره، والمنحنيات المحيطة به، أو لوحة «أنيميشن» التي تحمل فيها أم طفلها. كثير من الغشاوة على شخوص لوك، مع ألوان باهتة غالبًا تقترب من اصفرار تراب الأرض وميله إلى البني. تدرجات في التلوين، مع إظهار الملامح كاملة لبعض الوجوه، بينما لا يبقى غير استدارة الوجه والجسد لآخرين.
غريب هذا الرسام في مزاجه، يقول لك وهو يرسم عاملا يقوم بمهامه اليومية الكادحة، أو عيون الحمام، أو انسيابية جسد الثعلب: «أرى ما أريد من المخلوقات والمشاهد، ولك أن تحب أو تدير ظهرك». ومع أنك قد تجد بعض اللوحات أبعد من أن تنسجم في جماليتها، إلا أنك تفتن بقدرة لوك على تقديم رؤيته الخاصة التي لا تشبه غيرها للأشياء.. ففي عمله الجميل «خشبة» أو «مسرح» ترى أشخاصًا جالسين على المنصة، تعرف أن ثمة من يجلس هنا، لكنك لا ترى ممن اعتلوا الخشبة غير البياض المشع، وكذلك حين يرسم رجلا يراقص امرأة وهي تدور بين يديه وتنحني بظهرها إلى الوراء.
لا يكف لوك تويمانز عن التحدث عن غويا، ذلك الرسام الفرنسي الباهر الذي رسم أجمل البورتريهات في القرن الثامن عشر، لكن بورتريهات لوك شيء آخر، تشخيصه لا يخلو من نزعة جنون وتفرد. كما هي حاله حين يرسم «الهيكل العظمي» بجمجمة وقفص صدري له استدارة غريبة، يوحي بالملابس العسكرية أكثر مما يشي بعظام نخرة. أو حين لا يرى من الحمام، حين يجسده في أحد أعماله، غير ثلاث عيون مبحلقة.
بمناسبة هذا المعرض صدر كتاب ضخم، من الحجم الكبير، هو عبارة عن 464 صفحة، يحمل عنوانًا مختصرًا في كلمة واحدة هي: «التعصب». وفي الكتاب صور للوحات لوك وكتابات نقدية تشرح وتحلل إبداعاته، مما يتيح للقارئ معرفة أوفى بهذا الفنان الذي اكتسب شهرته العالمية لا من ابتكار جديد، بل من تجديد يقارب الانقلاب ضمن الخط الواحد.