الباحثون والخبراء يسبحون في الضباب: «الإرهابيون أشخاص طبيعيون»

حادثتان هزّتا الوجدان السعودي في الأسابيع الأخيرة المتعاقبة، الأولى كانت خبر الداعشي الذي غدر بخاله الضابط في وزارة الداخلية الذي رباه في منزله، والثانية فيديو قتل داعشي ابن عم له يعيش معه في المنزل بعد عودته من دورة تدريبية في المؤسسة العسكرية. ولقد شاهد الفيديو المروّع كثيرون، وتابع المشاهدون على الشاشة والد الأخوين الداعشيين، القاتل والمصوّر، وهو يتبرأ من فعلهما بقلب يتفطّر، قائلا: «لو خيّروني بين موت ابنيّ أو ابن عمهما لاخترت موت ابنيّ». ولكن كيف تسلل الدواعش «خاطفو الأرواح» من خلال شاشات الأجهزة الذكية إلى الأشخاص الأكثر عادية في المجتمع من المراهقين، وتمكنوا من تجنيدهم؟
ذهب متعقبّو النظرية النفسية لشخصية الإرهابي من علماء النفس والمتخصصين إلى البحث عن «لحظة ما قبل التسمم» بالآيديولوجيا المؤمنة بالعنف من قبل المُستقبِل. ما هي السمات المشتركة للإرهابيين المفترضين القابلين للاستلاب النفسي من قبل هذه الجماعات؟
كانت مراكز الدراسات حول العالم تتتبع المنابع وتتلمّس جذور ما قبل التحوّل الكبير. ومن ثم، جاءت المفاجأة الضخمة: «إنهم أشخاص طبيعيون».
* اعتداءات لندن 2005
«بعد مرور أقل من سنة على وقوع 4 تفجيرات انتحارية استهدفت مترو الأنفاق (الأندرغراوند) في العاصمة البريطانية لندن يوم 7 يوليو (تموز) 2005، أفادت دراسة بأن المعلومات المتوافرة عن مرتكبي الجرائم الإرهابية في بريطانيا لا تكشف عن وجود سمات مشتركة نمطية ثابتة تساعد في تحديد من يمكن أن يكون معرّضًا لأن يصبح إرهابيًا. فهم يتحدّرون من أصول عرقية متباينة، وحصل البعض منهم على مستوى جيد من التعليم، في حين حصل البعض الآخر على قدر أقل من التعليم. وأفادت أيضًا بأن نسبة من هؤلاء فقراء جدًا، لكن ثمة من هم أقل فقرًا. ولقد كان منهم من كان مندمجًا بصورة ملحوظة في نمط الحياة البريطاني، ومنهم من لم يكن كذلك. كذلك تبين أن معظمهم من غير المتزوجين مع أن البعض متزوجون ولهم أولاد. وأخيرًا، لوحظ أن تاريخ البعض يخلو من أي مخالفة للقانون، في حين أن للآخرين سوابق في ارتكاب الجنح والجرائم البسيطة.
هذه الملاحظات المُحبطة التي خرج بها الباحث الآيرلندي جون هورغان، أحد أبرز علماء النفس السياسي المتخصّصين في دراسة ظواهر الإرهاب والعنف السياسي، أوردها الدكتور قدري حنفي، الأكاديمي المتخصص بعلم النفس السياسي، في دراسة حول انتشار الأفكار وعلاقتها بالسلوك الإرهابي تحت عنوان «فكر (القاعدة).. روافد القبول وإمكانات الانتشار».
الدكتور قدري حنفي قال لـ«الشرق الأوسط» في حديث إنه «على مستوى الدائرة الضيقة في العالم العربي تكشف دراسات علم النفس السياسي في مجال التنشئة والنمو أن نظرتنا إلى المراهق/ المراهقة، في إطار ثقافتنا العربية، نظرة ملتبسة. فنحن نعامله كطفل أحيانًا، ولكن إذا ما سلك سلوك الأطفال عاقبناه بحجة أنه لم يعد طفلاً. ثم إذا حاول أن يسلك سلوك الكبار عاقبناه مرة أخرى بحجة أن هذا السلوك لا يليق بصغير. من هذه الفجوة تنفذ الدعوة للعنف المسلح، فها هي جماعة تعترف به/ بها شخصًا كامل الأهلية يستطيع تحمل المسؤولية كاملة. ليست المسؤولية عن نفسه فقط، بل عن المسلمين كافة. إنها جماعة تعيد له الاعتبار الذي يفتقده في جماعته الأصلية».
وأضاف الدكتور قدري: «تبقى هناك الحاجة لتفسير لماذا يشكل الشباب عامةً، والمراهقون بالذات، هدفا مثاليا لدعاة العنف المسلح. وتشير العديد من الدراسات إلى أن الأصغر سنًا بحكم أعمارهم هم الأشد راديكالية وتذمّرًا من سلبيات الحاضر، والأشد سعيًا لتشكيل مستقبل يرونه الأفضل، ويرون أنفسهم أصحابه بحكم أعمارهم أيضًا؛ حيث الكبار راحلون حتمًا».
* دراسة ما بعد «11 سبتمبر»
على النسق ذاته، كانت الحيرة تلف خبراء الإرهاب في العاصمة الأميركية واشنطن في أعقاب «اعتداءات 11 سبتمبر (أيلول) 2001» الدامية. وكان مارك سايدجمان، الطبيب النفسي وعضو معهد بحوث السياسة الخارجية الأميركي، الذي سبق له العمل ميدانيًا في وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) في أفغانستان وباكستان، قد عكف على استكشاف نمط نفسي للإرهابيين المتورّطين من خلال قراءة وتحليل معلومات وتحقيقات لأفراد من هذه التنظيمات تجاوزت 9 آلاف ورقة. وجاءت النتائج كما يلي: ثلاثة أرباع أفراد العيّنة يتحدّرون من الطبقة المتوسطة فما فوقها، و90 في المائة منهم نشأوا في رعاية أسر متماسكة، و63 في المائة التحقوا بكليات جامعية. وإذا ما وضعنا في الاعتبار النسبة المتدنية عمومًا لمَن يلتحقون بالجامعات في بلدان العالم الثالث التي أتى منها هؤلاء الإرهابيون، يتضح أنهم يُعدون من خيرة أبناء تلك المجتمعات ممن بعثت بهم أسرهم لاستكمال دراستهم بالخارج. ومن ثم، فإنهم يجيدون عدة لغات، ويختلفون عن «أطفال الحجارة» الفلسطينيين الذين لم تكن أعمارهم تتجاوز الرابعة عشرة. ولقد التحقت غالبيتهم بتنظيم القاعدة وهم في السادسة والعشرين، أي في قمة نضجهم النفسي والعقلي، وتبين أنهم أميل للاستقرار الأسري إذ إن 73 في المائة منهم متزوجون، ولغالبية هؤلاء أطفال، أما غير المتزوجين منهم فلم يبلغوا بعد السن المعتادة للزواج.
وعلى مستويي التعليم والعمل، تبين أن ثلاثة أرباع أفراد العيّنة مهنيون يعملون في مجالات الهندسة الميكانيكية والمدنية والمعمارية؛ أي أن لغالبيتهم خلفية تتصل بالعلوم والعلوم التطبيقية، وقلة منهم من المتخصّصين في الإنسانيات، بل قلة نادرة من هؤلاء من المتخصصين في الدراسات الدينية، ذلك أن 13 في المائة منهم فقط تلقوا تعليمهم الأولي في مدارس دينية، بينما تحتل العلوم قمّة التخصّصات حتى بين القادة.
الدكتور حنفي يواصل تناول المعطيات قائلا: «هناك ما لا يمكننا إغفاله، وهو حقيقة أن إعداد طلاب التخصّصات العلمية لا يتضمّن طيلة سنوات تعليمهم، من مرحلة الحضانة إلى مرحلة الدراسات العليا، مقرّرًا دراسيًا واحدًا يتعلق بالمنطق أو الفلسفة أو تاريخ الفكر أو ما إلى ذلك من مواضيع تحمل شبهة تعليم المنهج العلمي أو الإشارة إلى نسبية الحقيقة».
* التبني الآيديولوجي للعنف
وفعلاً، بات من شبه المحسوم أن التبنّي الآيديولوجي للعنف المسلّح أيًا كان، دينيًا أم يساريًا أم فاشيًا، ليس دائمًا محرّكه وباعثه الوحيد الإيمان الآيديولوجي، وإن كان أهم المحركات والبواعث. فلدى الإرهابيين المحتملين دوافع نفسية، ورغبات متفاوتة في صعود سلم الترقّي الاجتماعي، قد يكون اعتناق الآيديولوجيا إحدى سبلها. وهنا يشرح البروفسور روجر شاناهان، الخبير الأسترالي والباحث في معهد لوي للسياسة الدولية، هذه الجزئية لـ«الشرق الأوسط»، بقوله: «العنف، أيًا كانت آيديولوجيته، يعطي الأشخاص شعورًا بالتمكين، إذ يملّكهم سلطة ما كانوا يمتلكونها من قبل. بينما يُستخدم الدين لتبرير حالة قتل وحشي، لأنه عندما يعتقد الناس أنهم يتصرّفون وفقا لإرادة الله لن يستطيع أحد أن يشكك في أعمالهم. النمط العادي في الغرب (للإرهابيين العنفيين باسم الدين) هو أنهم يأتون من هامش المجتمع، وربما مع لائحة إجرامية بسيطة ومن بيوت محطّمة أو يكونون صغار السن سريعي التأثر. وبالتالي، يمكن التلاعب بهم بسهولة كي يبدو العنف جذابًا، لأنه تم التحقق من صحتّه من قِبَل الدين، وبالتالي هو العنف مع التبرير».
وبالعودة إلى الجانب التعليمي في شخصية الإرهابي، يرى شاناهان أن «تطوير المحتوى لا يكفي للدول النامية ودول العالم الثالث ما لم تنحُ منحى تطوير الأساليب التعليمية ذاتها»، ويفصل شارحًا: «نمط التعليم الديني بالتأكيد مؤثر، كما أن الهيكل الاجتماعي في بعض هذه الدول يشجّع على ترسيخ المفهوم القائل بأن قيم دين ما متفوّقة. ونظام التعلم القائم على الحفظ عن ظهر قلب (التلقين) يكافئ المتذكّر والحافظ عن ظهر قلب، بدلاً من مكافأة ممارس النقد ومَن يميل إلى تطوير الحجج، والاعتراف بالحجج الضعيفة والقوية (والتمييز بينها). التعليم ذو المفهوم النقدي يجبر الناس أيضًا على البحث والتحليل، بدلاً من البحث عن التغذية بالمعلومات. غياب كل هذا يجعل الناس أكثر عرضة لقبول الفكر المتطرف الذي يوفّر الأجوبة دون الحاجة للتفكير». الباحث تشارلي وينتر، من معهد «كويليام» لدراسات الأديان والحرية والديمقراطية في لندن، يؤيد في مداخلته لـ«الشرق الأوسط» ما قاله شاناهان معلّقًا: «الآيديولوجيا هي مجرد وسيلة للتعبير، سواءً كانت (جهادية) أو شيوعية أو فاشية، وهنا تُسوق الآيديولوجيا باعتبارها الوسيلة التي يمكن للمرء تحويلها إلى دوافع. بطبيعة الحال، لا يهم ما إذا كانت هذه الادعاءات صحيحة أم لا».
* شبكات التواصل
الجماعات الإرهابية تنبّهت إلى التأثير الكبير لشبكة الاتصال المعولم منذ وقت مبكر. وغدت اليوم تأتي بصور أكثر حداثة من حيث المحتوى والصورة والمؤثّرات المرافقة. وباتت هذه الجماعات تتحكّم في التخويف النفسي بدرجات أكثر حرية من خلال شبكات الإنترنت ومرافقها ومواقعها الإلكترونية، من المنتديات إلى المواقع الإخبارية إلى وسائل التواصل الاجتماعي.
ويصف بريان جنكينز الإرهاب في دراسته، الرائدة بمقاييس علماء النفس والمنشورة عام 1974 تحت عنوان «الإرهاب العالمي: شكل جديد للنزاع»، بأنه «عملية مسرحية»، بمعنى أن «تخطيط الهجمات الإرهابية يضع على رأس اهتماماته جذب وسائل الإعلام الإلكترونية والصحافة العالمية». أي أنه رسالة يبعث بها عن طريق الضجة الإعلامية التي يولّدها، وعادةً ما تؤدي الوسائل الإعلامية الدور المتوقع منها بحماسة شديدة تكاد تكون مطلقة، لأنها تجد أنها لا تستطيع تجاهل الحدث المثير الذي يجري.
وبالعودة للدكتور قدري حنفي، فإنه يلفت هذه المرة النظر إلى السِّمات الشخصية لـ«المُجَنِّد» في جماعات العنف الذي يمضي وقته في اصطياد الفرائس والجنود الجدد المحتملين، فيقول: «يبحث داعية العنف السياسي عمّن يمكن أن تستهويهم دعوته. وتكون البداية عادةً من نقطة التقاء فكرية يجتمع حولها المسلمون كافة أو غالبيتهم العظمى كالتوحيد مثلا. وانطلاقًا من تلك النقطة التي يبدو ألا خلاف حولها، يخطو خطوة ثانية، مثل التشكيك في فهم المراهق المُتلقي لعقيدة التوحيد، وكيف أنه بهذا الفهم (المنحرف) يصبح من الناحية العملية مُشركًا؛ ومن ثم كيف أن هذا الفهم (المنحرف) إنما هو نتيجة تآمر أعداء الإسلام (الصحيح) على العقيدة الإسلامية. ومن هنا تبدأ مسيرة التجنيد في أغلب الأحوال مستندة إلى نصوص (صحيحة) ولكن مع تأويلها تأويلاً منحرفًا»، بحسب حديثه لـ«الشرق الأوسط».
نعم. يعيش العالم اليوم ظاهرة «إرهاب» كونية لم تعد تستثني بقعة في هذا العالم، غدا فيها الجميع أهدافًا محتملة. ولكن الباحثين والمهتمين والمتخصّصين في الإرهاب وشؤونه يرون أن حصر الدوافع في الآيديولوجيا وحدها، من دون فهم آلياتها النفسية والاجتماعية وإغفال تفاصيلها المرّكبة والمعقدة، لن يذهب بهم بعيدًا في استيعاب ظاهرة العنف التي باتت حقًا همًا عالميًا وجوديًا لا يقتصر على دولة دون أخرى.