أزمة اللاجئين تكشف عن صراع بين أوروبا أصولية وأخرى علمانية

إصرار بعض القوى الحزبية اليمينية الأوروبية على التصريح على رؤوس الأشهاد بأنها ترحب بـ«لاجئين مسيحيين فقط» من منطقة الشرق الأوسط، كشف النقاب من جديد عن النفوذ الكبير الذي تتمتع به بعض الجماعات المسيحية الأصولية المتشددة داخل أحزاب السلطة في عدد من الديمقراطيات الغربية. هذه الحقيقة السلبية تضيف إلى المناخ العنصري، الذي طغت عليه لفترة مسحة التميّز العرقي أكثر التمييز على أساس الدين في أوروبا الغربية، ولا سيما، أن القوى المعارضة للهجرة خلال العقدين الأخيرين كانت لها مواقف سلبية من العمالة المسيحية الرخيصة الوافدة من دول أوروبا الشرقية الشيوعية سابقًا، ومنها دول كاثوليكية كبولندا وسلوفاكيا والجمهورية التشيكية.

حُكمًا تحتفظ ذاكرة التاريخ بصور ومشاهد تاريخية على ألمها ووجعها للضمير الإنساني. صور تتعلق باللاجئين المطاردين في البحر حتى الغرق، وعلى حدود الدول الأوروبية مُهانين، مطرودين ومجروحين في كرامتهم وإنسانيتهم. وفي كل الأحوال ستضحى الصورة الحزينة جزءًا من «عار العالم» الذي صم آذانه عن المأساة السورية، ومن قبلها صمت إزاء المأساة العراقية، ومدعاة لعلامات استفهام كثر في مقدمتها «ألم يكن الأجدى، بل الأنفع والأرفع وقف سيل الدماء في الشرق الأوسط بدايةً، كي لا تكون هناك حاجة لاحقًا لمواجهة استحقاقات المأساة الأكبر في القرن الحادي والعشرين حتى الساعة؟»
مهما يكن من أمر الجواب، فالمجال هنا ليس مجال مناقشة الأزمة من ناحية سياسية، أو تحليل الأزمة لجهة توجهاتها عسكريًا على الأرض، بل جل الغاية في هذه القراءة هو الإشارة إلى «الإشكالية» الأبعد التي كشفت عنها هذه المأساة بالنسبة للقارة الأوروبية، تلك التي عانت طويلاً من مرارة الآيديولوجيات الشمولية المتطرفة كالنازية والفاشية. ومن ثم، كان المهرب المثالي هو التوجه إلى العلمانية، بمعنى الفصل بين مفهومي «الدولة» و«الدين»، ولو بدرجة مبالغ فيها أحيانا حتى دفعت البعض للشكوى أن «العلمانية الجافة» باتت هي التي تحكم المشهد الأوروبي برمته، في عملية إزاحة شبه كاملة للدين بمعناه ومبناه.
غير أن أصوات عريضة القاعدة ارتفعت في أوروبا خلال العقدين الأخيرين حملت رؤى يمينية متطرفة، حيال الأجانب عامة، وتجاه العرب والمسلمين بصفة خاصة. ولاحقًا، نحا البعض منها مسارًا أكثر أصولية.. مستغلاً مأساة اللاجئين البؤساء للتكلّم عن «أوروبا ذات الجذور المسيحية التي لا يجوز لها استقبال اللاجئين المسلمين كونهم يهددون هويتها الدينية والاجتماعية». وهذا الأمر طرح ويطرح الآن الكثير من الأسئلة الجوهرية حول صحة وجدية هذا الطرح من جهة، ومدى إجماع الأوروبيين عليه من جهة ثانية.
في أوائل شهر أغسطس (آب) الحالي، خلال مؤتمر صحافي عقد في العاصمة البلجيكية (والأوروبية) بروكسل وضم عددًا من المسؤولين، جدّد فيكتور أوروبان، رئيس وزراء المجر، رفضه السماح للمهاجرين (كثرة منهم من السوريين) بالعبور إلى ألمانيا عبر بلاده من دون تسجيل أسمائهم حسبما تنص عليه «اتفاقية دبلن». ولأن أوروبان معروف بسياسته اليمينية المتطرفة ورفضه التعاضد الإنساني، ما كان مفاجئًا للراصد رفضه الفج تقديم يد الإنسانية التي تضع البلسم على جراح اللاجئين، لكن ما كان مفاجئًا لكثيرين بالفعل مغالاته ومضيه قدمًا في طريق إثارة النعرة الدينية في أوروبا. إذ أشار أوروبان إلى أن غالبية هؤلاء اللاجئين من غير المسيحيين، أي أنهم يمثلون ثقافة مختلفة في العمق، وهذه مسألة تمس جذور الهوية الأوروبية».
الواضح أن أوروبان قد حاول الترويج لدعواه بالعزف على أوتار أزمة تحلل وتفكك إيماني داخلي تعيشها أوروبا التي صرّح ريجيس دوبريه، أحد كبار مثقّفيها ومناضليها، أخيرًا في كتابه «الأنوار التي لا تعمي» بالقول: «لا نريد أصولية قاتلة ولا علمانية مسطّحة تستبعد الدين كليًا من الحياة». هنا كان أوروبان يثير قلق الأوروبيين وهواجسهم بحجة أن الثقافة الأوروبية المسيحية بالكاد قادرة على الحفاظ على القيم المسيحية لأوروبا.
والمؤكد أنه على الرغم من أن دونالد توسك، رئيس المجلس الأوروبي، قد أحار جوابًا شديد الموضوعية على أوروبان في الجلسة ذاتها حين ردّ عليه بالقول: «أن يكون المرء مسيحيًا يعني أنه مستعد للتضامن دون النظر إلى عرق أو دين». لكن جذور المسألة تتجاوز ما قاله أوروبان، إلى دائرة القلق من اليمين الأوروبي المتطرّف، الكاره للأجانب والرافض لاندماج العرب والمسلمين في مجتمعات أوروبا، والأمثلة هنا أكبر من أن نسردها في هذه الرؤية السريعة، لكن يتحتّم علينا الإشارة إلى البعض منها وتحليل مواقفها، ليتبيّن المرء إلى أين تمضى أوروبا؟
خذ على سبيل المثال إريك زمّور، الكاتب والإذاعي الفرنسي، صاحب الكتاب الشهير «الانتحار الفرنسي» Le Suicide Francais، الذي ذهب البعض إلى القول إنه يحاول تقليد صامويل هنتنغتون في طرحه التصادمي غير الخلاق عن «صراع الحضارات». زمّور - وهو من أصل يهودي أمازيغي جزائري – صبّ في حوار له مع صحيفة «كورييري ديلا سيرا» الإيطالية جام رفضه على «وجود المسلمين في أوروبا»، فعنده أن «مسلمي فرنسا على سبيل المثال لهم قانونهم الخاص، وهو القرآن، وهم يعيشون فيما بينهم في الضواحي بعدما اضطر الفرنسيين للرحيل».
ولا تتوقّف مطالبات زمّور عند هذا الحد، بل تصل إلى مستوى غير مقبول عقلاً أو عدلاً، إذ يؤيّد فكرة طرد خمسة ملايين مسلم فرنسي. وهذا أمرٌ لا يدهشه، «فمن قبل، رحل مليون مستوطن عن الجزائر عام 1940 وعادوا إلى فرنسا»، ثم يتخذّ من عودة الألمان الشرقيين إلى الجانب الغربي من البلاد مثالاً على إمكانية ترحيل هؤلاء المسلمين من فرنسا.
مثال آخر لا يزال يلعب على المتناقضات بأكثر من عزفه على الأوتار، يتمثّل بالسياسي اليميني الهولندي خيرت فيلدرز، المعروف بتعصبه وكراهيته، وهو لا يرى في العرب والمسلمين سوى جماعة من المتطرفين المتعصبين، ويعمل على ترويج هذه الصورة المشوهة لا في أوروبا فحسب، بل عبر المحيط الأطلسي، في القارة الأميركية أيضًا.
في أوائل مايو (أيار) المنصرم علا صوت فيلدرز الموجّه إلى الولايات المتحدة الأميركية، محذّرًا من أن الهجرة إلى أميركا من قِبل مواطني الدول الإسلامية، تطوّر يهدّد أمنها، وواضعًا مقاربة «مغلوطة» مفادها: «ما يحصل في أوروبا اليوم، ستجري به المقادير عندكم في الغد». وانطلق من هذه النقطة ليشبه بين الهجرة من العالم الإسلامي و«حصان طروادة»، مدعيًا أن من خلال هذه الهجرة سيظهر المسلمون الإرهابيون بين ظهراني الأميركيين المتحدرين من أصول أوروبية، مشيرًا إلى أن ما حصل في أوروبا جعل البعض يتساءل هل هذه هجرة لاجئين أم هجرة إرهابيين ستعود علينا بالوبال؟
هل وباء العنصرية والتطرّف اليميني الأوروبي، الذي يحاول في بعض لقطاته وصوره أن يتستر بعباءة جذور أوروبا المسيحية يقف عند حدود فرنسا وهولندا فقط.. أم أنه كالجرثومة الخبيثة ينتشر في الجسد الأوروبي كله؟
لعل من تابع الانتخابات البرلمانية والتشريعية في بعض دول أوروبا خلال السنوات القليلة الماضية يدرك أن الأزمة بالفعل حقيقية. وأنها لم تضرب أطنابها في الدول المطلة على حوض البحر الأبيض المتوسط وحدها، بل تخطتها حتى إلى عدد من الدول الإسكندنافية العريقة في ديمقراطيتها وتسامحها كذلك. ولكن المفارقة هنا أن أول من سيدفع ثمن نزعة «رفض الآخر» هم الأوروبيون أنفسهم، ما يعني أن مستقبل الاتحاد الأوروبي بذاته وفكرته الأصلية باتا في خطر.
على سبيل المثال، إبان الانتخابات الأخيرة التي أجريت في فنلندا حصد حزب «الفنلنديون الحقيقيون» عددًا وافرًا من مقاعد البرلمان والحكومة، والمثير أن شعار حملة هذا الحزب ذي الميول الانعزالية، بل العنصرية، كان «نحن لا نفهم لماذا ندفع (المال) للبرتغال»، وفعلاً حصد الحزب اليميني هذا نحو 20 في المائة من الأصوات. أما في السويد فقد شق الحزب اليميني الشعبوي المدعو «السويديون الديمقراطيون» طريقه للبرلمان للمرة الأولى في تاريخ البلاد البعيدة عن ظاهرة «كراهية الأجانب / أو التخوف منهم» (الزينوفوبيا). وفي النرويج يبقى الهجوم الإرهابي الدامي الذي نفذه المجرم إندرياس بريفيك بدوافع يمينية عنصرية متطرفة في صيف 2011، شاهدًا على التطور الخطير للأصولية العلمانية الأوروبية.
حتى بلجيكا، ذلك البلد المتميز والتعددي والحضاري الراقي، لم توفّره موجات صعود اليمين المتطرف، إذ غدا حزب «فلامس بيلانغ» (الخارج من رحم جماعة «فلامس بلوك») اليميني الشعبوي والعنصري خلال السنوات العشرين الماضية أحد أقوى الأحزاب السياسية الثلاثة التي تسيطر على المشهد السياسي في بلجيكا.
إن المقطوع به أن الحديث عمّن يمكن أن نطلق عليهم تسمية «المتطرّفون الجدد» في أوروبا بحاجة إلى قراءة مطوّلة ومعمّقة، لا سيما من جهة البحث عن الأسباب الحقيقية وراء هذا التنامي للتطرف. على أن السؤال المهم جدًا الآن هو «هل أضحت أوروبا عن بكرة أبيها موطن للكراهية والظلامية ورفض الغريب اللاجئ المتألم؟
يبدو أن المشهد ليس كذلك بالمرة، وثمة كلام كثير يقال في هذا الشأن، مبتدأه، الرد على الزعيم المجري أوروبان وأنداده، ومن المنطلق ذاته الذي يتحدثون به ويحاججون من خلاله. ذلك أنه إذا كانت جذور أوروبا مسيحية بالفعل، فهذا يقتضي عودة إلى شريعة السيد المسيح (عيسى بن مريم - ع -)، وهي باختصار غير مخل، يمكن إيجازها فيما ورد على لسان المسيح نفسه في إنجيل القديس متى - الإصحاح الخامس والعشرين، الآية الخامسة والثلاثين: «لأني جعت فأطعمتموني، عطشت فسقيتموني، كنت غريبًا فأويتموني»... هل في أوروبا من فهم هذه الروح الحقيقية من المسؤولين العلمانيين، قبل رجال الدين أو الأكليروس والمؤسسات الدينية الكبرى في أوروبا؟
ذلك كذلك بالفعل، وفي المقدمة من الأمثلة المليئة قلوبها بالمحبة وضمائرها بالمصالحة، يوها سيبيلا، رئيس وزراء فنلندا، الذي عرض منزله الخاص لاستضافة طالبي اللجوء، ودعا الشعب الفنلندي إلى التضامن مع الباحثين عن أوطان بديلة لتلك التي دمرتها الحروب. فلقد نقلت قناة محلية تصريحات له قال فيها إنه سيفتح أبواب منزله لاستضافة طالبي اللجوء بدءًا من العام الجديد، مبديًا أمله في أن تكون فنلندا بلدًا يحتذى به من قبل كل الفنلنديين، لإظهار التضامن مع اللاجئين المتجهين إلى أوروبا.
ويتوقف المرء كذلك عند موقف المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من أزمة المهاجرين، ولا يغيب عن البال عند تقييم المشهد أن ميركل هي ابنة قس بروتستانتي لوثري، بمعنى أنها عميقة الجذور في المسيحية. ومبكرًا، قبل أزمة اللاجئين المظلومين والمعذبين في البر والبحر، تحدثت المستشارة الألمانية عن الإسلام في ألمانيا، وبدا من حديثها أنها تبعد كثيرًا عن روح الفراق والتنازع. وكان من أبرز أقوالها وأجملها «أننا لا نعاني من وفرة في الإسلام، بل نعاني من قلة في المسيحية»، وهذا اعتراف حقيقي في أوروبا بقضها وقضيضها عليها أن تتوقف أمامه اليوم، وتتأمله مليًا. فالخوف لا يجب أن يكون من الإسلام - «الغازي» كما يحلو لبعض العنصريين تصويره - بل من حالة في أوروبا عامة وألمانيا خاصة تقول عنها ميركل إنها «لا توجد فيها نقاشات جدية حول الرؤية المسيحية للإنسانية».
أيضًا، رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس، الوجه المشرق لفرنسا، ذات الجذور الكاثوليكية والهوية العلمانية، دافع عن الطابع «العالمي» لحق اللجوء الذي يمنع اختيار اللاجئين على أساس انتمائهم الديني، وقد جاء موقفه ردًا على رئيس بلدتين فرنسيتين أبديا استعدادها لاستضافة لاجئين شرط أن يكونوا مسيحيين.
وأخيرًا، ولكن ليس آخرًا، الموقف الذي يستحق الاحترام والتقدير والذي يعبر عن رأي المؤسسة الدينية الرسمية لأوروبا والعالم المسيحي برمته، هو موقف بابا الفاتيكان فرنسيس الأول، الذي أعطى إشكالية اللاجئين والمهاجرين نصيبًا وافرًا من تصريحاته ووثائقه الرسولية، ناهيك من زياراته لجزيرة لامبيدوسا الصغيرة قِبلة المهاجرين لإيطاليا. إذا وصف البابا فرنسيس كارثة المهاجرين القتلى «جريمة تسئ إلى الإنسانية»، وطالب المسؤولين الأوروبيين، بألاّ يتعاملوا مع هؤلاء من «البشر المساكين» كما يتعاملون مع البضائع والحقائب.
وفي أوائل سبتمبر (أيلول) الحالي، أطلق البابا صيحة ودعوة تعبر عن الجذور الإيمانية والإنسانية، أينما وجد الإنسان، لا في أوروبا فقط، جوهرها رفض التشنج إزاء اللاجئين المسلمين والتخوف من التغيرات الديموغرافية التي يمكن أن يحدثوها في الجسد الأوروبي، كما يدعي العنصريون. وفي هذا السياق دعا أساقفة أوروبا لاستقبال اللاجئين، مشددًا على أنه يتوجب على كل أسقفية وجماعة دينية ودير وملجأ في أوروبا إيواء أسرة واحدة، مضيفًا أنه سيبدأ مع أبرشيته في روما، وتعهد بأن رعيتي الفاتيكان ستستقبلان خلال الأيام المقبلة عائلتين لاجئتين. وفي كلمته اعتبر أن دعوته هذه بمثابة الخلاص من الصمم والأنانية والصمت والتراجع.
هل باتت أوروبا منقسمة على ذاتها بين كراهية وعنصرية أوروبان وفيلدزر في مواجهة مسيحية حقيقية لميركل وفرنسيس؟ ربما غيّرت أو حرّكت صورة الطفل الكردي «إيلان» الغارق على سواحل تركيا، ضمائر الأوروبيين، وربما ألهبت فيهم جذوة المحبة والمغفرة والصفح المرابطة بعيسى بن مريم (ع) مقابل صليبية منحولة عرفها العالم عبر الحروب الاستباقية.
في مطلق الأحوال يمكن القطع بأن أوروبا أمام منعطف حقيقي، فإما يتهدد بناؤها الفكري والروحي إن هي مضت في طريق العنصرية والتطرف، أو تعود مثالاً ناصعًا للتعددية، والاعتراف بالغير، كسمة جوهرية ملازمة لهويتها.
يمكن لأزمة المهاجرين واللاجئين أن تكون فرصة لإنقاذ النموذج الأوروبي وإبقائه نموذجًا عالميًا يحتذى، لأنه يجعل من الاعتراف بالتنوع في مجموعة مشتركة تنظمها مبادئ المساواة سمة إيجابية، ومن هنا يتعين على أوروبا الانعطاف نحو التعددية.
وحسنًا فعل جان كلود يونكر، رئيس المفوضية الأوروبية، عندما حث في خطاب ألقاه أمام البرلمان الأوروبي في مطلع الشهر الحالي، دول الاتحاد الأوروبي إلى تحاشي التمييز بين اللاجئين الذين يودون استقبالهم بناء على ديانتهم أو معتقداتهم، مشددًا على أن لا ديانة أو معتقدًا أو فلسفة حين يتعلق الأمر باللاجئين، بقوله: «نحن لا نميز، وعلينا التصرف بجرأة».
الفيلسوف الفرنسي هنري بينا يعزو رجوع العصبيّات الدينية أو السياسية إلى ظاهرة فقدان الأمل من العولمة الرأسمالية المتوحشة، هادمة الحقوق الاجتماعية والخدمات العمومية التي تخصخص كل شيء، وترى أن هذه التحولات قضاء وقدر. والأمل الآن في أن يكون الأوروبيون قد دخلوا حقًا المعركة الفكرية بين الانفتاح والانغلاق، وبعمق، بعد مأساة اللاجئين التي فتحت عيون قلوبهم على أن المتعصب لا يضع أية مسافة بين كيانه وبين معتقداته.
ختامًا، الحقيقة المؤكدة هي أن الفكر الأوروبي، مهما شهد من معارك، لا يخشى معه المرء انتصارًا طويل الأمد للتطرف، وذلك لوجود «حالة توازن» بين الأصولية والعلمانية. كما أنه يحتوي على الترياق المضاد لهذا الانقسام المانوي الخطير، الذي بشر به جورج بوش الابن في سبتمبر 2001، «من هو معنا ومن هو ضدنا». ذلك أن الفكر الأوروبي قائم على قبول التعددية، لا باعتبارها إرثًا تاريخيًا معيقًا ومعطلاً ينوء المرء بتحمله، بل كمبدأ أساسي للمستقبل وكمؤهلات بناءة وركائز رئيسية في طريق أنسنة الإنسان.