«لهفاه».. مثال ناطق للأصولية اليهودية المتطرفة

تتسارع الأحداث في الأراضي الفلسطينية. وبينما يحاول حاخامات متطرّفون بإصرار منقطع النظير الدخول إلى المسجد الأقصى، وإقامة الشعائر اليهودية فيه إلى حين تحقيق «الحلم الأكبر» ببناء «الهيكل الثالث» وهدم الأقصى، نجد موجة جديدة ومثيرة من العداء الأصولي اليهودي للمسيحية والمسيحيين في القدس وما حولها من مدن. هذه الموجة تسعى حقًا إلى إحراق الكنائس وتهجير المسيحيين أو قتلهم، والتنكيل بهم كأضعف الإيمان، حتى تغدو القدس وسائر ربوع إسرائيل دولة يهودية نقية، لا يعيش فيها «الغوييم» - أو الأغيار، أي غير اليهود - بل «شعب الله المختار» وحده وليذهب الآخرون إلى الجحيم.
إلى أين تمضي الأصولية اليهودية المتطرفة بإسرائيل؟ علامة استفهام ارتفعت عاليًا جدًا في الأيام الأخيرة، لا سيما، بعد ظهور حركات مريبة ومثيرة ومُغرقة في العنف والدم مثل منظمة «لهفاه» باتت تكرّس القتل والحرق والتدمير باسم الله زورًا، والله بريء من هذه جميعها.
من.. وما هي «لهفاه» الآتية من رحم الأصولية اليهودية؟ ولماذا صارت حديث الساعة في هذه الآونة البائسة؟
قبل الجواب قد يتحتّم علينا الإشارة - ولو في عجالة - إلى النظرة اليهودية الأصولية للمسيحية، وفي الحق إنها نظرة ازدراء واحتقار شديدين فالسيد المسيح عيسى بن مريم (ع) بالنسبة لهم هو «المشنوق ابن النجار»، وهو - وحاشا لله - ثمرة خطيئة بين جندي روماني، ومريم بنت يواقيم (التي وصفها القرآن الكريم بأنها أطهر نساء العالمين).
ولعل الذاكرة القريبة للعدوان الإسرائيلي في عام 1967 تحمل مرارة عريضة للأفعال الإجرامية التي ارتكبها غلاة المتدينين داخل الجيش الإسرائيلي تجاه الكنائس والأديرة في القدس الشرقية بعد سقوطها، لا سيما تدنيس المقدسات الدينية وانتهاك الخصوصيات، ومحاولة محو ذكر المسيحية من فلسطين، كما أن التقليد هناك - التقليد الديني اليهودي - يدعو أي يهودي للبصق على أي صليب يراه من حوله، وإن نصحت حكومات إسرائيل لاحقًا، بالتوقف عن هذا، كي لا يهرب السيّاح وزوّار الأرض المقدسة من البلاد، والحديث هنا يحتاج إلى قراءات معمقة ومطولة قائمة بذاتها.
منذ فترة غير قصيرة عادت الكتابات العدوانية التي تحث على العنف القاتل للانتشار على جدران الكنائس والمساجد وعلى كل بيوت العرب. ولقد جرى ذلك بنوع خاص قبل الزيارة التي قام بها بابا الفاتيكان فرنسيس الأول إلى الأرض المقدسة، وبدا أنه من المألوف أن تقرأ عبارات من نوعية «المسيح الخردة»، و«الموت للعرب»، على جدران كنيسة القديس جاورجيوس وكنائس وأديرة أخرى، إلى أن كان الثامن عشر من يونيو (حزيران) المنصرم عندما اشتعلت النيران في كنيسة الطابغة (كفرناحوم) المعروفة بكنيسة «السمك والخبز»، ذات الأهمية الدينية والتاريخية الكبرى، والتي تعد اليوم واحدة من أهم المعالم المسيحية في فلسطين.. من يقف وراء هذه الهجمات وبأي آلية فكرية يجري تبرير المشهد الدموي هذا؟
بداية جرى الحديث عن مجموعة تدعى «الثمن الواجب دفعه» المكونة من مستوطنين راديكاليين ونشطاء يهود من اليمين المتطرف، ولم تكن حادثة الطابغة هي الأولى من نوعها، بل ارتكب هؤلاء المتطرفون منذ عام 2008، مئات الاعتداءات. وغالبًا ما كانت تحمل توقيع «الثمن الواجب دفعه» بالعبرية في إسرائيل (أراضي فلسطين 1948) والضفة الغربية.

تبرير التطرف والعنف

أما تبرير ما يجري فهو «مربط الفرس» كما يقال. إذ تبرّر هذه الجماعة وغيرها من الجماعات اليمينية اليهودية مثل تلك الأفعال، بأنها حتمية ولا بد لها من أن تجد طريقها على الأرض حتى تتخلص الدولة اليهودية من «دور العبادة الوثنية» القائمة فيها. وتاليًا، تدمير الدولة الإسرائيلية العلمانية، والتأهب لاحقًا لإعلان الشريعة اليهودية الموسوية دستورًا وقانون حكم في ربوع البلاد عوضًا عن القوانين الوضعية الحاكمة الآن.
وبعيدًا بعض الشيء عن سياقات الأحداث في الداخل الإسرائيلي، وعودةً إلى العمق الأصولي اليهودي نتساءل: ماذا عن هذه الأصولية اليهودية؟ وإلى أين تقود إسرائيل؟ وهل يدفع الإسرائيليون الآن وسيدفعون في المستقبل ثمنًا باهظًا لسماحهم باستشراء هذا الغول والوحش الفتاك؟
المؤكد بدايةً، أن الأصولية اليهودية المتطرفة لا تختلف كثيرًا عن باقي الأصوليات الدينية المتطرفة، فهي تعتبر أن تعاليم التوراة والتلمود، وكذلك شروح فقهاء الشريعة الموسوية تنطوي على إجابات صائبة لكل قضايا العصر (من وجهة نظرهم). أي أنها تعتبر أن حركة التاريخ توقّفت عند لحظة معينة بعينها، وأن أحداث العالم المعاصر ليست إلا امتدادًا للأحداث التي وقعت في الأزمنة السحيقة.
هل من تطبيق عملي لهذه الرؤى؟ في واقع الأمر قد تكون دراسات الكاتب الإسرائيلي موشيه إيشون المنشورة على صفحات صحيفة «هاتسوفيه» الناطقة بلسان الاتجاهات الدينية المتشددة في إسرائيل، خير دليل على طبيعة الاتجاهات الأصولية، في إسرائيل. إذ رأى هذا الكاتب أن الموقف الذي تبنّته مصر، على سبيل المثال، تجاه قضية نزع الأسلحة النووية من جميع دول المنطقة بما فيها إسرائيل، يعد امتدادًا طبيعيًا للنزاع التاريخي الذي تفجّر في حينه بين موسى وفرعون مصر.
ثمة خطورة قاتلة لمثل هذا التنظير الأصولي، والشاهد أن دراسة موشيه إيشون هذه، المعنونة بـ«الجدل وجذوره» كانت مقدمة لدراسة أخرى للكاتب نفسه تحمل اسم «إسحق رابين والعهد القديم»، ولقد نشرها في صحيفة «هاتسوفيه» عينها، عقب التوقيع على «اتفاقيات أوسلو». وجاء في تلك الدراسة قول إيشون: «لقد ذكر السيد رابين أن العهد القديم ليس بسفر لتسجيل ملكية الأراضي، وأن القداسة لا ترتبط بالأرض بقدر ارتباطها بالقيم. إن رابين تنازل بمنتهى السهولة عن أرض الوطن. وكان حديثه مليئًا بكل ما يدلّ على تنصّله من القيم الأدبية والأبدية لشعب إسرائيل التي تعد (أرض إسرائيل) جزءًا لا يتجزأ من ذاته. لقد كتب الفقيه اليهودي سعديا غاؤون (الذي عاش في ظل الخلافة العربية) أن أمتنا ليست بأمة إلا بسبب تمسكها بشرائعها. إن كل من يتنصل من تعاليم التوراة التي نزلت على موسى يتنصل من شعب إسرائيل ومن أرض إسرائيل. إن شعب إسرائيل يحرص منذ عصور بالغة القدم على تأكيد علاقته الأبدية بـ(أرض إسرائيل)، ويشعر دائمًا أن أرض إسرائيل جزء لا يتجزأ من واقعه.. إذ جاء في سفر التكوين: (سأعطي لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك، كل أرض كنعان، ملكًا أبديًا)».
كلام مثل هذا يحمل نكهة «تكفيرية» واضحة، وربما كانت هذه السطور المبرّر الفقهي والتشريعي والتصريح الأصولي العلني الذي استند إليه قاتل إسحق رابين لاحقًا.
لا يبدو هذا فقط، ففي الأصل كان الوازع الأكبر لانتشار أفكار تطهير إسرائيل من مسيحييها ومسلميها على السواء، عبر تمكين المستوطنين من اقتطاع أراضي الفلسطينيين، كما ذهب إلى ذلك الرئيس الفلسطيني محمود عباس، عندما اعتبر هجمة الطابغة والاعتداء القاتل على عائلة الدوابشة «نتيجة مباشرة لسياسة الاستيطان التي تقودها إسرائيل»، والتي أدت إلى إسكان 400 ألف مستوطن في الضفة الغربية و200 ألف آخرين في القدس الشرقية المحتلة التي ضمتها إلى إسرائيل.

أجيال شابة معبأة بالعداء للآخرين

عودةً إلى منظمة «لهفاه»، ففي اجتماع مغلق لمعهد ديني يهودي عقد الأسبوع الأول من يوليو (تموز) المنصرم في القدس المحتلة، وجّه الصحافي الإسرائيلي بيني رابينوفيتش سؤالاً حساسًا جدًا لرئيس المنظمة المتطرفة بنتسي غوبشطاين هو: هل يجب إحراق الكنائس في أرض إسرائيل.. نعم أم لا؟ فرد غوبشطاين بصراحة: «بالتأكيد، أؤيد ذلك»!
مثل هذا الكلام كارثي، ولكن هل يمثله وحده؟ قطعًا الهول الأعظم يتمثل في تسرّب هذه الأفكار المدمرة - حتى لإسرائيل نفسها - إلى الأجيال الشابة التي يتكاثر عددها والتي تسير خلف هذا الرجل ومنظمته. ذلك أن جميع هؤلاء من الفتية المراهقين، الذين يرافقهم عادةً شخص أو اثنان من «البالغين المسؤولين»، - أي أن أعمارهم تتراوح بين 13 و21 سنة - البعض منهم كان من «الحريديم» (اليهود التوراتيون المتشددون) في الماضي. وجزءٌ آخر متسرّب من إطارات مختلفة، وكثيرون منهم يعيشون في أحياء تقع على أطراف القدس تشهد احتكاكًا كبيرًا مع القدس الشرقية.
هل «لهفاه» مقدمة جديدة لعودة الهاغاناه والإرغون من جديد؟
كتبت جريدة «يديعوت آحرونوت» الصادرة يوم11 مارس (آذار) 1996 صبيحة القبض على الحاخام إسحق غينزبرغ بتهمة إقامة وليمة عامة في ذكرى المتطرف القاتل باروخ غولدشتاين. وغولدشتاين هذا هو الذي فتح النار في فبراير (شباط) 1994 على المصلين المسلمين في ساحة الأنبياء (الحرم الإبراهيمي) بمدينة الخليل فقتل 29 منهم قبل أن يقتل نفسه.
ولقد كتبت الجريدة تقول، واصفة الدور الذي يقوم به غينزبرغ في إذكاء نار الأصولية اليهودية المدمّرة بما معناه أن المعروف عن الحاخام غينزبرغ أنه من أشد الحاخامات اليمينيين تعصبًّا. وفي الواقع فإن هذا اليهودي الأميركي الحاصل على عدة شهادات من جامعة يشيفا في نيويورك يعرف طلبته، وفهمه الخاص جدًا للنصوص «إن الدم الإسرائيلي هو المفضل عند الله. إنه أكثر احمرارًا من دم الآخرين»، كما يقول. وهو يدعو إلى العنف «لأنه من دون الانتقام يسقط الإنسان في هوة المرارة واللا تقوى».
أيضًا، يشرح الكاتب الفرنسي إيمانويل هيمان في كتابه عن الأصولية اليهودية، قائلا إن الأستاذ ذا اللغة المتفجرة أنشأ مدرسته التلمودية في مدينة شكيم – أي مدينة نابلس – وصباح كل يوم تتوجه حفنة من الطلبة إلى هذا المكان المبجل، حيث تنقلهم سيارة مصفّحة تابعة للجيش الإسرائيلي وتعيدهم في المساء، ويفتح لهم الباب جندي يحمل بندقية كلاشنيكوف على كتفه، بينما يردد الشبان اليهود صلاة بالعبرية تتكرّر فيها كثيرًا عبارة «يوسف حي». ويشعر هؤلاء المتعصبون المتحصنون خلف الأسوار العالية في قلب «الأراضي» أنهم طليعة يهودية تعيد الارتباط مع تاريخها القديم. ويؤكد يهوذا، أحد طلبة المدرسة: «نحن هنا بصفتنا الممثلة للشعب بكل أجياله الماضية والمستقبلة»، كما صرح لمجلة «أوفير» الشهرية للمتكلمين بالفرنسية في إسرائيل، وحسب تعاليم الحاخام في أبريل (نيسان) 1996.
الخطر على دور العبادة الإسلامية والمسيحية
هناك الآن سؤال مطروح بإلحاح، هو: هل كنائس إسرائيل ومساجدها اليوم في مأزق وجودي؟
من دون شك، إسرائيل كدولة تتحمّل تبعات واستحقاقات هذا المشهد العنصري الدموي. وهو ما حدا بكوي مايكل، الخبير القديم في معهد دراسات الأمن القومي التي هي المؤسسة البحثية التابعة لجامعة تل أبيب، والذي عمل ضابط استخبارات رفيع المستوى في الضفة الغربية لأكثر من عشرين سنة، لأن يقول: «لم يكن هناك تقدير دقيق لضخامة التهديد». ويضيف «تنبع الصعوبات في التصدي للإرهاب اليهودي من خلال أربعة مصادر مترابطة: النهج العام إزاء التهديد، وممارسة جمع المعلومات الاستخباراتية، والبنية التحتية القانونية، والجو العام في الدولة». فهل إسرائيل التي تعلن عن نفسها كمجتمع ديمقراطي دائمًا وأبدًا قد باتت مجتمعًا في حالة حرب على حريته وديمقراطيته من جراء الإرهاب اليهودي الذي يود العودة إلى زمن شريعة موسى في القرن الحادي والعشرين؟
من ناحية أخرى، ثمة مفارقة كبرى ومثيرة يثيرها الكاتب والأكاديمي الإسرائيلي أفيعاد كلاينبرغ في صحيفة «يديعوت أحرونوت» الصادرة بتاريخ 13 أغسطس (آب) الماضي، حين يشير إلى أن هناك تغيرًا خطيرًا في معاملة الأغيار - أي غير اليهود - في إسرائيل بشكل عام، والمسيحيين بشكل خاص، ويؤكد على أن كل القادة الدينيين المتشددين في دولة إسرائيل عرّفوا ويعرّفون المسيحية على أنها «عمل أجنبي». ومن هذه الناحية فإن مكانتها الفقهية هناك أسوأ من مكانة الإسلام..
ما موقف الغرب من هذا التطرف؟
يبقى كلام كثير، لكن الأسوأ يتبدى في حالة الصمت المخجل والمخزي للدوائر السياسية والدينية الغربية، التي يخيل للبعض أنها «حامية حمى المسيحية». لكن الظاهر أنه لم تصل إلى أسماع هؤلاء شكاوى واحتجاجات القيادات الكنسية المسيحية المشرقية، ولا أعاروا اهتماما لنداءات ممثل حاضرة الفاتيكان، وهذا في الوقت الذي ينددون بـ«الإرهاب الإسلامي» صباح مساء كل يوم.
إنهم يملأون الدنيا صياحًا بينما يتناسون التنديد بتصريحات «لهفاه» وفعلاتها المستنكرة، التي تفاقم الحقد والعنف بين الناس، وتهدد أماكن العبادة التي تأخذ الآن حصتها من أعمال الشغب.
هذا الموقف المتخاذل من القيادات المسيحية في أوروبا يقرأ على أساس أنه نتيجة طبيعية لعقود طوال من العلمانية الجافة المسطّحة التي أمسكت بتلابيب «القارة العجوز» بعد الحرب العالمية الثانية، ولم يقدر لها الفكاك من براثنها حتى الساعة، وفي هذا – إذا صح التعبير – تطرّف أصولي علماني.
أما تبرير، أو بمعنى أدق، فهم المشهد في الولايات المتحدة الأميركية فعجيب للغاية. إذ يبدو أن الاتجاهات المسيحية الأصولية المساندة لدولة إسرائيل في أميركا تصر على اعتبار إسرائيل، بما في ذلك متطرفوها من التوراتيين، مظلومة. ومن ثم باتت تنظر إلى ما تبقى من مسيحيي أرض فلسطين العرب نفس نظرتها إلى المسلمين هناك «بوصفهم مخربين». كذلك تلوح في الأفق ملامح اتفاق على تهجير مسيحيي الشرق وفلسطين في المقدمة، لتنضح إسرائيل في يهوديتها التي تسعى إليها «لهفاه» وأخواتها، . وفي هذا دون ريب تطرف أصولي ديني أميركي..
في زمن مذبحة صابرا وشاتيلا التي تعرض لها الفلسطينيون عام 1982 كتب الحاخام إليعازر فيلدمان رئيس مدرسة «نير» المتخصّصة في الدراسات التلمودية والواقعة في مستوطنة «كيريات أربع» في أطراف الخليل يقول: «إن الحروب أمر طبيعي ومتوقع، وإذا لم تكن هذه الحروب قد كللت بالنجاح، فهي جزء من عملية العودة إلى أرض الميعاد، لا يمكن استكمال عملية العودة للأرض بأي وسيلة سوى الحرب»..
مختصر الكلام.. متطرفو إسرائيل يفضلون العيش على حد سكين الأصولية القاتلة.